الحُسنُ والقُبحُ هلْ هُما ذاتِيَّانِ أو شَرعِيَّانِ ؟!!
Al Zainabya: السَّلامُ عليكُم .. أَطلُبُ مِنْ مَركزِ الرَّصدِ العَقائِديّ معلُوماتٍ عَنْ (الحَسنْ والقُبحِ)، هلْ هُما مِنْ ذاتِيَّاتِ العَقلِ ؟
الأَخُ المُحتَرَمُ:
السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وَبركاتُهُ:-
مِمَّا جَرَى النِّزاعُ فِيهِ بينَ الأَشاعِرَةِ والعَدلِيَّةِ (الإِمامِيَّةِ والمُعتَزِلةِ) هُوَ مَسألةُ الحُسْنِ والقُبْحِ، فقالتِ الأَشاعِرةُ أّنَّ الحُسنَ والقُبحَ هُما أَمرانِ شَّرعِيَّانِ، فَالُحُسنُ هوَ مَا حَسَّنَهُ الشَّارِعُ والقَبِيحُ مَا قّبَّحَهُ الشَّارِعُ، فَلوْ أَدخلَ اللهُ(عَزَّ وَجَلَّ) نَبِيَّاً مِنَ الأَنبياءِ النَّارَ، وَهوَ لَمْ يَعْصِهِ طَرْفَةَ عينٍ أَبداً، فهَذا الفِعلُ مِنْهُ حَسَنٌ، أو اَدخَلَ جَباراً قاتِلاً سَفَّاكاً لِلدماءِ الجَنَّةَ فهذا الفِعلُ لا قَبْحَ فِيهِ وهوَ حَسَنٌ، فلا يُوجَدُ إِدراكٌ ذاتيّ لِحُسْنِ الأَفعَالِ وقُبْحِهَا، بَلِ الحَسَنُ هوَ ما حَسَّنَةُ الشَّارِعُ والقبِيحُ مَا قبَحَهُ الشَّارِعُ. [أُنظُر المَواقِفَ، عَضُدِ الدِّينِ الأَيجيّ، ج3 ص 268].
وفِي قِبَالِ هذا القولِ ذَهَبَ العَدْلِيةُ (الإِمامِيةُ والمُعتَزِلةُ) أَنَّ لِلعقلِ قابِلِيَّةُ إدراكِ حُسْنِ وقُبْحِ الأَفعالِ، بِقَطعِ النَّظرِ عَنِ الشَّارِعِ، وبِلحَاظِ ذلكَ لا يُمكِنُ أنْ يُدخِلُ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) نَبِيَّاً مِنْ أَنبيائِهِ النَّارَ أَو يُدخِلُ سَفَّاكاً قاتِلاً لَمْ يَتُبْ إلى الجَنّةِ؛ لأَنَّ هذا الفِعلَ قبيحٌ، والحكيمُ لا يَصْدِرُ القبيحُ مِنهُ.
والآن تَسألُ: أيٌّ مِنَ الفَريقَينِ على صَوابٍ في هذهِ القّضِيَّة ِ؟!
نقولُ: لِنُطالِعَ شَيئاً مِنْ أَدلَّةِ الفَريقَينِ وَرُدُودَ بَعضِهِما على بَعضٍ.
قالتِ الأَشاعرةُ: لو كانَ الحَسَنُ والقُبْحُ أَمرانِ بديهيَّانِ يُدرِكُهُما العقلُ بِضرُورةِ البَداهةِ لَمَا وَقَعَ التَّفاوتُ بَينَهُما وبَينَ العِلمُ بزيادةِ الكُلِّ على الجُزءِ، والتَّاِلي باطلٌ بالوجدانِ؛ [لِوقوعِ التَّفاوتِ بَينَ العِلمَينِ، وأَنَّ العِلمَ بزيادةِ الكُلِّ على الجُزءِ أَوضَحُ وأَبينُ مِنَ التَّحسينِ والتَّقبِيحِ]، فالمُقَدّمُ مثلَهُ.
فَرَدَّ عليهِمُ العّدليةُ (وَنُشِيرُ هنا إلى جَوابِ الشَّيخُ الخَواجةِ الطُّوسيّ قُدِّسَ سِرَّهُ أَوَّلاً): نَمنَعُ مِنَ المُلازمَةِ المُدْعاةِ فِي هذا الكلامُ؛ فإِنَّ العُلومَ الضَّرُوريَّةَ قدْ تتفاوتُ فِي التَّصوُّراتِ.
توضيحُ ذلكَ: إِنَّنا نجدُ مثلَ القضايا اليَقينيًّةِ السِّتِّ: الأوًّليَّاتِ، والمُشاهداتِ، والتَّجربيَّاتِ، والحَدسيَّات، والمُتواتراتِ، والفِطريَّاتِ، وهي مِنَ البديهيَّاتِ، يُوجَدُ تفاوتٌ بَينَ أَقسامِها، فَأينَ قولُنا: الكُلُّ أَعظمُ مِنَ الجُزءِ، مِنْ قولِنا: نُورُ القَمَرِ مُستَفادٌ مِنَ الشَّمسِ؟ فالأَوَّلُ مِنَ الأوَّليَّاتِ، والثَّانِي مِنَ الحَدسيَّاتِ، وبذلكَ يَظهرُ أَنَّ وُجودَ التَّفاوتِ لا يُضرُّ بالبداهةِ. [أُنظُر: كَشْفَ المُرادُ في شَرحِ تَجريدِ الإِعتِقادِ، شَرْحَ العَلَّامةَ الحِلِّيَّ لكتابِ الشِّيخِ الطُّوسيِّ، ص 329، تَحقيقِ الزنجانيِّ].
وأًيضاً أَجابَ الشِّيخُ المُظفَّر(قُدِسَ سِرَّهُ) في كتابيهِ"المَنطِقِ" و"أُصُولِ الفِقهِ"، بِمْنعِ المُلازمةِ بَينَ طَرفَيِ القضيَّةِ الشَّرطيَّةِ المُدَّعاةُ في كلامِ الأَشاعرةِ؛ لأَنَّ قضيةَ الحُسنِ والقُبحِ هِي مِنَ المشهوراتِ بالمعنى الأَخصِّ، ومِنْ قِسمِ المَحمُوداتِ خاصّةً، والحاكِمُ بِها هوَ العقلُ العَمَليّ، وقضيًّة ُالكُلِّ أَعظمُ مِنَ الجُزءِ هيَ مِنَ الضَّروريَّاتِ الأوّليَّةِ، والحاكِمُ بِها هُو العقلُ النَّظريّ، ويُوجَدُ فَرْقٌ واضحٌ بَينَ المَطْلَبَينِ، فهذا قِياسٌ معَ الفَارق، وكأَنَّهُ ٱخْتَلطَ على القومِ معنى العقلِ الحاكمِ في مِثلِ هذهِ القَضايا فَظنُّوه شيئاً واحِداً، كَمَا أَنَّهُم لَمْ يُفرِّقوا بَينَ المَشهُوراتِ واليَقينيَّاتِ، فحَسَبُوهُما شيئاً واحِداً مَعَ أَنَّهُمَا قِسمَانِ مُتقابِلانِ. [راجِعْ المَنطِقَ لِلمُظفَّرِ، ص 343، وأُصُولَ الفِقهِ أَيضاً، الأَمرَ السَّادسَ مِن مَبحثِ الحُسنِ والقُبحِ].
وفي المُقابلِ رَدَّ العَدليَّةُ على الأَشاعرةِ بجُملةِ أَدلَّةٍ نذكُرُ مِنهَا:
1- لو كانَ الحُسنُ والقبحُ شرعيَّينِ لَمَا حَكَمَ بهِما مَنْ يُنكِرُ الشَّرائعَ مِنْ أَساسٍ، فإِنَّنا نَجِدُ غَيرَ المُنتمِينَ لدينٍ وشريعةٍ - كالمَلاحِدةِ مَثلاً - يَقُولُونَ بِحُسنِ العدلِ وحُسنِ الأَمانةِ وحُسنِ الصِّدقِ وحُسنِ الإِخلاصِ في العملِ ونحوها، ويَرَونَ ضَرورةَ الإِلتزامِ بهَذهِ الأَفعالِ، ويُثَبِّتُونَ ذلكَ في دَساتِيرهِم الوَضعيَّةِ، وفي الوَقتِ نفسِهِ تَراهُم يُقَبِّحُونَ الظُّلمَ والخِيَانةَ والكَذِبَ وعَدَمَ الإِخلاصِ في العملِ ويَرَونَ ضَرورةَ الإِبتِعادِ عنْ هذهِ الأَفعالِ ويُعاقِبونَ عليها.
فَلو كانَ الحُسنُ والقُبحُ مَصدَرَهُما الشَّرعُ فقط دُونَ العقلِ لَمَا قَبّحَ وحَسّنَ هَؤلاءِ هذهِ الأُمورَ وهُم لا يُؤمِنونَ بِشرعٍ ولا يتَّبِعُونَ مِلّةً.
2- إِنكارُ الحُسنِ والقُبحِ العَقليّ معناهُ سَدُّ الطَّريقِ أَمامَ مَعرفةِ الخَالقِ، بلْ سَدُّ الطَّريقِ لِمعرفةِ الشَّرائعِ كلِّها.
بَيانُ ذلكَ: لو كانَ المَدارُ على أَنَّ الحُسنَ والقُبحَ هوَ ما حَسَنَّهُ وقَبَحَّهُ الشَّارِعُ فكيفَ لنا أنْ نُقْنِعَ
غيرَ المؤمنِ بِحُسْنِ البحثِ عَنْ وُجودِ خالقٍ لِهذا الكونِ؛ ليدفعُ عَنْ نفسِهِ الضَّررَ المُحتملَ مِنْ عَدمِ الإِيمانِ بخالقٍ للكونِ، وهُو لم تَثبُتْ عِندهُ شَريعةٌ بعدُ تُخبِرهُ بِحُسْنِ ذلكَ ؟!!
لا طَريقَ لَنا إِلَّا أَنْ نُخاطِبَهُ بِمَداركِهِ وبِمَا يَستَقِلُّ بهِ عقلُهُ مِنَ حُسنِ دفعِ الضَّررِ المُحتملِ وقُبْحِ الوُقوعِ في التَّهلُكةِ، وإِلَّا ٱنْسَدَّ الطَّريقُ أَمامَ كُلِّ النَّاسِ في البَحثِ لِمعرفةِ خالقٍ للكونِ.
وكذلكَ لو كانَ المَدارُ على أَنَّ الحُسنَ والقبحَ ما حَسَّنَهُ وقبَّحَهُ الشَّارعُ فقط لَمَا أَمكَنَ إثباتُ النُّبُوَّاتِ؛ إذْ كيفَ يُمكِنُ إِثباتُ صِدقِ النَّبُوًّاتِ مَعَ ٱحْتمالِ جَرَيانِ المُعجزاتِ مِنْ قِبَلِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) على يَدِ الكَاذبِينَ ولا قُبحَ في ذلكَ [حَسْبَ مُدَّعَى الأَشاعرةِ] ، وبهَذا يَنسدُّ بابُ النُّبُوَّاتِ مِنْ أَساسٍ؛ إذْ لا يُمكِنُ أَنْ يُميِّزُ النَّاسُ بَينَ صَاحبِ النُّبُوَّة ِ فِعلاً مِنَ الكاذبِ فِيها؛ لأَنَّ المُعجزةَ يُمكِنُ أَنْ يُجريَهَا اللهُ سبحانهُ على يَدِ الكَاذبِ أَيضاً، ولا قُبحَ في ذلكَ، وبهَذا يَنسدُّ بابُ الشَّرائعِ كُلِّها ولا يُمكِنُ أَنْ يُصدِّقَ الإِنسانُ بأَيِّ شريعةٍ في الأَرضِ تأتيهِ مِنْ أَيَّ جِهةٍ كانت !! وهذا مُخالِفٌ لِلعقلِ والنَّقلِ معاً، فالصَّحيحُ هُو أَنَّ الحُسنَ والقُبحَ أَمرانِ عقليَّانِ يُدرِكُهُمَا العقلُ بمَدارِكِهِ الخَّاصَّةِ مُستَقلَّاً عنِ الشَّارعِ.
ودُمتُم سالِمِينَ
اترك تعليق