هلِ الواقعُ المتخلِّفُ للمسلمينَ بسببِ الإسلامِ؟

يقولُ الملحدونَ: إنَّ بعضَ المؤمنينَ باللهِ منَ المسيحيِّينَ واليهودِ والمسلمينَ والهندوسِ والبوذيينَ تعساءُ، بينمَا بعضُ الملحدينَ سعداءُ، ممَّا يعنِي أنّهُ لا توجدُ علاقةٌ بينَ السّعادةِ والإيمانِ.

: اللجنة العلمية

يَنطلِقُ هذا الكلامُ مِن مقارنةٍ واقعيّةٍ لحالِ المُجتمعاتِ الشّرقيّةِ والمُجتمعاتِ الغربيّةِ والبَونِ الشّاسعِ فِي نَمَطِ الحياةِ بينهُما، وقَد شرحنَا في ردٍّ سابقٍ معنَى السّعادةِ وأشرنَا للفرقِ الكبيرِ بينَ معنَاها عِندَ المؤمنِ ومعناهَا عندَ الملحدِ، إلّا أنَّ ذلكَ لا يَعفينَا منَ الوقوفِ على إشكاليّةِ التّخلّفِ في المُجتمعاتِ المؤمنةِ والاِعترافِ بهذهِ الظّاهرةِ السّلبيّةِ، ولا يكفِي أن نقولَ إنَّ السّعادةَ تجربةٌ روحيّةٌ لا تتوقّفُ على المظاهرِ الماديّةِ، وإنّمَا يجبُ معالجةُ أسبابِ التّخلّفِ برؤيةٍ موضوعيّةٍ لنرى إنْ كانَ الإيمانُ مسؤولاً عَن هذا التّخلّفِ أو غيرَ مسؤولٍ، وما يهمّنَا هنا هوَ الإسلامُ كدينٍ نؤمنُ بهِ ونلتزمُ بتعاليمهِ.

فِي البدءِ لا بدَّ منَ التّأكيدِ على أنّ الإيمانَ باللهِ لا يُغنِي الإنسانَ عنِ السّعيِّ الحَثيثِ في إعمارِ الحياةِ، وإذا تخلّى المؤمنُ عَن هذهِ المهمّةِ لا يَعني أنَّ الإيمانَ هوَ المسؤولُ طالَما لم يأمرْ هوَ بذلكَ، فكلُّ المظاهرِ السّلبيّةِ في حياةِ المؤمنينَ تمثّلُ مظهراً مِن مظاهرِ الإبتعادِ عنِ الدّينِ والتّخلّي عَن تَوصياتهِ الحياتيّةِ، فالفقرُ والمرضُ والحاجةُ والتّخلّفُ كلّهَا مظاهرُ مرفوضةٌ دينيّاً، والإنسانُ بجهلهِ هوَ المسؤولُ الوحيدُ عنِ الوضعِ المُزري الذي يعيشهُ، ومِن هنا لا نسلّمُ للإلحادِ بكونِ الإسلامِ هوَ المسؤولَ عنِ الواقعِ المتخلّفِ للإنسانِ المسلمِ. 

وما تشهدهُ السّاحةُ اليومَ مِن ظهورِ بعضِ الأصواتِ التي تُنادي بالإلحادِ أو الكفرِ بالأديانِ، أو على الأقلّ إهمالِ الدّينِ وعدمِ الاِلتفاتِ إلى تعاليمهِ، يُعَدُّ نِتاجاً للتّديّنِ الشّكليِّ الذي أصبحَ مُعبِّراً عنِ الدّينِ، فالشّواهدُ التي تَستحضرُهَا التّيّاراتُ اللّادينيّةُ لتخلّفِ المسلمينَ كثيرةٌ، إلّا أنّهَا إعتبرتْ أنَّ الثّقافةَ الإسلاميّةَ المُهيمنةَ على العقلِ المسلمِ هيَ التي ساهمتْ في تكريسِ هذهِ الحالةِ، فشنَّتْ حربهَا على الإسلامِ كدينٍ وبشّرتْ بالشّيوعيّةِ حيناً وبالعلمانيّةِ واللّيبراليّةِ حيناً آخرَ، أو غيرِها منَ النّظمِ الإجتماعيّةِ والسّياسيّةِ، وروّجَتْ لكلِّ ذلكَ كَبديلٍ للثّقافةِ الإسلاميّةِ.

في ظنِّي أنَّ البحثَ عَن قيمةٍ للإنسانِ، وفهمَ الدّينِ إرتكازاً على هذهِ القيمةِ هوَ الكفيلُ بفضحِ التّديُّنِ السّلبيِّ في واقعِ المُجتمعاتِ المُسلمةِ، وليسَ كافياً الإعتمادُ على أسلوبِ النّقدِ للتّيّاراتِ اللّادينيّةِ والكشفِ عمَّا تقعُ فيهِ مِنْ تناقضاتٍ، إذا لم يستتبعْ ذلكَ تقديمُ حلٍّ عمليٍّ لِمَا يعانيهِ واقعُ التّديُّنِ مِن سلبيّةٍ، فالاِعترافُ بما فِي الواقعِ مِن سلبيّاتٍ يشكِّلُ حافزاً لإنتاجِ خطابٍ يتبنّى همومَ الإنسانِ وطُموحاتهِ.

 وبالمقدارِ الذي نحمِّلُ فيهِ الوعيَ الدّينيَّ المسؤوليّةَ فِي ظهورِ هذهِ التّيّاراتِ اللّادينيّةِ، نحمِّلُ نفسَ هذهِ التّيّاراتِ مسؤوليّةَ الإنصافِ والبحثِ المَوضوعيّ غيرِ المُتحامِلِ على الإسلامِ، ففِي الكثيرِ مِن كتاباتِ هذا التّوجّهِ نجدهُ يسعَى وبشكلٍ غيرِ موضوعيٍّ على التّركيزِ على هذهِ الصّورِ السّلبيّةِ، دونَ الالتفاتِ للنّقاطِ المُشرقةِ التي يحقِّقهَا الإسلامُ في واقعِ الإنسانِ، فالتّنصّلُ عَن الإسلامِ والتّخلّي عنهُ حيلةُ المنهَزمِ الذي يواجهُ المشكلةَ بالهروبِ منهَا، فاللّهثُ وراءَ ما أنتجتهُ الحضارةُ الغربيّةُ يعبِّرُ عَن روحٍ مُنكسرةٍ تحبُّ الوقوفَ فِي صفِّ مَن لهُ مظاهِرُ القوّةِ.

فلا الّذينَ تمسّكُوا بالواقعِ وبرّرُوا لهُ، ولا الّذينَ تنصّلوا عنهُ وكفرُوا بهِ، يقدِّمَانِ خياراً مُنصِفاً وموضوعيّاً لحلِّ المشكلةِ، فبذلُ الجهدِ فِي رصدِ عيوبِ الواقعِ الإسلاميِّ يقابلهُ جهدٌ آخرُ فِي رصدِ عيوبِ ومثالبِ الحضارةِ الحديثةِ، وبالتّالِي لا الخيارُ الإسلاميُّ الرّاديكاليُّ ولا الخيارُ العلمانيُّ واللّيبراليُّ يشكِّلانِ تصوُّراً واقعيّاً للأزمةِ الحضاريّةِ، فالغربُ وبكلِّ مَا أنتجَ مِن ثقافةٍ ليبراليّةٍ، وبكلِّ مَا أسّسَ مِن مُجتمعاتٍ وأنظمةٍ علمانيّةٍ، لم يحقِّقْ قيمةً حقيقيّةً للإنسانِ، فالحريّةُ والعدالةُ الإجتماعيّةُ والعيشُ الكريمُ يحقِّقانِ مُحيطاً صالحاً لحياةِ الإنسانِ، لكنّهُمَا لا يُقدّمانِ تصوّراً واضحَاً للقيمةِ الكُبرى الّتي يجبُ أن يكونَ عليهَا الإنسانُ، فالاِهتمامُ بالجانبِ الماديِّ للإنسانِ ضروريٌّ ولكِن بشرطِ أن لا يكونَ على حسابِ الجانبِ الرّوحيِّ لديهِ، فكمَا يشعرُ الإنسانُ بحاجةٍ ماديّةٍ يشعرُ كذلكَ بحاجةٍ روحيّةٍ، والإفراطُ والتّفريطُ فِي أيِّ واحدٍ منهمَا قَد يحقِّقانِ مكاسبَ فِي جهةٍ ولكِن على حسابِ خسائرَ فِي جهةٍ أخرى. وهكذا يبقى الإنسانُ ضائعَاً وفي حاجةٍ أبديّةٍ لمَن يحقِّقُ لهُ توازنَ الرّوحِ والجسدِ، وهذا لا يتمُّ إلّا بتقديمِ تصوُّرٍ تكامليٍّ يُراعِي حاجاتِ الإنسانِ الماديّةِ والرّوحيّةِ، وبدايةُ التّأسيسِ للخِطابِ الدّينيِّ الشّاملِ يبدأُ مِن فتحِ مساحةٍ للعقلِ، لأنّهُ الكفيلُ بجعلِ المسلمِ أكثرَ إرتباطاً معَ واقعِ الحياةِ، فدعوَةُ الدّينِ إلى التّعقُّلِ هيَ التي تفتحُ البابَ أمامَ تفاعلٍ منطقيٍّ مَع متطلّباتِ الحياةِ، وحاجةُ الحياةِ إلى السّكينةِ والإنسجامِ الرّوحيِّ يفتحُ الطّريقَ نحوَ تفاعلٍ وجدانيٍّ معَ الأديانِ. ولكي تكتملَ هذهِ النّظرةُ التّكامليّةُ لابدَّ منَ النّظرِ إلى الإنسانِ بوصفهِ مِحوَراً وقيمةً أساسيّةً للأديانِ.

وبذلكَ يصبحُ اِلتزامُ الإنسانِ بالدّينِ هوَ الذي يحقِّقُ الإطارَ الذي تَتساوى فيهِ أهميّةُ الإنسانِ كمادّةٍ وروحٍ، فليسَ التّديّنُ حالةً منَ الجذبِ الوجدانيِّ فقط، وإنّمَا أيضاً حالةٌ منَ الوعيِّ المرتبطِ والمُتفاعلِ معَ الحياةِ، فالمتديّنُ حقّاً هوَ الذي يحقّقُ وعياً بوجودهِ و بمحيطهِ، فيحافظُ على سموِّ روحهِ وسلامةِ بدنهِ وصلاحِ مجتمعهِ، أمّا تلكَ الصّورةُ النّمطيّةُ للتّديّنِ فإنّهَا تعكسُ حجمَ الإحباطِ الذي عاشهُ المسلمُ، فالفقرُ، والمرضُ، والجهلُ، والكَبتُ، والحرمانُ وغيرُهَا، جعلتِ المسلمَ يبحثُ عن تديّنٍ يبرِّرُ لهُ واقعَهُ المحبطَ، ولو تبدّلَ واقعُ الحالِ وتوفّرَتْ لهُ فرصٌ أفضلُ للحياةِ لأوجدَ لنفسهِ تديّناً يعكسُ واقعَ المرحلةِ، وبالتّالِي ليستِ المشكلةُ في الإسلامِ وإنّمَا في الإنسانِ الذي دَجَّنَتهُ الأنظمةُ الحاكمةُ، وحرمتهُ منَ العيشِ الكريمِ، ومَنَعتهُ منَ التّفكيرِ والإجتهادِ، وتوارثتِ الأمّةُ هذا الكبتَ جيلاً بعدَ جيلٍ وإلى يومنَا هذا، لم ينعمِ الإنسانُ المسلمُ بفُرصٍ في الحياةِ تمكِّنُهُ مِن تقييمِ واقعهِ وتجربتهِ، فلم تمرَّ برهةٌ منَ الزّمنِ إستراحَ فيهَا الإنسانُ المسلمُ مِن غِيَرِ الزّمانِ وتَواترِ الأحزانِ، فكيفَ يمكنهُ التّفكيرُ في القهرِ، وكيفَ يمكنهُ الإبداعُ في الظّلامِ، فالتّديّنُ المُتاحُ هوَ المعبِّرُ عَن واقعِ الحالِ، و في اللّحظة التي فُتِحَت فيهَا عيونُ البعضِ على الحياةِ الحديثةِ في الغربِ، كفروا بالإسلامِ ظنّاً منهُم أنَّهُ هوَ سببُ ما عليهِ حالهُم، في حينِ أنَّ إسلامَهُم ليسَ إلّا صورةً حقيقيّةً عَن حالهِم هُم، فالّذي يجبُ أن يُدانَ هوَ الإنسانُ وليسَ الإسلامُ؛ فالإنسانُ المتخلِّفُ لا يفهمُ الإسلامَ إلّا بشكلٍ متخلِّفٍ، والعكسُ صحيحٌ، ومِن هُنا فإنَّ إعادةَ الوعيِّ الدّينيِّ مشروعٌ لن يكتملَ ما لم يصاحبهُ إعادةُ بناءٍ للواقعِ الحياتيِّ للإنسانِ المسلمِ، وإعادةُ البناءِ تلكَ لا تكونُ إلّا بثقافةٍ حيّةٍ وناهضةٍ، ومِن هُنا لا يمثّلُ الإلحادُ حلّاً للواقعِ المتخلِّفِ للأمّةِ الإسلاميّةِ، وإنّمَا إعادةُ الإيمانِ بالإسلامِ مِن جديدٍ واكتشافُ نقاطِ القوّةِ التي يوفّرهَا الإسلامُ فِي الإنسانِ هيَ الكفيلةُ بتبديلِ واقعِ الإنسانِ المسلمِ، وعليهِ فإنَّ مَا ذكرَهُ صاحبُ الإشكالِ صحيحٌ فِي جانبٍ إلّا أنّهُ مخطئٌ في جانبٍ آخرَ، فصحيحٌ أنَّ واقعَ الأمّةِ الإسلاميّةِ واقعٌ غيرُ مريحٍ لكنَّ الغيرَ صحيحٍ أنَّ الإسلامَ هوَ المسؤولُ عَن هذا الواقعِ.