ما هوَ موقفُ الائمّةِ مِن ثورةِ المُختارِ؟
تعرّضَ المُختارُ الثّقفيّ وثورتُه إلى الكثيرِ منَ التّشويهِ مِن قِبلِ المُؤرّخينَ المُنتمينَ إلى السُّلطةِ الأمويّةِ والزّبيريّةِ، فقَد ألصقُوا بهِ نفسَ التُّهمِ التي روّجَها أعداؤه منَ الزُّبيريّينَ والأمويّينَ الذينَ ثارَ ضدَّهُم، كما وضعُوا حولَهُ الأحاديثَ والأخبارَ التي تتعمَّدُ التّشكيكَ في علاقتِه بأئمّةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، ومنَ المعلومِ أنَّ دراسةَ التّاريخِ تحتاجُ إلى بصيرةٍ خاصّةٍ تتقصّدُ الحقيقةَ مِن بينِ ما سطرَتهُ أقلامُ السُّلطةِ، فالمُختارُ كانَ ثائِراً ضدَّ الأمويّينَ والزّبيريّينَ حتّى قُتلَ بسيفِ مصعبٍ بنِ الزُّبيرِ، وبالتّالي لا يمكنُ لأيِّ مؤرّخٍ سلطويّ إلّا أن يتكلّمَ عنِ المُختارِ بالسّوءِ، وهذهِ حالةٌ طبيعيّةٌ تتجلّى بشكلٍ واضحٍ في سُننِ الصّراعِ ، فلا يمكنُ أن نتوقّعَ أنَّ مروانَ بنَ الحكمِ أو سليمانَ بنَ عبدِ الملكِ أو غيرَهُما منَ الخُلفاءِ الأمويّينَ أن يُنصِفُوا المُختارَ أو يتعرّضوا لهُ بصورةٍ حيّاديّةٍ؛ لأنّهُ كانَ عدوّاً لهُم وثارَ ضدَّهُم. وهذهِ سُنّةٌ ما زالَت سائدةً إلى يومِنا هذا فالحاكمُ الظّالمُ لا يتحمّلُ مَن يُعارضُه ويخرجُ عليهِ فيُسلّطُ عليهِ إعلامَهُ لتشويهِ صورتِه مِن خلالِ التُّهمِ الرّخيصةِ التي تُهيّئُ الأرضيّةَ لقتلِه وتصفيتِه. ومنَ المعلومِ أنَّ المُختارَ هوَ منَ القادةِ العسكريّينَ الذين فتحُوا العراقَ، وقَد تربّى في بيتِ والدِه الصّحابيّ الجليلِ أبي عُبيدةَ بنِ مسعودٍ الثّقفيّ الذي كانَ مِنَ الموالينَ للإمامِ عليّ (عليهِ السّلام) والمُدافعينَ عَن حقِّه في الخلافةِ، وكانَ المُختارُ رجُلاً موالياً للأئمّةِ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) وبخاصّةٍ إمامَ زمانِه الإمامِ زينِ العابدينَ (عليه السّلام)، والقولُ أنّهُ كانَ كيسانيّاً مُعتقِداً بإمامةِ مُحمّدٍ بنِ الحنفيّةِ، أو كانَ راونديّا مُعتقِداً بإمامةِ العبّاسِ مُجرّدُ تُهمٍ لا تنسجمُ معَ سيرةِ المُختارِ وحياتِه الثّوريّةِ التي تكرّسَت في أخذِ ثارِ الإمامِ الحُسينِ (عليهِ السّلام)، كما أنّهُ كانَ منَ القريبينَ للإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) الذي كانَ كثيراً يوصي بإمامةِ الحسنِ والحُسينِ ثمَّ إبنهِ زينِ العابدينَ، مُضافاً إلى أنَّ قائدَ جيشِ المُختارِ كانَ إبراهيم بن مالكٍ الأشترِ صاحبُ أميرِ المؤمنينَ وقائدُ عسكرِه، فلو كانَ المُختارُ مُنحرِفاً عَن إمامةِ أهلِ البيتِ لما طاوعَهُ في ذلكَ، وعندَما إستتبَّ الوضعُ في الكوفةِ للمُختارِ حكمَ بسيرةِ الإمامِ عليّ (عليهِ السّلام) بعدَ أن قتلَ أغلبَ مَن إشتركَ في قتلِ الإمامِ الحُسينِ (عليه السّلام) مِن ابنِ زيادٍ إلى عُمرَ بنِ سعدٍ وشمرٍ بنِ ذي الجوشنِ وبعضِ أشرافِ الكوفةِ والذينَ أيّدوا هذهِ الحركةَ كانُوا منَ الموالينَ المُؤمنينَ. يقولُ الإمامُ الباقرُ: (لا تسبّوا المُختارَ فإنّهُ قَد قتلَ قتلتَنا وطلبَ بثأرِنا وزوّجَ أراملَنا، وقسمَ فينا المالَ على العسرةِ).ويرى مجموعةٌ كبيرةٌ منَ المُؤرّخينَ ومنهُم أبو الفرجِ الأصفهانيّ صاحبُ كتابِ (مقاتلُ الطّالبيّينَ) والدّكتور عليّ سامي النّشار صاحبُ كتابِ (نشأةُ الفكرِ الفلسفيّ في الإسلامِ) وكثيرٌ غيرُهم، أنَّ المُختارَ كانَ رجُلاً رساليّاً ثوريّاً مُخلِصاً يدعو إلى الرّضا مِن آلِ مُحمّدٍ وهوَ الإمامُ زينُ العابدين. وهناكَ الكثيرُ منَ الشّواهدِ التّاريخيّةِ التي تُثبتُ علاقةَ المُختارِ بالإمامِ السّجّادِ (عليه السّلام) إلى درجةِ أنَّ المُختارَ كانَ يعرفُ تفاصيلَ حياةِ الإمامِ (عليه السّلام). فقَد جاءَ في الخبرِ (أنَّ زينَ العابدين كانَ يدعو في كلِّ يومٍ أن يُريهُ اللهُ قاتلَ أبيه مقتولاً، فلمّا قتلَ المُختارُ قتلةَ الحُسين (صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه) بعثَ برأسِ عُبيدِ اللهِ بنِ زيادٍ ورأسِ عُمر بنِ سعدٍ معَ رسولٍ مِن قبلِه إلى زينِ العابدينَ، وقالَ لرسولِه: إنّهُ يُصلّي منَ اللّيلِ، وإذا أصبحَ وصلّى صلاةَ الغداةِ هجعَ، ثمَّ يقومُ فيستاكُ ويُؤتى بغدائِه، فإذا أتيتَ بابَهُ فاسأل عنهُ فإذا قيلَ لكَ إنَّ المائدةَ وُضعَت بينَ يديهِ فاستأذِن عليهِ وضَع الرّأسينِ على مائدتِه، وقُل لهُ: المُختارُ يقرأُ عليكَ السّلامَ ويقولُ لكَ يا بنَ رسولِ اللهِ قَد بلّغكَ اللهُ ثأركَ، ففعلَ الرّسولُ ذلكَ، فلمّا رأى زينَ العابدين (عليه السّلام) الرّأسينِ على مائدتِه، خرَّ ساجِداً وقالَ: (الحمدُ للهِ الذي أجابَ دعوتي وبلّغني ثأري مِن قتلةِ أبي)، ودعا للمُختارِ وجزّاهُ خيراً).وفي كتابِ الدّلائلِ للحميريّ، عنِ المنهالِ بنِ عُمر قال: حججتُ فدخلتُ على عليٍّ بنِ الحُسينِ، فقالَ لي يا منهالُ ما فعلَ حرملةُ بنُ كاهلٍ الأسديّ؟ قلتُ: تركتُه حيّاً بالكوفةِ، قالَ: فرفعَ يديهِ ثمَّ قالَ: اللّهمَّ أذِقهُ حرَّ الحديدَ، اللّهمَّ أذقهُ حرَّ النّارِ، قالَ: فانصرفتُ إلى الكوفةِ وقَد خرجَ بها المُختارُ بنُ أبي عُبيدةَ وكانَ لي صديقاً، فركبتُ لأسلِّمَ عليهِ، فوجدتُه قَد دعا بدابّتِه، فركبَ وركبتُ معهُ حتّى أتى الكناسةَ فوقفَ وقوفَ مُنتظرٍ لشيءٍ وقَد كانَ وجّهَ في طلبِ حرملةَ بنِ كاهلٍ فأُحضرَ فقالَ: الحمدُ للهِ الذي مكّنني منكَ، ثمَّ دعا بالجزّارِ فقالَ: إقطعُوا يديهِ فقطَعنا، ثمَّ قالَ: اقطعُوا رجليه، فقطَعنا، ثمَّ قالَ: النّارَ النّارَ فأُتيَ بطُنِ قصَب ثمَّ جعلَ فيها، ثمَّ أُلهبَت فيهِ النّارُ حتّى احترقَ، فقلتُ: سُبحانَ اللهِ سبحانَ اللهِ فالتفتَ إليَّ المُختارُ، فقالَ: ممَّ سبَّحتَ؟ فقلتُ لهُ: دخلتُ على عليٍّ بنِ الحُسينِ فسألني عَن حرملةَ فأخبرتُ أنّي تركتُه بالكوفةِ حيّاً، فرفعَ يديهِ وقالَ: اللّهمَّ أذِقهُ حرَّ الحديدِ، اللّهمَّ أذقهُ حرَّ النّارِ، فقالَ المُختارُ: اللهَ اللهَ أسمعتَ عليّاً بنَ الحُسينِ يقولُ هذا؟ فقلتُ: اللهَ اللهَ لقَد سمعتُه يقولُ هذا، فنزلَ المُختارُ وصلّى ركعتينِ ثمَّ أطالَ ثمَّ سجدَ وأطالَ، ثمَّ سجدَ وأطالَ، ثمَّ رفعَ رأسَه وذهبَ ومضيتُ معهُ حتّى إنتهى إلى باب داري فقلتُ لهُ: إن رأيتَ أن تُكرمَني بأن تنزلَ وتتغدّى عندي، فقالَ: يا منهالُ تُخبرُنِي أنَّ عليّاً بنَ الحُسينِ دعا اللهَ بثلاثِ دعواتٍ فأجابَهُ اللهُ فيها على يدي ثمَّ تسألني الأكلَ عندَك، هذا يومُ صومٍ شُكراً للهِ على ما وفّقني لهُ.ويبدو أنَّ الإمامَ السّجّادَ (عليه السّلام) هوَ مَن أمرَ المُختارَ أن يرتبطَ بمحمّدٍ بنِ الحنفيّةِ فيما يخصُّ مُجرياتِ الثّورةِ، ففي الخبرِ قالِ جعفر بنُ نما: فقَد رويتُ عَن والدي رحمةُ اللهِ عليه أنَّ مُحمّدً بنَ الحنفيّةِ لما جاءَت إليه جماعةٌ مِن كبارِ الشّيعةِ مِنَ الكوفةِ مِن رُؤساءِ القبائلِ، وكانوا قَد جاءُوا إليهِ ليسألوهُ في أمرِ وشأنِ المُختارِ الذي بدأ يدعو للثّأرِ مِنَ الأمويّينَ وإلى الرّضا مِن آلِ مُحمّدٍ في الكوفةِ. وقَد قالُوا: إنَّ المُختارَ يريدُ الخروجَ بنا للأخذِ بالثّأرِ وقَد بايعناهُ، ولا نعلمُ أرسلهُ إلينا محمّدٌ بنُ الحنفيّةِ أم لا؟ فجاءُوا إلى محمّدٍ بنِ الحنفيّةِ، فبدأ عبدُ الرّحمنِ بنُ شُريحٍ بحمدِ اللهِ والثّناءِ عليه، وقالَ: أمّا بعدُ فإنّكُم أهلُ البيتِ خصّكُم اللهُ بالفضيلةِ وشرّفكُم بالنّبوّةِ، وعظّمَ حقكُم على هذهِ الأمّةِ، وقَد أصبتُم بـ(الحُسينِ عليه السّلام) مُصيبةً عمَّت المُسلمينَ، وقَد قدمَ المُختارُ يزعمُ أنّه جاءَ مِن قبلكُم وقَد دعانا إلى كتابِ اللهِ وسُنّةِ نبيّه، والطّلبِ بدماءِ أهلِ البيتِ، فبايعناهُ على ذلكَ فإن أمرتَنا بإتّباعِه إتّبعناهُ، وإن نهيتَنا إجتنبناهُ - هُنا يقولُ جعفر بنُ نما عَن والدِه - أنَّ مُحمّداً بنَ الحنفيّةِ قالَ لهُم: قوموا بنا إلى إمامي وإمامِكُم عليٍّ بنِ الحُسين (عليه السّلام)، فلمّا دخلَ ودخلوا عليهِ أخبرَ مُحمّدٌ خبرَهُم الذي جاءوا لأجلِه، فقالَ الإمامُ عليٌّ بنُ الحُسينِ (عليه السّلام): يا عمِّ لو أنَّ عبداً زنجيّاً تعصّبَ لنا أهلَ البيتِ، لوجبَ على النّاسِ مُؤازرَتُه، وقَد وليّتُكَ هذا الأمرَ، فاصنَع ما شئتَ، فخرجُوا وقَد سمعُوا كلامَه وهُم يقولونَ: أذِنَ لنا زينُ العابدينَ ومحمّدٌ بنُ الحنفيّةِ. وكانَ المُختارُ قَد علمَ بخروجِهم إلى محمّدٍ بنِ الحنفيّةِ وقَد كانَ يريدُ النّهوضَ بجماعةِ الرّسالةِ قبلَ قدومِهم، فلمّا تهيّأ ذلكَ لهُ، وكانَ يقولُ: إنَّ نفيراً منكُم تحيّروا وارتابُوا، فإن هُم أصابُوا أقبلُوا منكُم تحيّروا وأنابُوا، وإن هُم كبّوا وهابُوا واعترضُوا وانجابُوا فقَد خسرُوا وخابُوا، فدخلَ القادمونَ مِن عندِ مُحمّدٍ بنِ الحنفيّةِ فقالَ: ما وراءَكم فقَد فُتنتُم وارتبتُم؟ فقالوا: قَد أُمرنا بنُصرتِكَ، فقالَ: يا معشرَ الرّسالةِ إنَّ نفراً أحبُّوا أن يعلمُوا مِصداقَ ما جئتَ بهِ فخرجُوا إلى إمامِ الهُدى والنّجيبِ المُرتضى وابنِ المُصطفى المُجتبى - يعني الإمامَ زينَ العابدين - فعرّفَهم أنّي ظهيرُه ورسولُه، وأمرَكُم باتّباعي وطاعتِي، وقالَ كلاماً يُرغّبُهم إلى الطّاعةِ والإستنفارِ معهُ وأن يُعلِمَ الحاضرُ الغائبَ.كما تؤكّدُ بعضُ الأخبارِ وجودَ مُكاتباتٍ بينَ المُختارِ والإمامِ السّجّادِ (عليهِ السّلام) ممّا يعني رضاهُ بعملِ المُختارِ، فقَد رويَ عنِ الثّمالي قالَ: كنتُ أزورُ الإمامَ عليّاً بنَ الحُسينِ في كلِّ سنةٍ مرّةً في وقتِ الحجِّ فأتيتُه سنةً مِن ذاكَ، فقالَ لي الإمامُ: قيلَ لي على البابِ رجلٌ يطلبُكَ فخرجتَ فإذا أنا برجلٍ معهُ جاريةٌ ملفوفٌ كمُّها على يدِه، مُخمّرةً بخمارٍ، فقلتُ ما حاجتُكَ؟ فقالَ: أردتُ عليّاً بنَ الحُسينِ قلتُ: أنا عليٌّ بنُ الحُسينِ! فقالَ: أنا رسولُ المُختارِ ابنُ أبي عُبيدةَ الثّقفيّ إنّهُ يُقرئُكَ السّلامَ ويقولُ: وقعَت هذهِ الجاريةُ في ناحيتِنا فاشتريتُها بستمائةِ دينارٍ، وهذهِ ستمائةُ دينارٍ فأستعِن بها على دهرِكَ، ودفعَ كتاباً فأدخلتُ الرّجلَ والجاريةَ، وكتبتُ لهُ جوابَ كتابِه وتثبّتَ الرّجلُ.وعليهِ إنَّ الثّابتَ بالضّرورةِ أنَّ ثورةَ المُختارِ كانَت مِن ضمنِ الثّوراتِ العلويّةِ التي نادَت بالرّضا مِن آلِ مُحمّدٍ، وقَد كانَ مُحقّاً في طلبِ الثّأرِ مِن قتلةِ الإمامِ الحُسينِ (عليه السّلام)، ومِنَ المعلومِ أيضاً أنَّ تلكَ الثّورةَ كانَت على خلافِ السُّلطةِ وأعوانِها، وعليهِ فكلُّ ما وصلَ لنا منَ الأخبارِ مدحاً وثناءً في ثورةِ المُختارِ قَد وصلَ لنا بعدَ أن فلتَ مِن مقصِّ الرّغّابةِ، وكلُّ ما كانَ مُشكَّكاً فيهِ وفي ثورتِه يصبُّ في خانةِ أعدائِه والمُناوئينَ لهُ والمُخالفينَ لثورتِه.
اترك تعليق