بعد الإمام المهدي (عليه السلام) هل ستزول الحجة أم ماذا؟!

لاتخلوا الأرض من حجة إذا ظهر الإمام المهدي (عليه السلام) وعندما يحكم بعدها يموت بأعتبار "كل من عليها فان" هناك قول لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها اذا بعد الإمام المهدي عليه السلام هل ستزول الحجة أم ماذا؟!

: اللجنة العلمية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قبلَ الإجابةِ لابُدَّ منَ الإشارةِ إلى مفهومٍ مُبسّطٍ للقولِ أنَّ الأرضَ لا تبقَى مِن دونِ حُجّةٍ وإلّا ساخَت، كما جاءَ في الرّوايةِ (عَن أبي حمزةَ قالَ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ عليه السّلام: أتبقى الأرضُ بغيرِ إمامٍ؟ قالَ: لو بقيَت الأرضُ بغيرِ إمامٍ لساخَت)، ولفهمِ هذهِ المقولةِ لابُدَّ مِن فهمِ العلاقةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، فاللهُ تعالى هوَ المالكُ والحاكمُ، بوصفِه خالِقاً ومُدبّراً لأمرِ الكونِ، وكلُّ ما دونه بما فيهِ الإنسانُ مملوكٌ مربوبٌ لا حولَ لهُ ولا قوّة. ومِنَ الواضحِ أنَّ حاكميّةَ اللهِ وسُلطانَه على الإنسانِ والأرضِ لا تتحقّقُ إلّا عبرَ رسولٍ أو إمام، حيثُ لا يجوزُ الإعتقادُ بأنَّ اللهَ هوَ الذي يتنزّلُ إلى واقعِ الإنسانِ حيثُ يُباشرُ البشرَ ويُخالطُهم، فاللهُ أعزُّ وأجلُّ وأكرمُ مِن أن تحيطَهُ العقولُ أو تدركَه الأوهامُ، فهوَ لا يُؤيَّنُ، ولا يُكيَّفُ ولا يُشارُ إليهِ ولا يُحدُّ..، كما لا يجوزُ الإعتقادُ، بأنَّ البشرَ هُم الذينَ يرتفعونَ إلى مقامِ مُخاطبةِ اللهِ والتّحاكمِ لديهِ، وبالتّالي إنَّ حكومةَ اللهِ على الأرضِ وسُلطانَه تتحقّقُ عبرَ وسيطٍ يُمثّلُ حُكمَ اللهِ وإرادتَه، وبذلكَ تنكشفُ لنا فلسفةُ الرّسولِ والإمامِ، كقضيّةٍ مُرتبطةٍ بحقيقةِ التّوحيدِ، ومصداقٍ عمليٍّ لولايةِ اللهِ وسُلطانِه على الخلقِ. 

بما أنَّ حاكميّةَ اللهِ حقٌّ لكونِه مالِكاً للخلقِ، وبما أنَّ الخلقَ حقيقةٌ موجودةٌ ومُستمرّةٌ، فحاكميّةُ اللهِ على الخلقِ باقيةٌ ببقاءِ الخلقِ، حيثُ لا يمكنُ تصوّرُ بُرهةٍ زمنيّةٍ، يفقدُ فيها اللهُ حاكميّتَه على الإنسانِ والأرضِ، وهذا ما يُفسّرُ لنا إستمرارَ الولايةِ في العقيدةِ الشّيعيّةِ، وبالتّالي قوامُ الأرضِ وفلسفةُ وجودِها واستمرارِها قائمٌ بحقيقةِ الإرتباطِ باللهِ تعالى، وبما أنَّ ذلكَ لا يتحقّقُ إلّا عبرَ حُجّةٍ منَ اللهِ يُمثّلُ حاكميّةَ اللهِ على خلقِه، فمنَ الطّبيعيّ أن تنهارَ الأرضُ وتسيخَ عندَما تفقدُ مُبرَّر وجودِها وفلسفةَ خلقتِها. 

أمّا فيما يتعلّقُ بالسّؤالِ وهوَ موتُ الإمامِ الحُجّةِ (عجّل اللهُ فرجه) فمَن يكونُ الحُجّةُ مِن بعدِه؟، فقَد أجابَتِ الرّواياتُ الكثيرةُ عَن هذا الأمرِ، وذلكَ مِن خلالِ رجعةِ عبادِ اللهِ الصّالحينَ لحكومةِ الأرضِ؛ وعقيدةُ الرّجعةِ هيَ مِن مُختصّاتِ الفكرِ الشّيعيّ، وقَد يحتاجُ توضيحُها إلى بحثٍ كاملٍ، إلّا أنّنا نشيرُ لهُ بشكلٍ مُختصرٍ، قالَ تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّن يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾، منَ الواضحِ أنَّ المقصودَ بالحشرِ في هذهِ الآيةِ ليسَ حشرَ يومَ القيامةِ؛ لأنّهُ حشرٌ مخصوصٌ لبعضِ الطّوائفِ مِن كُلِّ أُمّةٍ، والآيةُ هُنا نصٌّ صريحٌ في ذلكَ، لا تحتاجُ إلى إعمالِ جهدٍ ونظرٍ، فكيفَ يكونُ المقصودُ حشرَ يومِ القيامةِ والآيةُ صريحةٌ في قولِها: (مِن كُلِّ أُمّةٍ فوجاً)، وهذا بخلافِ حشرِ يومِ القيامةِ الذي يقولُ فيهِ تعالى: ﴿وَحَشَرْناهُم فَلَم نُغادِر مِنْهُم أَحَداً﴾. 

أما الحِكمةُ منَ الرّجعةِ، فتُفهمُ ضمنَ الإعتراضِ الذي يقولُ كيفَ تكونُ هُناكَ حكومةٌ إلهيّةٌ عادلةٌ، تُمثّلُ حِكمةَ اللهِ في خلافةِ آدمَ وبعثِ الأنبياءِ، ثُمَّ تكونُ خاصّةً بمَن يشهدُها في عصرِ ظهورِها؟ وقَد وعدَ اللهُ عبادَه الصّالحينَ بأن يرثُوا هذهِ الأرضَ قالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، وبالتّالي، وراثةُ الصّالحينَ للأرضِ كلِّ الأرضِ، هيَ أساسُ الحِكمةِ مِن خلافةِ آدمَ، كما لا بُدَّ أن تكونَ هذهِ الوراثةُ عنواناً للعدالةِ الإلهيّةِ، فلا يكونُ في وراثتِهم فسادٌ ولا سفكٌ للدّماءِ. 

ومنَ الواضحِ أنَّ كلمةَ (الأرضِ) هُنا مُحلّى بالألفِ واللّامِ، ممّا يعني كونَها مُطلقةً، الأمرُ الذي يدلُّ على أنَّ الوراثةَ ليسَت في أرضٍ دونَ أرضٍ، وإنّما شاملةٌ لكلِّ الدّنيا، وهذا الأمرُ لا يتحقّقُ إلّا ضمنَ حكومةٍ عالميّةٍ تُمثّلُ إرادةَ اللهِ، ولا يتحقّقُ ذلكَ إلّا بقيادةِ الصّالحينَ. ومنَ المعلومِ أنّهُ لَم يكُن للصّالحينَ وراثةٌ في كُلِّ الأرضِ، منذُ أن خلقَ اللهُ آدمَ إلى يومِنا هذا، ممّا يعني أنَّ هذا اليومَ هوَ يومٌ موعودٌ لَم يتحقَّق بعد، قاَل تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ﴾، وهذا الوعدُ هوَ لذلكَ اليومِ الموعودِ الذي يكونُ فيه الصّالحونَ مُستخلفينَ في الأرضِ.

فكما أنَّ الأرضَ هيَ كلُّ الأرضِ، فكذلكَ الصّالحونَ كُلُّ الصّالحينَ موعودونَ بهذهِ الخلافةِ الرّبّانيّةِ، ومنَ المعلومِ أنَّ الصّالحينَ كانُوا هُم المُستضعفينَ، ولَم يحكُم الدّنيا إلّا المُتجبّرونَ، ولِذا وعدَهُم اللهُ بالنّصرِ بعدَ الإستضعافِ، قالَ تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ﴾.  

وبما أنَّ هذهِ الوراثةَ وهذا الإستخلافَ للصّالحينَ في كلِّ الأرضِ لَم يتحقَّق فيما مضَى، وبما أنَّ ذلكَ اليومَ يومٌ ضروريٌّ لا بُدَّ منهُ حتّى يتحقّقَ وعدُ اللهِ، فلا بدَّ أن يأتي هذا اليومُ. 

 فكيفَ يا تُرى يتحقّقُ وعدُ اللهِ للصّالحينَ، وهُم قَد ماتُوا وانقضى عُمرُهم؟ واللهُ يتحدّثُ عَن صالحينَ بعينِهم: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾.

فقولُ الشّيعةِ بالرّجعةِ، يُحقّقُ للصّالحينَ الذينَ إستضعِفُوا في الأرضِ إستخلافاً في هذهِ الدّنيا قبلَ الآخرةِ، الأمرُ الذي يقودُنا إلى القولِ أنَّ عقيدةَ الرّجعةِ فهمٌ مُتقدّمٌ للإسلامِ، فإن كانَت هذهِ العقيدةُ تضمنُ ذلكَ الأمرَ الذي فيهِ حكومةُ الصّالحينَ، فما العيبُ في هذا الإعتقادِ حتّى يكونَ محلّاً للسّخريةِ والإستهزاءِ؟، وليسَ فيها ما يُخالفُ ضروراتِ العقلِ والدّينِ، بلِ العكسُ إذ بها يكتملُ وعيُنا بالدّينِ، ونتحسّسُ قُدرةَ اللهِ وعظمتَهُ وعدلَه.  

وهذهِ الوراثةُ ليسَت ضمنَ فترةٍ محدودةٍ، وإنّما يطولُ عهدُها إلى درجةٍ تصبحُ معَها خلافةُ الظّالمينَ والمُفسدينَ الذين حكمُوا كأنّها لَم تكُن، حتّى يقولَ القائلُ أكانَ في الأرضِ ظلمٌ؟!