لماذا خلقنا اللهُ؟
عدنان سعود/: لماذا خلقنا ولماذا يحاسبُنا ويعاقبُ مُخطئَنا بالعذابِ وهو غنيٌّ عنا وعَن حسابِنا؟!
تكفّلَت عشراتُ الكتبِ والدّراساتِ بالإجابةِ على هذا السّؤالِ، والدّياناتُ السّماويّةُ بشكلٍ عامّ والإسلامُ بشكلٍ خاصّ ليسَ إلّا إجابةً تفصيليّةً على هذا السّؤالِ، ونحنُ هُنا لا يسعُنا التّفصيلُ وإنّما نُشيرُ بشكلٍ عامٍّ للحِكمةِ مِن خلقِ الإنسانِ ولِماذا جُعلَ مسؤولاً عَن تحمُّلِ رسالةِ الله؟
فالمُتأمّلُ في حقيقةِ الخلقِ، وما أوجدَهُ اللهُ في هذا الكونِ، يجدُ فيهِ حالةً منَ الإنسجامِ والتّكاملِ والتّرابطِ فيما بينَه، وهذهِ الحقيقةُ البديهيّةُ تكشفُ عَن ضرورةِ وجودِ محورٍ، يُمثّلُ غايةً لهذا الإنسجامِ والتّكاملِ الكونيّ، وما يصطلحُ عليهِ القُرآنُ مِن تسخيرِ الكونِ للإنسان، هوَ تعبيرٌ دقيقٌ عَن محوريّةِ الإنسانِ لهذا الكون.
وتسخيرُ الوجودِ، أو محوريّةُ الإنسانِ للكونِ، تعني أنَّ فلسفةَ الخلقِ تتحقّقُ بوجودِ الإنسانِ، فلا يكونُ لِهذا الكونِ معنىً من دونِ إنسانٍ، فهوَ الموجودُ الوحيدُ الذي يعي وجودَه، كما أنّهُ يجدُ معنىً لوجودِ بقيّةِ الأشياءِ، فالفهمُ أو الوعيُ الذي يُحقّقهُ الإنسانُ العاقلُ، هوَ ذاتُه الفهمُ والوعيُ الذي يعي حقائقَ الوجوِد، ويجعلُ مِن وجودِها محوراً لذاتِه؛ فمُجرّدُ الحديثِ عَن حِكمةِ الوجودِ، هوَ حديثٌ عنِ الإنسانِ، لأنّهُ الموجودُ الوحيدُ الذي يجدُ للحِكمةِ معنىً ويجدُ لوجودِه حِكمةً.
والشّواهدُ على أنَّ كلَّ ما في الكونِ سُخّرَ للإنسانِ لا حصرَ لها، قالَ تعالى: (أَلَم تَرَوا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً).
وتسخيرُ الكونِ هوَ عنوانٌ آخرُ لحقيقةِ التّكاملِ عندَ الإنسانِ؛ فلَو لَم يكُن مُسخَّراً لكانَ معوِّقاً لحركةِ الإنسانِ وتقدُّمِه، إذ كيفَ يتكاملُ وكلُّ شيءٍ مُمتنعٌ أمامَه؟ وبهذا نقتربُ مِن فلسفةِ الخلقِ الذي وُجدَ لكي يفسحَ الطّريقَ لانطلاقةِ الإنسانِ وتكاملِه بحيثُ لا يكونُ لتكاملِه حدٌّ محدودٌ.
وهذه الحقيقةُ هيَ الدّافعُ لحركةِ الإنسانِ وتقدُّمِه، فالإنسانُ بما هوَ إنسانٌ، وبعيداً عَن كُلِّ اعتبارٍ، نجدُه ومنذُ أن خطَّت قدماهُ في هذا الوجودِ وهوَ في حالةٍ منَ الكدحِ الدّائمِ لتطويرِ نفسِه وقدراتِه، وبناءِ حضارتِه، مُستفيداً ممَّا جُعلَ تحتَ تصرُّفِه، وما تشهدُه البشريّةُ مِن تقدُّمٍ في شتّى العلومِ والمعارفِ، لخيرُ دليلٍ على إمكانيّةِ تكاملِ الإنسانِ وتطوّرِه.
فالجمودُ والإستسلامُ والإنطواءُ، مفاهيمُ تُمثّلُ الرّؤيةَ المُعاكسةَ لفلسفةِ الخلقِ والوجودِ، ووقوفُ الإنسانِ ساكناً أمامَ ما هوَ مُتاحٌ لهُ مِن إمكاناتٍ، يُمثّلُ إنحرافاً في طبيعةِ الإنسانِ الطّامحةِ لكُلِّ كمالٍ.
وبناءً على هذهِ الحقيقةِ الواضحةِ، فإنّهُ لا يمكنُنا أن نجدَ تصوّراً لفلسفةِ الرّسالةِ، بعيداً عَن واقعِ الإنسانِ الذي جُعلَ محوراً وهدفاً للخلقِ، وإلّا يكونُ الخطابُ- حينئذٍ- أجنبيّاً عَن طبيعةِ الإنسانِ وفطرتِه.
فلو تصوّرنا أنَّ الإسلامَ جاءَ ليمنعَ الإنسانَ منَ التّقدُّمِ والتّكاملِ، أو أنّه - على أقلِّ تقديرٍ- لا يُحفّزُ الإنسانَ ويُشجّعُه، ولا يُشرّعُ لهُ التّشريعاتِ التي تفتحُ الطّريقَ أمام مسيرتِه، حينئذٍ لا يكونُ الدّينُ مُجرّدَ دعوةٍ لتخلُّفِ الإنسانِ فقط، وإنّما دعوةٌ لموتِه والقضاءِ عليه، لأنَّ الحياةَ لا تعني أقلَّ منَ القُدرةِ على الاستمرارِ في المسيرِ.
ومِن هُنا، جازَ لنا أن نُلخّصَ حِكمةَ الرّسالةِ الإسلاميّةِ بقولِه عزَّ وجلَّ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُم لِما يُحيِيكُم)، ففلسفةُ الرّسالةِ هيَ الدّعوةُ لحياةِ الإنسانِ، أي الدّعوةُ التي تفتحُ الطّريقَ أمامَ مسيرةِ الإنسانِ وتكاملِه.
وبالتاّلي رسالاتُ السّماءِ هيَ التي تخلقُ حالةَ التّوازنِ في مسيرةِ الإنسانِ التّكامليّةِ، حيثُ تجعلُ لتكامُلِ الإنسانِ هدفاً ومحوراً يدورُ هوَ الآخرُ حولَه، فإذا كانَ الكونُ قَد خُلقَ مِن أجلِ الإنسانِ، فلا بُدَّ أن يكونَ للإنسانِ هدفٌ خُلقَ مِن أجلِه، وذاكَ هوَ السّبيلُ الذي يضبطُ غرورَ الإنسانِ وتكبُّرَه، عندَما يجدُ كلَّ شيءٍ مُتاحاً له.
فإذا كانَ الكونُ مُسخَّراً للإنسانِ، وخطابُ الإسلامِ يدورُ حولَ الإنسانِ، فأيُّ محورٍ يجبُ أن يدورَ حولَهُ الإنسانُ؟
إنَّ هذا السّؤالَ، يقودُنا- وبشكلٍ مُباشرٍ- إلى فلسفةِ خلقِ الإنسانِ، وهيَ العبوديّةُ الكاشفةُ عَن محوريّةِ اللهِ لدى الإنسانِ، ونستشفُّ هذا الأمرَ مِن قولِه تعالى: (وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ)، فهذهِ الآيةُ إجابةٌ صريحةٌ على السّؤالِ: لِماذا خلقَ اللهُ الإنسانَ؟ فالعبوديّةُ تُمثّلُ هدفاً سامياً وقيمةً عُليا للإنسانِ.
والعبادةُ لا تحملُ مفهوماً سلبيّاً، لا مِن جهةِ العبدِ ولا مِن جهةِ المعبودِ، أمّا اللهُ فهوَ غنيٌّ بذاتِه لذاتِه، غيرُ مُحتاجٍ لخلقِه قالَ تعالى: (وَمَن يَبخَل فَإِنَّما يَبخَلُ عَن نَفسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَراءُ). فاللهُ لا ينتفعُ بعبادةِ العبدِ، بلِ العبادُ هُم الذينَ ينتفعونَ. أمّا مِن جهةِ الإنسانِ فإنَّ اللهَ لَم يُجبِرهُ على عبادتِه وإنّما جعلَ العبادةَ مسؤوليّةً تُعبّرُ عِن إنسانيّتِه الطّامحةِ نحوَ الكمالِ، وبالتّالي الحُرّيّةُ ليسَت شيئاً آخرَ غيرَ مسؤوليّةِ الإنسانِ إتّجاهَ إنسانيّتِه وأداءِ دورِه كمخلوقٍ سُخّرَ لهُ كلُّ ما في الوجودِ، وهيَ أمانةٌ عظيمةٌ تحمّلَها الإنسانُ لا لشيءٍ إلّا لأنّهُ إنسانٌ أكرمَه اللهُ بما لَم يُكرِم بهِ غيرَه منَ الخلائقِ، قالَ تعالى: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبينَ أَن يَحملنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (72 الأحزابُ).
وإذا كانَ الإنسانُ يُمثّلُ محورَ الخلقِ، وكانَ تكاملُ الخلقِ مِن أجلِ الإنسانِ، فلا بُدَّ أن يكونَ للإنسانِ تكامُلٌ خاصٌّ، وهذا سرُّ دُعاءِ الأنبياءِ والرّسلِ للعبادةِ، لأنّها الطّريقُ الذي يُحقّقُ للإنسانِ تكامُلَه، بعدَ ربطِه باللهِ مصدرِ كُلِّ كمالٍ.
وفي المُحصّلةِ فإنَّ قيمةَ الإنسانِ فيما أرادَهُ الشّارعُ للإنسانِ، وليسَ فيما أرادَهُ منَ الإنسانِ، حتّى العبادةُ لا تكونُ عطاءً منَ الإنسانِ بقدرِ ما هيَ عطاءٌ للإنسانِ؛ لأنَّ معناها حقيقةً ليسَ سلبُ شيءٍ منَ الإنسانِ وإنّما تحقيقُ قيمةٍ له.
في روايةٍ أنَّ رجُلاً سألَ الإمامَ الصّادقَ (عليه السّلام) قالَ: لمَ خلقَ اللهُ الخلقَ؟ فقالَ: (إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لَم يخلِق خلقَهُ عبثاً، ولم يتركهُم سدىً، بَل خلقَهُم لإظهارِ قُدرتِه، وليُكلّفهُم طاعتَه، فيستوجبوا بذلكَ رضوانَه، وما خلقَهُم ليجلبَ منهُم منفعةً ولا ليدفعَ بهم مضرّةً، بَل خلقَهُم لينفعَهُم ويوصلَهُم إلى نعيمِ الأبد)([1]). وبالتّالي خلقَ اللهُ الإنسانَ وزوّدهُ بكُلِّ الطّاقاتِ لكَي يكونَ عظيماً بكُلِّ ما تحملُه الكلمةُ مِن معنى، ومعَ ذلكَ يعترضُ الإنسانُ بجهلِه على هذهِ الفُرصةِ التي أُتيحَت له.
أمّا لماذا يُعذّبُ اللهُ الإنسانَ على ما ارتكبَهُ مِن أخطاء؟ فإنَّ ذلكَ مُحصّلةٌ طبيعيّةٌ لمسؤوليّتِه اتّجاهَ ما يفرضُه عليهِ دورُه كإنسانٍ مِن واجبات، فكما أنَّ اللهَ غنيٌّ عَن عبادتِنا فهوَ أيضاً غنيٌّ عن عذابِنا، وبالتّالي الإنسانُ هوَ الذي يجلبُ لنفسِه المنفعةَ عبرَ العبادةِ وهوَ الذي يجلبُ لها العذابَ بتمرُّدِه وتنصُّلِه عَن تحمُّلِ المسؤوليّةِ، والجنّةُ والنّارُ كما في كثيرٍ منَ الرّواياتِ ليسَت إلّا ما يصنعُه الإنسانُ بيدِه، فما يفعلُه الإنسانُ في الدّنيا إمّا أن يكونَ جنّةً وإمّا أن يكونَ ناراً، أي أنَّ عملَ الإنسانِ في الدّنيا إمّا أن يكونَ مِن سنخِ النّارِ وإمّا أن يكونَ مِن سنخِ الجنّةِ، وعليهِ فإنَّ العذابَ بالنّارِ ليسَ حُكماً إعتباريّاً، مثلَ أن يُحكمَ بالسّجنِ على مَن يُخالفُ أمرَ الدّولِ، حيثُ لا ربطَ بينَ الحُكمِ بالسّجنِ وبينَ ما ارتكبَهُ مِن مُخالفةٍ ولِذا يمكنُ تغييرُ الحُكمِ أو إلغاؤه منَ الأساسِ؛ لأنّهُ مُجرّدُ اعتبارٍ ولا وجودَ لعلاقةٍ ضروريّةٍ بينَ الفعلِ والحُكمِ، وهذا بخلافِ الحُكمِ على مَن يُدخِلُ يدَهُ في النّارِ فإنَّ العقابَ سيكونُ الإحراقَ حتماً، وهكذا الحالُ بالنّسبةِ للعذابِ يومَ القيامةِ فإنَّ الإنسانَ هوَ الذي يوقدُ نارَ عذابِه بيدِه، وليسَ أمراً إعتبرَهُ اللهُ من دونِ أيّ صلةٍ بينَ ما فعلَهُ في الدُّنيا وبينَ ما وجدَهُ حاضِراً يومَ القيامةِ.
اترك تعليق