(الله ولي الذين أمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات) ما هي الظلمات التي اخرج منها المؤمنون الى النور ؟ وماهو النور الذين اخرج منها الكافرون الى الظلمات ؟
السلام عليكم ورحمة الله
لكَي نُجيبَ على السّؤالِ لابُدَّ منَ الرّجوعِ لتمامِ الآيةِ وتوضيحِ ما اشتملَت عليهِ بشكلٍ مُختصرٍ، حيثُ تتحدّثُ آيةُ الكُرسيّ في أوّلِها عَن وحدانيّةِ اللهِ وهيمنتِه على الوجودِ بقولِه تعالى: (اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَومٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرضِ) حيثُ تنفي الآيةُ وجودَ إيّ إلهٍ سِوى اللهِ تعالى، ثمَّ تُؤكّدُ على أنّهُ مُهيمنٌ على الوجودِ لا يخرجُ عَن سُلطانِه شيئٌ صغيرٌ أو كبيرٌ، وكيفَ يغيبُ عنهُ شيءٌ وهوَ سُبحانَه لا تأخذُه سنةٌ ولا نوم؟ وبذلكَ تُؤسّسُ الآيةُ للقاعدةِ الرّصينةِ التي يجبُ أن يرتكزَ عليها الإنسانُ في مُجمَلِ حياتِه، فبمعرفةِ اللهِ يتعرُّف الإنسانُ على كلِّ الحقائقِ، فاللهُ تعالى هوَ الحقيقةُ المُتجلّيةُ في كلِّ ذرّةٍ مِن ذرّاتِ الوجودِ إلّا أنَّ الإنسانَ بجهلِه وغرورِه يحجبُ نفسَه عَن هذا النّورِ، فكلّما ابتعدَ الإنسانُ عنِ اللهِ كلّما ابتعدَ عَن نورِ العلمِ (وَمَن لَّم يَجعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) وعندَما ينظرُ الإنسانُ بنورِ اللهِ تنفتحُ أمامَهُ الحقائقُ ويحصلُ لهُ اليقينُ والإطمئنانُ قالَ تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ القُلُوبُ). والهدايةُ إلى ذلكَ النّورِ وتحقيقُ معرفةِ اللهِ تكونُ مِن خلالِ معرفةِ أوليائِه الذينَ يُمثّلونَ أمرَه ونهيَه، ولِذا نجدُ سورةَ (النّورِ) بعدَ أن تتحدّثَ عَن كونِ اللهِ نورَ السّماواتِ والأرضِ ثمَّ تضربُ مثلاً لذلكَ النّورِ نجدُها تُرشدُنا إلى مكانِ ذلكَ النّورِ بقولِه تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ) وقد خصَّ اللهُ رسولَه وأهلَ بيتِه فجعلَهم مهبطاً لنورِه وموضِعاً لبُرهانِه وأساساً لعلمِه، فبعدَ أن يُشيرَ إلى البيوتِ بوصفِها مكاناً للنّورِ يعودُ ليُذكّرنا بأنَّ المقصودَ بالبيوتِ ليسَ الجُدرانَ وإنّما رجالٌ تمحّضوا للهِ تعالى: حيثُ يقولُ: (رجَالٌ لَّا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلَا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ) ومِن ذلكَ نفهمُ أنَّ التّوحيدَ ومعرفةَ اللهِ يتحقّقُ في الواقعِ العمليّ للإنسانِ مِن خلالِ ولايةِ أولياءِ اللهِ تعالى وهُم مُحمّدٌ وأهلُ بيتِه الأطهار.
وإذا رجعنا إلى آيةِ الكُرسيّ نجدُها بعدَ تأسيسِها لقاعدةِ التّوحيدِ ومعرفةِ اللهِ تُشيرُ إلى أنَّ تحقيقَ الشّفاعةِ إلى اللهِ ليسَت لجميعِ البشرِ وإنّما لبعضِ مَن خصَّهُم اللهُ وأذنَ لهُم بذلكَ، قالَ تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذنِهِ) وعليهِ هُناكَ مَن يأذنُ لهُم اللهُ بأن يكونُوا شُفعاءَ بينَ اللهِ وبينَ عبادِه، ولا يمكنُ الوصولُ إليهِ عبرَ الشّفاعةِ الذّاتيّةِ وإنّما لابُدَّ مِن وجودِ واسطةٍ لذلكَ، وهكذا تُؤكّدُ الآيةُ على أنَّ الإنسانَ لا يمكنُه أن يعرفَ ما عندَ اللهِ إلّا بما يشاءُ الله، لكونِ اللهِ هوَ وحدَهُ المحيطَ بما عندَ الإنسانِ، قالَ تعالى: (يَعلَمُ مَا بَينَ أيدِيهِم وَمَا خَلفَهُم ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّن عِلمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) وبذلكَ يُصبحُ اللهُ وحدُه هوَ الحاكمَ والمُهيمنَ على الوجودِ وإنَّ كُرسيَّ سُلطانِه وسعَ السّماواتِ والأرضِ ولا حافظَ لها إلّا هوَ، قالَ تعالى: (وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفظُهُمَا ۚ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ) وبعدَ تأكيدِ كُلِّ ذلكَ تتّجهُ الآياتُ إلى بيانِ أنَّ معرفةَ اللهِ وتوحيدَه هيَ جوهرُ الدّينِ وأساسُ العقيدةِ التي يجبُ أن يكونَ عليها الإنسانُ، ومعَ ذلكَ لا وجودَ لسُلطةٍ تُجبرُ الإنسانَ على ذلكَ؛ بَل هوَ مُخيّرٌ بأن يكونَ ولاؤه للهِ خالقِ السّماواتِ والأرضِ ومالكِها، وذلكَ عبرَ الولايةِ لأولياءِ اللهِ الذينَ جعلَهُم واسطةً بينَه وبينَ خلقِه، أو أن يكونَ ولاؤه للطّاغوتِ والحاكمِ الأرضيّ المُتسلّطِ على رقابِ النّاس، ولِذا قالَ تعالى مُباشرة: (لَا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ ۚ فَمَن يَكفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤمِن بِاللَّهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ومنَ الواضحِ أنَّ الآيةَ جعلَت مُقابلةً بينَ الكُفرِ بالطّاغوتِ والإيمانِ بالله، بمعنى متى ما تحقّقَ الكُفرُ بالطّاغوتِ يتحقّقُ الإيمانُ باللهِ تعالى، ولا يمكنُ أن يجتمعا معاً في قلبِ الإنسانِ، وقَد فضحَ اللهُ بعضَ الذينَ يزعمونَ أنّهُم مؤمنونَ باللهِ وبما أنزلَهُ على رسولِه مُحمّدٍ (ص) وهُم في نفسِ الوقتِ يوالونَ الطّاغوتَ، حيثُ قالَ في حقِّهم: (أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِما أنزِلَ إِلَيكَ وَما أنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ) فالآيةُ تصفُهم بأنّهُم مؤمنونَ بالرّسولِ وبالقُرآنِ، وبما جاءَ مِن كُتبٍ سماويّةٍ أُخرى، والإيمانُ بالقرآنِ هوَ إيمانٌ بما جاءَ فيهِ مِن أحكامٍ وتشريعاتٍ، إلّا أنّهُم - في الحقيقةِ - كافرونَ، وذلكَ وِفقاً لمعيارِ الولايةِ، فمَن يوالي أولياءَ اللهِ فهوَ مُوحّدٌ، ومَن يُوالي أولياءَ الشّيطانِ فهوَ كافرٌ، وإن كانَ يُصلّي ويصومُ ويُؤدّي باقي العباداتِ، ولِذا نجدُ أنَّ القُرآنَ يُفسّرُ ذلكَ بقولِه: (يريدونَ أن يتحاكموا إلى الطّاغوت)، والطّاغوتُ هُنا هوَ كُلُّ مَن لهُ سُلطةٌ سياسيّةٌ أو دينيّةٌ أو اجتماعيّةٌ من دونِ تفويضٍ منَ الله، وقرينةُ ذلكَ: (يريدونَ أن يتحاكموا)، ومِن هُنا نفهمُ قولَه تعالى: (فَمَن يكفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤمِن بِاللهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى)، حيثُ لا يبلغُ الإنسانُ التّوحيدَ، حتّى يكفُرَ بكُلِّ الزّعاماتِ التي تتحكّمُ من دونِ إذنٍ منَ الله.
فإذا نهانا اللهُ عنِ التّحاكمِ للطّاغوتِ، وجعلَهُ مُساوياً للكُفرِ والشّركِ باللهِ، فلا بُدَّ أن يُعيّنَ لنا مَن نتحاكمُ إليهم، إذ لا يمكنُ التّحاكمُ عندَه مُباشرةً، وهذا ما يُفسّرُ لنا ضرورةَ أولياءِ اللهِ، الذينَ يُمثّلونَ أمرَه وسُلطانَه.
فبما أنَّ الطّاغوتَ هوَ شخصٌ لهُ مِصداقٌ في الخارجِ، وقد أمرَنا اللهُ أن نكفُرَ بهِ، ففي المُقابلِ لا بدَّ أن يُعيّنَ لنا شخصاً بديلاً نتحاكمُ عندَه يُمثّلُ أمرَ اللهِ وإرادتَه، وعليهِ يُصبحُ معنى الآيةِ: (فمَن يكفُر بالطّاغوتِ ويُؤمِن بالله)، أي مَن يكفُر بهذا (الذي يُمثّلُ الطّاغوتَ)، ويؤمِن بهذا (الذي يُمثّلُ الله) فقَد إستمسكَ بالعروةِ الوُثقى، ولا يمكنُ أن يكونَ المقصودُ مِن قولِه (ويؤمِن باللهِ) أي أنّهُ يُؤمنُ بقضيّةٍ غيبيّةٍ لا ترتبطُ بواقعٍ ملموسٍ للإنسانِ، فحينَها لا تكونُ هُناكَ مُناسبةٌ بينَ الكُفرِ بالطّاغوتِ المُتمثّلِ في فُلانٍ منَ النّاسِ، وبينَ الإيمانِ باللهِ كقضيّةٍ غيبيّةٍ ليسَ لها مُمثّلٌ في أرضِ الواقعِ.
ولكَي نجدَ مثالاً عمليّاً لقولِه: (فمَن يكفُر بالطّاغوتِ ويُؤمِن باللهِ) نقولُ: مَن يكفُر بفرعونَ ويُؤمِن بموسى فقَد استمسكَ بالعروةِ الوُثقى، فالإيمانُ باللهِ يتجلّى في الإيمانِ بمُوسى (ع)، وكذلكَ مَن يكفُر بيزيدَ بنِ مُعاوية، ويؤمِن بالحُسينِ بنِ عليّ (ع) وهكذا، فالقضيّةُ مُستمرّةٌ باستمرارِ البشرِ على الأرضِ، تُشكّلُ إبتلاءاً حقيقيّاً للإنسانِ المُؤمِن. وعليهِ فإنَّ للهِ أولياءً فرضَ علينا طاعتَهُم وأوجبَ علينا إمتثالَ أوامرِهم، ولا يتوقّفُ هذا الأمرُ عندَ الأنبياءِ والرّسلِ، وإنّما هوَ مُستمّرٌ في ولاةِ الأمرِ: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم)، فطاعةُ ولاةِ الأمرِ هُنا ليسَ فقَط لانتظامِ أمرِ الجماعةِ وسياسةِ أمورِهم، وإنّما هيَ عنوانُ الإنسانِ المُؤمنِ المُوحِّدِ حقّاً.
وإذا إتّضحَ كلُّ ذلكَ يتّضحُ معنى النّورِ الذي يدخلُ فيهِ المُؤمنُ، والظّلامُ الذي يدخلُ فيهِ الكافرُ، ففي الآيةِ الأخيرةِ مِن آيةِ الكُرسيّ نجدُ قولَه تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أولِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصحَابُ النَّارِ ۖ هُم فِيهَا خَالِدُونَ) فولايةُ اللهِ هيَ النّورُ الذي يدخلُ فيهِ المؤمنونَ بعدَ أن يُخرجَهُم منَ الظّلامِ وهوَ ولايةُ الطّاغوتِ، أمّا الكافرُ فوليُّه الشّيطانُ الذي أخرجَه مِن نورِ ولايةِ اللهِ إلى ظلامِ ولايةِ الشّيطانِ، وتُؤكّدُ الآيةُ بأنَّ معرفةَ اللهِ فطريّةٌ مغروسةٌ في فطرةِ كلِّ إنسانٍ، فالذي يُحافظُ على فطرتِه ويتّبعُ الدُّعاةَ إلى اللهِ سيكونُ في نورِ الله، أمّا الذينَ لا يستجيبونَ ويركنونَ إلى أهوائِهم وشهواتِهم وما يسوّلُ لهُم الشّيطانُ فسوفَ يمسخونَ تلكَ الفطرةَ ويعيشونَ في ظلامِ إبليسَ والعياذُ بالله.
اترك تعليق