إذا كان الإمام (ع) يمتلك هذه القدرات الغيبيّة، فلماذا يعيش الحرمان والمرض والقتل؟
لا يخفى أنّ هذا السؤال يستبطن إنكارين، هما:
1- إنكار علم الإمام (عليه السلام) بالمقدّرات الإلهية، تخلّصاً من محذور إلقاء النفس في التهلكة.
2- إنكار العصمة، للتخلّص من محذور عدم العلم.
ويمكن الجواب عليه من وجهين: نقضاً وحلّاً:
- أمّا نقضاً، فمن وجوه:
أولاً: فكأنّ السائل غفل أو تغافل عن كون الله تعالى هو من أعطى تلك القدرة للإمام (عليه السلام)، ومنَّ عليه بتلك القابليات، فللسائل أن يسأل:
(لماذا لم يغنِ الله تعالى أنبيائه(صلوات الله عليهم)؟)، و (لماذا لم يحصّنهم من القتل؟)، والحال أنّ بعضهم قد نُشر بالمناشير، وبعضهم قد قرض بالمقاريض، وهكذا، فلماذا لم ينصرهم الله تعالى وهو العالم بكل شيء وهو القادر على كل شيء؟
ثم إنّه وبعلم الله سبحانه أنّ إبليس سيغوي العباد ويوردهم إلى جهنم، ويعلم أنّه لن يسجد لآدم(عليه السلام) إذا أمره، فلماذا أمره بالسجود وهو عالمٌ بعصيانه وكفره؟، يقول تعالى: ((...وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) البقرة،34 ألا يعدّ ذلك قبيحاً؟
ثانياً: يمكن النقض بمن يجاهد في سبيل الله تعالى، فالذين أمروا بالجهاد والإقدام على الموت مع علم الكثير منهم بالشهادة، هل يعني أنهم ألقوا أنفسهم بالتهلكة؟ أم أنّ السائل ينكر علم هؤلاء بأنهم سيقتلون.
ثالثاً: بناءً على السؤال، فإنّ الذين يفجّرون أنفسهم الآن في الشوارع على المسالمين، قد ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، فلماذا يا ترى لا نرى من يشكل عليهم؟، مع أنّ الذي يفجّر نفسه عالمٌ بساعة موته، وطريقة موته، ولا نرى من يشنّع عليهم من المنكرين لفضائل أهل البيت(عليهم السلام)، بل جنّدوا مئات الفضائيات لتوثيق أعمالهم الشنيعة، وصبّوها في قوالب المدح، وحثّوا الناس على مثل تلك الأفعال، حتى ملئ العالم بأوصال تلك الوحوش البربرية!!
- وأما حلاً، فمن وجوه:
الوجه الأول: الاقتداء والتأسّي؛ لأنّ الله تعالى نصبهم أئمة للخلق، وحججاً عليهم، وقادةً لهم ليقتدي بهم الخلق ويتأسّى، لاسيّما في البأساء والضراء، والصبر والتضحية في سبيله، لإتمام سُنّة الاختبار والامتحان، ولا شكّ أنّ الله تعالى بعثهم ليوصلوا الناس إلى الكمال، ويُعّدونهم للحياة الأبدية، ولازم هذا الأمر أن يتعامل النبي والإمام (عليهما السلام) مع تلك الآلام والمصائب بحسب ظاهر الحال، كما يتعامل سائر الناس، لا بحسب الواقع، لأنّهم القدوة والأسوة، وإلا لبطل الاقتداء بهم، ولما بقي وجهٌ للاقتداء بهم، فالإمام(عليه السلام) وإن كان يعلم الواقع، لكنّه مأمورُ بالعمل بالظاهر.
الوجه الثاني:
المعرفة والتسليم لله سبحانه: إنّ النبي أو الإمام(عليهما السلام) يعلم بالمقدّرات الإلهية في اللوح المحفوظ، فهو يعلم ما قدّر الله تعالى وما فيه المصلحة في الدين والأحكام، ومصلحة خلقه بأن يكون الإمام(عليه السلام) مقتولاً بالسيف أو السم، ويعلم بالتفاصيل التي قدرّها الله تعالى بمشيئته، والاستجابة لتلك المشيئة تحقيقٌ للإرادة الإلهية، إذ لا يمكن أن يكون عبداً لله تعالى ولا يكون مستجيباً لإرادته، ومسلّماً لأمره في كل الأمور، لذا يسلّم لإرادة المولى سبحانه، لأنّ الله تعالى أحبّ أن يراه مقتولاً أو مسموماً، وبهذا التسليم ينال أعلى الدرجات ومزيد القرب منه سبحانه، فيصبح القتل عنده عبادةً وامتثالاً، لا تهلكةً، وما نال إبراهيم (عليه السلام) تلك المنزلة الرفيعة إذ جعله إماماً، إلا بالتسليم لأمره، قال تعالى: ((فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أرى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا ترى ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ))(1)،إذ أقدم على ذبح ابنه امتثالاً لإرادة الله تعالى، فهل يعدّ قبول إسماعيل(عليه السلام) بالذبح مع علمه إلقاءً لنفسه بالتهلكة؟، وهكذا باقي الأنبياء(صلوات الله عليهم) وما مرّوا به مع علمهم، فقد أقدموا على تحقيق إرادة الرب (عزّ وجل)، إذن فتحمّلهم لهذه المصائب والبلايا، غاية العبودية والتسليم والانقطاع لربهم عز وجل، ولذا فهو يحتجّ بهم على الخلق.
الوجه الثالث:
إنّ موضوع التهلكة يتحقّق في صورة الإقدام على قتل النفس، من دون حكمة، أو من دون تحصيل لمنفعة كبرى، وإقدام الإمام (عليه السلام) على التضحية في سبيل الله خارج تخصّصاً عن التهلكة، فهو إذ يقدم على الشهادة؛ لأنّ مصلحة الشهادة وكرامة الشهيد أكبر من القتل، ولذا يقدم جميع العقلاء عليها دفاعاً عن الحُرم العرض والأرض وتعدّ الشهادة من أقدس القيم، والشهيد من أنبل الناس عند جميع العقلاء، على اختلاف نحلهم وأمكنتهم وعاداتهم وتقاليدهم، واختلاف أديانهم وشرائعهم، فما بالك بمن يقدّم نفسه فداءً للرب (عزّ وجل)، وقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: (أنزل الله تعالى النصر على الحسين (عليه السلام) حتى كان بين السماء والأرض ثم خُيّر بين النصر أو لقاء الله فاختار لقاء الله تعالى)(2).
وبهذه الوجوه يندفع الإشكال في مسألة المرض والفقر والحرمان، وغيرها من الإشكالات التي يمكن أن تثار حول هذه المسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الصافات، 102
2- الكافي، طبعة دار الحديث، ص 647
اترك تعليق