ماهي مشروعية الدولة المدنية في فكر ال محمد(ص)
السلام عليكم ورحمة الله
باتَ واضحاً في التصور السياسي أنّ الدولة المدنية توضع في قبال الدولة الدينية، بمعنى أنّ الدولة المدنية تقوم على استبعاد الدين عن الساحة السياسية والاجتماعية، ومن هنا يعدّ السؤال مستغرباً عن شرعية الدولة المدنية في الفكر الإسلامي الشيعي، فالإسلام بوصفه مشروعاً يتبنى الإصلاح الشامل لابدّ أن يحتفظ بتصوره الخاص في الجانب السياسي والاجتماعي، ومن هنا لا يمكن أن نتصورَ قبوله للمشاريع المنافسة وبخاصة التي تقوم على استبعاده وحرمانه من ممارسة دوره الإصلاحي، والتشيع بشكل خاص يرتكز على الإمامة كسلطة إلهية، وهي في نظر الشيعة الضمانة لاستمرار مسيرة الإسلام والوصول به إلى غاياته النهائية، فالإسلامُ في التصور الشيعي له حق الولاية على الناس، وبالتالي لا يرتقي أحد لزعامته السياسية ما لم يكن ممثلاً فعلياً لهذه الرسالة، فالمجتمع الإسلاميّ في المنظور الشيعي بناء هرمي يكون على رأسه الإمام، والولاية والموالاة هي التي تحقق الترابط والانسجام الداخلي لهذا المجتمع، ويكتسب هذا المجتمع شرعيته الإسلامية من خلال الإمام أو من ينوب عنه من مرجعيات فقهية، فالولاء في هذا المجتمع ليس للنظام السياسي الذي يحكم، وإنَّما للإسلام الذي يتمثل في الإمام أو المرجعيات التي تنوبُ عنه، وبهذا تتحقق أول مفارقة بين المجتمع السّنيّ الذي ينتظم ويتجه ولاؤهُ نحو النظام السياسي الذي يحكم، وبين المجتمع الشيعي الذي لا يعترف بأيّ نظام وسلطة خارج سلطة الدين المتمثلة في الإمام أو الفقهاء.
هذا هو الإطارُ العام الذي نفهم فيه شرعية الانتماء السياسي إسلامياً، بحيث إذا سارت الأمور بحسب ما أراد الإسلام لما كان هناك حاجة للحديث عن الدولة العلمانية أو المدنية أو الوطنية أو غير ذلك من المسميات، إلا أنّ التاريخ والواقع قد كشف لنا إلى أي مدى تم استبعاد الإسلام واهماله، حيث لم تنقاد الأمة للقيادات التي أمر الله بها؛ بل أقدمت على محاربتها ومحاصرة أنصارها، وبعد غيبة الإمام المهدي (سلام الله عليه) اتجه أنصار الإمامة إلى الخطة البديلة وهي ضرورة الرجوع للمرجعيات الفقهية بوصفها الخيار الأفضل للمحافظة على انتماء المسلم للإسلام، وما تشهدهُ الساحة السياسية من تعقيد وما تعانيه المجتمعاتُ من صراع طبقي وثني وديني فتحَ الباب أمامَ خيارات متعددة للأنظمة السياسية، وحركة الإجتهاد الشيعي قادرةٌ على مقاربة كلّ ذلك بعقلية إسلامية للكشف عن النظام الأفضل إلى حين ظهور الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه)، فالإسلام لا يتوقفُ عند الأشكال والصور وإنما يسمحُ بحركة من التغير في إطار القيم الدينية، وعليه يجب أن يكون الضابط في قبول أيّ نظام سياسي هو مدى قربه أو بعده عن هذه القيم، ولكي يتضحَ ذلك نلخص الحديث في مجموعة من النقاط.
• الدولةُ بالمفهوم الحديث لا تعتبر النموذج النهائي الذي تتعطل معه القدرة الإبداعية للعقل الإنساني وإنما الخياراتُ تظلّ مفتوحة أمام أنظمةٍ وأشكال غير منحصرة لتقديم حضارة للإنسان أكثر انسجاماً بين الروح والمادة. فاهتمامُ الدولة الحديثة بالحاجات المادية جعلها خياراً ناقصاً لا يمثل الطموح الإنساني.
• الدينُ بالمعنى العام يمثلُ الضمير الأخلاقي للإنسان، كما يمثل تطلعات الروح إلى عالم القيم والفضيلة، فلا تستقيم حياة الإنسان بعيداً عنه بوصفه عاملَ النقد الدائم للواقع الفاسد، فوظيفة الدين هي وظيفة نقدية أو هو الروح الأخلاقية التي تمنحُ الحضارة الإنسانية الحيوية والفاعلية، وبالتالي مقاربة الدين ضمن الإطار القشري يعدّ تشويهاً له وطمساً لحقيقته، وهذا ما تقعُ فيه المدارس العلمانية عندما تصوّرُ الدينَ ضمن الشكل الصوري الجامد، في حين أنّ الدين لا يحتفظ بشكل محدّد ناهيكَ أن يكون جامداً، وإنما الدينُ هو القيم التي تسري في جسد الحضارة كما تسري الروح في جسد الإنسان. فالإسلام مثلاً ليس إلا نظاماً قيمياً وأخلاقياً يقوم بدور المراقب للحركة المتجددة للإنسان ويعملُ على ضبط تلك الحركة وفقاً لتلك القيم الأخلاقية، فالدين يؤكد مثلاً على قيمة العدالة إلا أنهُ لا يفرض شكلاً محدداً أو طريقة إجرائية لتحقيق العدالة وإنما يوكل الامر للإنسان بحسب الظرف الزماني الذي يعيشه، وفي هذه المرحلة يقوم الدين بدور التوصية وحثّ الإنسان بضرورة تطبيق هذه القيم، وعندما يقصّر الإنسان في تحقيق تلك القيمة لا يتحمل الدينُ مسؤولية ذلك التقصير، بل نجد أنّ للدين دوراً ثانياً وهو النقد للتجارب المنحرفة عن القيم. وبالتالي إيّة محاولةٍ لإبعاد الدين عن الحياة هي إبعادٌ للقيم الأخلاقية عن الحياة وإبعادٌ للسلطة النقدية التي تمارس دور الرقيب على الواقع التطبيقي لتلك القيم وهو بالتأكيد خيار خاطئ يؤدي حتماً إلى تشويه صورة الإنسان.
• على المستوى النظري يمكنُ للعدالة أن تتحقق سواءٌ اعتبرنا النظام الحاكم يستمدّ نظامه القيمي من الدين أو يستمدّهُ من المادة، إلا أنّ الفرق يكمنُ في تحديد مفهوم العدالة بين التجربتين، فالعدالة المادية لا يمكنها تحقيق الإعتدال والتوازن بين الحاجات المادية والحاجات المعنوية، لكونها لا تعترف بتلك الحاجات من الأساس، في حين أنّ العدالة في المفهوم الديني تعترف بجميع الحاجات الإنسانية وتعمل على توزيع الفرص بينها بحيث لا تكون حاجة على حساب حاجة أخرى.
• في الإطار النظري لا يمكن تقديم الدولة العلمانية على الدينية، وذلك إذا فهمنا العلمانية بوصفها إفراطاً في الجانب المادي وتفريطاً في الجانب الروحي والأخلاقي للإنسان، وفي المقابل إذا فهمنا الدين ضمن التوازن الذي يحقق تكاملاً للإنسان مادياً ومعنوياً، حينها تصبحُ العلمانية خياراً ناقصاً لا يكتمل إلا بالدين. إلا أنّ المفارقة تكون واضحة إذا انطلقنا في التقييم من واقع التجربة الإنسانية، فالتجارب الدينية في الحكم قد غلب عليها الطابع السلبي، في حين إننا نجدُ التجربة العلمانية المعاصرة وبخاصة في الدول الاوربية قد مثلت حلماً للأجيال حتى الإسلامية، الأمر الذي يجعل الصورة مشوشة يصعب معها التمييز الموضوعي بين التجربة الدينية والتجربة العلمانية بل قد تفقدُ التجربة الدينية روح المنافسة من الأساس، في حين أنّ التقييم المحايد والموضوعي يقودنا إلى القول: لا التجربة العلمانية تمثل الصورة المثالية لما يطمح له الإنسان، ولا التجارب الدينية تمثل تعبيراً صادقاً عن الدين، ومن هنا نحن نؤكد على أنّ النقاش العلماني الديني يجب إعادة طرحهِ بنفَس نزيهٍ يبحث عن ما يمثل طموحاً للإنسان، ومن الخطأ البحث عن الطموح الإنساني ضمن المقارنات التنافسية لكونها تمنع الإنسان من التفكير في الخيارات خارج حدود ما هو مجرّب بالفعل، فبالقدر الذي يمكنُ جمع شواهد مشوّهة للتجربة الدينية يمكن جمع شواهد أيضاً مشوهة للتجربة العلمانية، الأمر الذي يتطلب منّا أيجاد مفاهيم جديدة للدولة وللدين وللإنسان بعيداً عن الاسقاطات السلبية للتجارب التاريخية. وعليه فإنّ التيار الديني والتيار العلماني يجبُ أن يرتقيَ إلى مستوى الفهم الإنساني والبحث من جديد من أجل إعادة فهم الإنسان روحياً ومادياً ومن ثم إيجاد النظام الذي يلبّي طموحاته بعيداً عن جعل البحث محصوراً بين الخيارات المجربة، وإذا تمّ فهم الإنسان فهماً حقيقياً وواقعياً على أنهُ روح وجسد يعيش في الدنيا ويتطلع إلى الأخرة، حينها لا يمكن النظر الى الدين بهذه السطحية المتفشية بين التيارات اللا دينية.
• في المحصلة إنّ الإصلاح السياسيّ يهدفُ إلى تحقيق العدالة، والعدالة مضافاً إلى أنها من القيم الفطرية هي ايضاً قيمة إسلامية، والإنسان مسؤولٌ على المستوى الفطري وعلى المستوى الديني من تحقيق العدالة في الواقع، وعليه مسؤولية الإخفاق تلاحق الإنسانَ بوصفه كائناً له إرادة لا بوصفه كائناً متديناً أو علمانياً.
اترك تعليق