ما هو منهج الأشاعرة في النبوة؟
السلام عليكم ورحمة الله
بعد أن تاب أبو الحسن الاشعري من منهج الاعتزال والتحاقه بالحنبلية ومنهج أهل الحديث، ظل تأثره بالمنهج المعتزلي ظاهراً في محاولته عقلنة عقائد أهل الحديث والدفاع عنها في وجه خصومهم، الأمر الذي أدى إلى وقوعه في الكثير من التناقضات كما هو الحال في موضوع رؤية الله أو في موضوع كلام الله أو موضوع فعل العبد أو غير ذلك من الموضوعات العقائدية، ويمكننا رصد هذا التناقض أيضاً في موضوع النبوة، حيث نجد أن امر النبوة عندهم دائر بين ابطالها من الأساس، أو التناقض مع ما اسسوه في منهجهم، ولأثبات ذلك لا بد من عرض موجز لمنهجهم فيما يخص النبوة:
أول الموضوعات التي يتم بحثها في موضوع النبوة هي: هل النبوة واجبة أم ممتنعة أم جائزة؟، وقد اختار الاشاعرة جواز النبوة بخلاف المعتزلة الذين اختاروا الوجوب من باب اللطف الإلهي، وذلك كله في قبال الملاحدة والزنادقة الذين اختاروا امتناعها.
وقد صرح علماء الاشاعرة بجواز النبوة كالباقلاني والجويني والشهرستاني، والغزالي، والبغدادي، والآمدي، وغيرهم. حيث يقول الآمدي: "مذهب أهل الحق: أن النبوات ليست واجبة أن تكون، ولا ممتنعة أن تكون، بل الكون وأن لا يكون بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجعها سيان، وهما بالنظر إليه سيان» (غاية المرام ص318).
ويستدل الجويني على جواز النبوة من باب كونها ليست مستحيلة في نفسها، حيث يقول: "والدليل على جواز إرسال الله الرسل وشرْعِ الملل: أن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها؛ كاجتماع الضدين، وانقلاب الأجناس، ونحوها" (الإرشاد ص306).
ومن الواضح أن القول بالجواز يدخل النبوة في دائرة الإمكان، بمعنى أنها متعلقة فقط بمشيئة الله تعالى بعيداً عن أي حِكمة أو تعليل، وقد تخوف الاشاعرة من القول بالتعليل نفياً للغرض في فعل الله تعالى، إلى درجة أنه دفعهم إلى رفض أن يكون في القرآن لام تعليل، ويسمون أصلهم هذا (تنزيه الإله عن الغرض في أفعاله). فأنكروا أن يكون لأفعاله تعالى - ومنها إرسال الرسل - حكمةٌ أو غرضٌ أراد الله تعالى تحقيقه بهذا الفعل، بل الأمر كله راجعٌ إلى المشيئة المحضة، فهو تعالى - حسب تعبيرهم - (يفعل لا لشيء).
ومما لا شك فيه أن كل الأفعال راجعة إلى مشيئته تعالى إلا أن ذلك لا يمنع تعلق هذه المشيئة بحِكمة نفياً للعبث في فعله تعالى، كما لا يمنع تعلق غيرها من الصفات كالرحمة والحِكمة. وعليه فإن من الحقائق المسلم بها هي أن الله تعالى لا يفعل شيئًا مجردًا عن الحكمة مطلقًا، وأن من أعظم ما تتجلى فيه هذه الحكمة إرسال الرسل، وهذا ما صرح به قوله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) وما يؤكد على أن الأمر زائدٌ على مجرد المشيئة أن الكفار لما استدلوا على شركهم بالمشيئة فقالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ...) رد الله تعالى عليهم بقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فرد الله احتجاجهم بالمشيئة بالتأكيد على أنه ارسال الرسل من أجل نفي الشرك وعبادة الطاغوت، وعليه فقد جعل حكمة إرسال الرسل دافعة لشبهة الاحتجاج بالمشيئة الكونية. ومضافاً إلى كون الاشاعرة قد خالفوا وجود الحِكمة في ارسال الرسل، قد خالفوا أيضاً وجود الرحمة في بعثة الأنبياء، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) حيث بينت الآية أن الرحمة هي أحد مبررات النبوة.
وعندما تحدث الاشاعرة عن معجزات النبوة عملوا على تعليل حدوث المعجزة ولم يلتزموا بأصلهم الذي اصلوه وهو كون الله يفعل لا لشيء، وهذا تناقض في المنهج، حيث قالوا في موضوع المعجزة: إن الله تعالى يعطي الأنبياء معجزات لتدل على صدقهم وتصديق الله لهم، فعللوا فعل الله وأظهروا حكمته، وبهذا ناقضوا أصلهم الكلي.
وأما فيما يخص اثبات النبوة فاستدل الأشاعرة عليه بعدم الاستحالة والمعجزة، وهما في الواقع دليل واحد لأن عدم الاستحالة له علاقة بالإمكان العقلي ومرحلة الثبوت ولا علاقة له بمرحلة الاثبات الفعلي والعملي، وهنا يظهر التهافت في قول الجويني الذي ذكرناه سابقاً عندما قال: "إن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها؛ كاجتماع الضدين، وانقلاب الأجناس". فكون وقوع النبوة ليس من المستحيلات لا يدل على صدق مدعي النبوة، وإن صح الاستدلال بعدم الاستحالة لصح ذلك لكل مدعي للنبوة من أمثال مسيلمة الكذاب، إذ لا يترتب على إمكانية نبوته مستحيل عقلي.
وكذلك قادهم حصر الدليل على النبوة في المعجزة إلى تناقضات أخرى، حيث قال الجويني في تعقيبه على كلامه السابق بقوله: "فصل: لا دليل على صدق النبي غير المعجزة" ولذا نجدهم اضطروا بأن جعلوا لكل نبي معجزة فقالوا معجزة نوح (عليه السلام) هي (الطوفان)، ومعجزة هود (عليه السلام) هي (الريح العقيم). وعلى هذا لا يكون قوم نوح وهود ملزمين بالإيمان إلا عند وقوع الطوفان وهبوب الريح، وإلى أن يتأكدوا من كونها معجزة يمكنهم الاعتصام من الطوفان في رؤوس الجبال، أو يتأكد قوم هود أنه ليس عارضًا ممطرهم، وقبل أن يحصل لهم اليقين بالمعجزة ليس عليهم أن يؤمنوا، إذ كيف يؤمنوا ودليل صدق النبي لم يثبت بعد؟! وبعد استيقانهم من صدق المعجزة يكونوا قد ماتوا أو أشرفوا على الموت يقينًا، وحينئذٍ فيلزم أحد أمرين، الأول: إما أنهم آمنوا وأدخلهم الله الجنة، وهذا باطلٌ قطعًا، قال تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا) وهذا شبيه بقول فرعون لما أدركه الغرق، قال تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). والثاني: إما أنهم لم يؤمنوا بعد، ويكون مصيرهم بلا ريب هو النار، فلا جدوى للمعجزة ولا حكمة فيها.
وعليه فإن حصر دليل النبوة في المعجزة يتضمن تالي فاسد، فمثلاً القول إنه لا دليل على صدق موسى (عليه السلام) إلا انقلاب العصا حيَّةً ونحوها، يمنح هذا القول لاتباع السامري تبريراً في اتباعهم السامري عندما قلب لهم الزينة عجلاً جسداً له خوار، ولجاز لهم أن يقولوا إن انقلاب الزينة إلى عجل أعظم عندنا من انقلاب العصا حيَّة؟!
كما أن الاشاعرة قد أنكروا التحسين والتقبيح العقليين، الأمر الذي يقتضي عدم قبح اجراء المعجزة على يد الكذابين، فليس في الكذب قبحاً ذاتياً بحسب زعم الاشاعرة، ولذا قيل لهم كما في غاية المرام: "لا سبيل إلى القول باستحالته عقلًا، إذ قد منعتم أن يكون الحُسن والقبح ذاتيًّا، ولا سبيل إلى إدراكه بالسمع، إذ السمع متوقفٌ على صحة النبوة، والنبوة متوقفةٌ على استحالة الكذب في حكم الله، فلو توقف ذلك على السمع كان دورًا ممتنعًا" (غاية العرام ص 329). وقد اعترف الآمدي باضطراب الأشاعرة في الجواب عن هذه الشبهة، التي لا مناص لهم حيالها إما ابطال النبوة، وإما الاعتراف بالتناقض، وإما التراجع عن أصلهم في التحسين والتقبيح العقليين، فقد حاول الآمدي الإجابة عنها من دون التنازل عن اصلهم في التحسين والتقبيح فقال: "والذي يخُمد ثائرةَ هذا الإشكال ... وإن كان عند الإنصاف في التحقيق عويصًا هو أن يقال: إن القول باستحالة الكذب في حق الله تعالى مما لا يستند إلى سمع، ولا إلى التحسين والتقبيح، وأن حَصْر مدرك ذلك في هذين باطل بل المدرك في ذلك يقال: قد ثبت كون الباري تعالى عالمًا متكلمًا، وأن كلامه في نفسه واحد، وذلك لا يقبل الصدق والكذب، وإنما يقبل ذلك من جهة كونه خبرًا، والخبرية له من جهة متعلقه لا غير" (غاية المرام، ص330 - 331) ولكي يدفع الآمدي الاشكال اضطر إلى القول بالكلام النفسي الذي لا يتصور فيه الصدق والكذب في ذاته وإنما بمتعلقاته، وهذا تأسيس لأصل أخر اضطر إليه الشاعرة لأثبات قدم القرآن عندما ارجعوه إلى الكلام النفسي القائم بالذات، وهو اصل فاسد قائم على مشابهة الخالق بالمخلوق. أما الشهرستاني فقد اضطر أن يجيب بقوله: "نحن نجوز الإضلال على الله تعالى، ولكن بشرط أن لا يقع خلاف المعلوم، وبشرط ألا يتناقض الدليل والمدلول، ولا يلتبس الدليل والشبهة .." (نهاية الإقدام، ص440) وهكذا حتى لا يتنازلوا عن أصلهم في التحسين والتقبيح قالوا بجواز الإضلال على الله.
وهكذا نجد أن المسألة برمتها مضطربة في منهج الاشاعرة.
اترك تعليق