ما هو الفكرُ التّنويريّ ؟ و مَن بدأه ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

مُصطلحُ التّنوير لهُ علاقةٌ بفترةٍ تاريخيّةٍ عاشَت فيها أوروبا تحوّلاً فكريّاً وثقافيّاً وعلميّاً في القرنِ الثّامنِ عشر، وأهمُّ ملامحِ هذا العصرِ أنّهُ مهّدَ الطّريقَ للقضاءِ على السّلطةِ الملكيّةِ والسّلطةِ الكنسيّةِ في أوروبا، فأحدثَ بذلكَ مُنعطَفاً تاريخيّاً مُهمّاً ساهمَ في بناءِ الحضارةِ الغربيّةِ الحديثةِ، فقَد كانَت أوروبا تعيشُ ظلاماً حالِكاً في عصورِها الوسطى، وكانَت الكنيسةُ تفرضُ تعاليمَها المُتخلّفةِ على الشّعوبِ الأوروبيّةِ مُستعينةً بسُلطتِها الرّوحيّةِ وبالسّلطةِ السّياسيّةِ المُتحالفةِ معها، فكانَ عصرُ التّنويرِ هوَ عصرُ الإنعتاقِ منَ الجهلِ الذي كانَت تُمارسُه الكنيسةُ، ومِن هُنا يمكنُنا أن نقولَ أنَّ مفهومَ التّنويرِ الأوروبيّ قامَ في الأساسِ على إلغاءِ دور الدّينِ في الحياة، وهُنا يجبُ التّنبيهُ إلى أنَّ مُقاربةَ الأديانِ إنطلاقاً مِن عصرِ التّنويرِ مُقاربة خاطئة، فالدّينُ الذي ثارَ عليهِ العُلماءُ في ذلكَ العصرِ هوَ الدّينُ الكنسيّ الذي عملَ على مُعاداةِ العلمِ والتّطوّرِ والحُرّيّاتِ وغيرِ ذلكَ منَ القيمِ الحضاريّةِ، فكانَ منَ الطبيعيّ أن يُعملَ على إبعادِه مِن ساحةِ الحياةِ السّياسيّةِ والعلميّةِ بوصفِه عقبةً أمامَ عجلةِ التّقدّم والتّطوّر، وهذا بخلافِ الدّينِ الإسلاميّ الذي يقومُ في الأساسِ على تكريسِ قيمِ العلم والتّقدّم وإستنهاض الإنسان مادّيّاً ومعنويّاً، ومِن هُنا يمكنُنا أن نُشيرَ إلى الخطأ الذي وقعَ فيه بعضُ المُفكّرينَ في الوسطِ العربيّ والإسلاميّ عندَما تصوّروا أنَّ النّهضةَ في المُجتمعاتِ الإسلاميّةِ مُتوقّفة على إبعادِ الإسلامِ منَ السّاحةِ الحياتيّةِ، فالإشكالاتُ التي عانَت منها أوروبا تختلفُ عنِ الإشكالاتِ التي يُعاني منها واقعُنا الإسلاميّ، ولذا ليسَ منَ الموضوعيّةِ في شيءٍ فرضُ المفهومِ الأوروبيّ للتّنويرِ على المُجتمعاتِ العربيّةِ والإسلاميّةِ، ففي الوقتِ الذي إكتشفَت فيه أوروبا أهمّيّة العقل وطالبَت بإعمالِه في قبالِ الكنيسةِ التي تعملُ على مُصادرتِه كانَ القرآنُ قبلَهم بقرونٍ طويلةٍ يأمرُ الإنسانَ بالعقلِ والتّعقّلِ في كثيرٍ مِن آياتِه، ولِذا ليسَ منَ الإنصافِ مُقارنةُ جهلِ وظلامِ الكنيسةِ بعلمِ ونورِ القرآنِ الكريمِ، فالتّنويرُ حقيقةٌ مِن حقائقِ الإسلامِ بوصفِه مصدراً لكُلِّ ما يُمثّلُ عاملاً للنّهوضِ والبناءِ الحضاريّ، ولذلكَ فإنَّ التّنويرَ الإسلاميَّ هوَ حركةُ إحياءٍ إسلاميٍّ في الإتّجاهِ الذي يُحقّقُ المقاصدَ العُليا للإسلامِ، وقَد عملَ كثيرٌ مِن مُفكّري الإسلامِ على إستنهاضِ الأمّةِ الإسلاميّةِ مِن خلالِ الرّجوعِ بها إلى تعاليمِ الإسلامِ، فإذا كانَت الكنيسةُ في الغربِ هيَ سببُ التّخلّفِ فإنَّ إبتعادَ المُسلمينَ عَن قُرآنِهم هوَ السّببُ في تخلفِهم، وعليهِ فإنَّ التّنويرَ الإسلاميَّ ليسَ إلّا دعوةً لرجوعِ الأمّةِ إلى قُرآنِها وتفعيلِ ما فيهِ مِن قيمٍ ومبادئ تمَّ إهمالها مِن قبلِ عامّةِ المُسلمين. 

أمّا بخصوصِ ظهورِ هذا المُصطلحِ في الوسطِ الإسلاميّ فالبعضُ قَد يؤرّخُ لذلكَ بحركةِ جمالِ الدّين الأفغانيّ وتلميذِه مُحمّد عبده ومَن جاءَ بعدَهم مِن علماءَ ومفكّرينَ عملوا على بلورةِ رؤيةٍ إسلاميّةٍ تعملُ على بناءِ حضارةٍ إسلاميّةٍ خاصّةٍ تتجاوزُ ما في الحضارةِ المادّيّةِ من إشكالاتٍ، وبذلكَ يحملُ مُصطلحُ التّنويرِ في الإسلامِ مفهوماً مُغايراً لمفهومِه في الغربِ، فإذا كانَ التّنويرُ الغربيّ يقومُ على مقاطعةِ الدّينِ فإنَّ التّنويرَ الإسلاميّ يقومُ على إحياءِ الدّين. 

وعدمُ تمكّنِ الأمّةِ الإسلاميّةِ مِن تحقيقِ الحضارةِ الإسلاميّةِ المنشودةِ، لا يعودُ إلى ضبابيةِ الفكرةِ الحضاريّةِ في الإسلامِ، وإنّما يعودُ إلى إبتعادِ الأمّةِ عن تحمّلِ مسؤوليّتها إتّجاهَ تلكَ الفكرةِ الحضاريّةِ، فإقامةُ نهضةٍ إسلاميّةٍ مسؤوليّةُ جميعِ الأمّةِ وليسَت مسؤوليّةَ العُلماءِ والمُفكّرينَ وحدَهم، ففي الوسطِ الإسلاميّ هناكَ الكثيرُ منَ النّخبِ العلميّةِ النّاضجةِ، وقَد تمكّنَت هذهِ النّخبُ مِن تشخيصِ الإشكالاتِ وبيانِ الحلولِ إلّا أنَّ مسؤوليّةَ التغييرِ منوطةٌ بتبنّي كلِّ الأمّةِ هذا المشروعَ، 

أمّا بالنّسبةِ للمصادرِ لا يمكنُنا تحديدُ مصادرَ بعينِها، وذلكَ لاختلافِها وتعدّدِها وكلُّ باحثٍ يرصدُ المصادرَ التي تُشكّلُ محلاً لإهتمامِه، ففي التّنويرِ الأوروبيّ 

هناكَ الكثيرُ منَ الكتبِ العلميّةِ المُختصّةِ في توثيقِ تلكَ الفترةِ التاريخيّةِ إذا كانَ إهتمامُ الباحثِ تاريخيّاً، وهناكَ ما كتبَهُ فلاسفةُ ذلكَ العصرِ أو ما كتبَ حولَهم لو كانَ إهتمامُ الباحثِ فلسفيّاً، وهناكَ كتبٌ علميّةٌ تشرحُ النّظريّاتِ العلميّةَ التي ظهرَت في عصرِ التّنويرِ مثلَ نظريّاتِ نيوتن إذا كانَ إهتمامُ الباحثِ علميّاً، وهكذا تختلفُ المصادرُ بإختلافِ إهتماماتِ كلِّ باحثٍ، أمّا التّنويرُ الإسلاميُّ فهوَ عنوانٌ عامٌّ يندرجُ تحتَه كلَّ ما كتبَ حولَ مشروعِ النّهضةِ الإسلاميّةِ سواءٌ كانَ ضمنَ عناوينَ عامّةٍ أو ضمنَ عناوينَ تفصيليّة.