الخير والشر في دنيا الله (تعالى ذكره).

: السيد مكي

يمكن تلخيص الجواب عن جميع الإشكالات التي يسوقها بعضٌ بالقول: بأن لا وجود للترجيحات في عملية الخلق، وإنّما الموجود هو الاختلاف، والترجيح هو التفرقة بين الأشياء غير المتساوية في الاستحقاق، وبعبارة أخرى الترجيح يكون من قبل المعطي، أمّا الاختلاف فيكون من قبل الآخذ، كما لو أخذنا أناءين يسع كلَّ واحدٍ منهما عشرة لترات من الماء، ووضعنا أحدهما تحت مصدر ماء، وسكبنا فيه عشرة لترات من الماء، ووضعنا الأخر تحته، وسكبنا فيه خمسة لترات، فهذا ترجيح؛ لأنّ منشأ الاختلاف هنا ليس من ناحية الإناء، وإنّما من الماء للإناء، أمّا إذا كان لدينا إناءان يسع أحدهما عشرة لترات، والآخر يسع خمسة لترات وغمسنا كل منهما في البحر، فإنّ الاختلاف بينهما يستمر؛ لأنّ اختلافهما ناشئ من ناحية استعداد كل منهما وسعته، وليس من ناحية البحر أو قوة اندفاع المياه. 

وقد يرد إشكال مفاده لماذا لم تخلق الأشياء كلها بشكل واحد ودون أي اختلاف؟ وما هو سر الاختلاف؟

والجواب: إنّ اختلاف الموجودات ذاتي من ذاتياتها، ولازم لنظام العلية والمعلول، قال الله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، ولو لم يكن الاختلاف موجوداً بين الأشياء كذاتي من ذاتياتها لصار العالم مختلف عما هو عليه لصار شيئاً آخراً، ونحن نقصد بجملة (ذاتي من ذاتياتها) : أي أن الله تعالى أوجد الأشياء بهذا الترتيب الذي ينتج منه هذا الاختلاف كمثال بسيط: إنّنا نعلم عند تعدادنا الأرقام بأنّ الاثنين تأتي بعد الواحد والأربعة تأتي بعد الثلاثة، وهكذا، فمن هذا الترتيب ينتج الاختلاف، ولو أردنا مخالفة هذا الترتيب لصارت الأرقام شيئاً آخراً. إذن المسألة ليست هي قدرة الله تعالى، أو عدم قدرته على خلق العالم بدون ترجيحات، وإنّما المسألة أنّ العالم لا يستقيم إلاّ بهذا الترتيب الجميل لذا قال الفلاسفة: (ليس بالإمكان أحسن مما كان)، وبعد أنّ أثبتنا أن لا وجود للترجيح الموجب للظلم، وإنّما ما وجد هو الاختلاف، نأتي إلى إشكال الشر فنقول:

إنّ الشرّ أمر نسبي وتوضيحه: إنّ الأشياء تتصف بنوعين من الصفات: الصفات الحقيقية والصفات النسبية، فإذا ثبتت صفة لشيء ما بقطع النظر عن أي شيء آخر، فتلك الصفة حقيقية، فالصفة الحقيقة هي التي يكفي لاتصاف ذات بها فرض الذات والصفة فقط، أمّا الصفة النسبية، فهي التي لا يكفي فيها فرض الموصوف والصفة دون فرض أمر ثالث بعين الاعتبار وقياساً بها، فالصفة حينئذٍ تسمّى نسبية.

وعليه ولكي نفهم الموضوع بصورة أفضل نقول: الله تعالى أهو خير حقيقي أم نسبي؟ لا يمكن إلا أن يكون الله تعالى خير؛ لأنّه خير كل شيء وبدون قياس إلى شيء آخر، الدواء أهو خير حقيقي أم شرّ؟ بالطبع هو خير لمن كان مريضا ويبغي الشفاء، لكن بالنسبة إلى الإنسان السليم المعافى، فإنّه شرّ؛ لأنّه قد يؤدي إلى الموت فيما لو تناوله وهو غير محتاج إليه، وعليه فإنّ الخير يمكن أن يقسم إلى خير حقيقي وخير نسبي، أي صفة حقيقية وصفة نسبية. 

أمّا الشرّ فلا يمكن أن يكون هناك شر حقيقي في الحياة الدنيا، فالمكروب مثلاً وإن كان شرّاً بالنسبة لنا لكنّه بالتأكيد خيراً بالنسبة لأبنائه وأفراد مجموعته، وكذلك العقرب، فهو بالنسبة إلينا شرّ لكنّه بالنسبة إلى أهله ونفسه خير وهكذا دواليك.

وبهذه المقدمة نستطيع أن نفهم شرور الفيضانات والحروب والموت والأمراض، فكل هذه الشرور نسبية، فالفيضانات شرّ؛ لأنّها تدّمر المزروعات والبيوت والمواشي، لكن لو كانت هناك سدود تحبس هذه الفيضانات، وتحوّلها إلى بحيرات جميلة، فبالتأكيد ستكون الفيضانات خير لنا جميعاً، وكذلك الحروب، فإنّها وإن كانت شرّاً بالنسبة إلينا جميعاً، لكنّها لا تخلو من فائدة، فهي تذّكر الإنسان بالموت وبالويلات التي تنتج من أنانيّة الإنسان، وكذلك فإنّ الحروب نتيجة للمنازلات والقصف، فإنّها لا تخلو من جروح، وأمراض ونزيف، وكل ذلك يؤدي إلى تطور الخبرات الطبية في مجال الجراحة والإسعافات الأوليّة، وتجربة الحروب التي مررنا بها خير دليل على ذلك، والموت كذلك فهو شرّ نسبي لكنّه خير على المدى البعيد، فلولا الموت لامتلأت الكرة الأرضية بالناس؛ ولحدث انفجار، وكلنا يذكر حادثة الجارية التي قالت لأحد العباسيين: لو دامت لغيرك لما وصلت إليك.

إذن هناك خير حقيقي وخير نسبي لكن لا يوجد شرّ حقيقي وإنّما الشرور كلها نسبية. وهكذا فإنّ الأمر يدور بين أن يوجد العالم المادي بهذا النظام أو لا يوجد إطلاقاً؛ نفياً لهذه الشرور لكنه – أي عدم ايجاد العالم- يُعتبر خلاف الحكمة أيضاً؛ لأنّ خيره أكثر بمراتب من شرّه الذي هو بالعرض، بل إنّ الكمالات الوجودية لأفراد الإنسان الكاملين وحدها تفوق جميع شرور العالم، فمن ناحية يكون وجود الظواهر الجديدة في أثر انعدام الظواهر السابقة، وكذا بقاء الموجودات الحيّة، فإنّه يؤمن بواسطة الارتزاق من النباتات والحيوانات الأخرى، ومن ناحية أخرى، فإنّ الكمالات النفسانيّة، لأفراد الإنسان يتم الحصول عليها في ظل تحمّل المصاعب والآلام، وأيضاً فإنّ وجود ألوان البلاء والمصائب يكون عاملاً لليقظة من الغفلة والتعرّف على ماهية هذا العالم وأخذ العبرة من الحوادث، وكل ما ازداد علم الإنسان أتسعت معرفته لأسرار هذا العالم والحكم الكامل فيه.