كيف يحصل اليقين عند الانسان ؟

: السيد رعد المرسومي

السّلامُ عليكُم ورحمةُ الله  

في بادئِ الأمرِ لا بُدَّ أن نعرفَ أنّ اليقينَ صفةٌ ذاتُ مراتبَ ودرجاتٍ، وليسَ كلُّ المؤمنينَ الموقنينَ على درجةٍ واحدةٍ منَ اليقينِ، فاليقينُ عندَ الأنبياءِ (عليهم السّلام) غيرُ اليقينِ عندَ الأوصياءِ، ويقينُ الأوصياءِ غيرُ يقينِ العُلماءِ، ويقينُ الشّهداءِ غيرُ يقينِ الآخرينَ، وهكذا الأمثلُ فالأمثلُ؛ ولذلكَ كانَت الجنّةُ مراتبَ مُختلفةً، فمناصبُ الأنبياءِ غيرُ مناصبِ النّاسِ العاديّينَ، ومنصبُ الرّسول الأعظمِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) يفوقُ كلَّ مناصبِ أهلِ الجنّةِ، فاليقينُ الذي تحلّى بهِ الإمامُ علي (عليه السّلام)، ويصفُه بقولِه: (لو كُشفَ لي الغطاءُ ما إزددتُ يقيناً) كما في كتابِ كشفِ الغُمّةِ: ج1 ص170 ، ذلكَ اليقينُ باللهِ هوَ قطعاً غيرُ يقينِ همّامٍ صاحبِ الإمامِ (ع)، الذي ما إن سمعَ كلماتِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) في وصفِ المُتّقينَ، حتّى زهقَت روحُه، فكيفَ الحالُ بهِ لو إنكشفَ لهُ الغطاءُ؟ [ينظرُ نهجَ البلاغةِ، الخُطبة: 193]. إنَّ يقينَ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) يمتازُ بكونِه قد وصلَ إلى مقامِ الإستغراقِ في اللهِ فأصبحَ بعيداً عَن فكرةِ الجنّةِ والنّارِ، بل إنّهُ يرى اللهَ في كلِّ آنٍ، أمّا يقينُ همّامٍ فقَد كانَ عبارةً عنِ الخشيةِ مِن عذابِ اللهِ، فهذا فرقٌ واضحٌ، وأعظمُ مِن ذلكَ يقينُ الرّسولِ الأعظمِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فلولا عظمةُ درجةِ يقينِه لما تحمّلَ رحلةَ الإسراءِ والمعراجِ، فليسَ كلُّ قلبٍ يستطيعُ أن يتحمّلَ ذلك. 

بلِ الكثيرونَ في عصرنا الحاضر ممَّن يُشكّكُ في مسألةِ الإسراءِ والمعراجِ؛ لأنّهُ يراها ثقيلةً على فكرِه الصّغير. 

ثمَّ إنّه لابدَّ منَ الإشارةِ إلى أنَّ اليقينَ قابلٌ للضّعفِ والشّدّةِ، وذلكَ مُرتبطٌ بمقدار المعرفةِ التي يحملها الإنسانُ عَن ربِّه، فكلّما إزدادَت معرفتُه بهِ فقَد إرتفعَ يقينُه، وإزدادَ عملُه الخيّرُ، وكلّما ضعفَت معرفتُه بربِّه فقَد قلّ يقينُه، وخفَّت أعمالُه في الميزانِ؛ فلذلكَ ذكرَ العلماءُ درجاتِ اليقينِ، إستلهاماً منَ القرآنِ الكريمِ، وهيَ: عينُ اليقينِ، وحقُّ اليقينِ، وعلمُ اليقينِ. 

 

إنَّ الرّكونَ والإيمانَ بالتّوحيدِ يُلهمُ الإنسانَ المؤمنَ قوّةً روحيّةً عظيمةً جدّاً، لأنّهُ عندَما ينظرُ إلى ربِّه في تحرّكِه، ويفكّرُ بربِّه في كلِّ فكرةٍ، ويذكرُ ربَّه في كلِّ قولٍ، ويستشعرُ عظمةَ الرّبِّ في قلبِه، فإنَّ ذلكَ يكونُ مدعاةً لإنشراحِ الصّدرِ، وإستقبالِ الفيضِ الرّبّانيّ الذي يفيضُ على الرّوحِ قوّةً، ويجعلُها تذلّلُ الصّعابَ، بَل تنقادُ لها الأمور. 

إذ يروى عنِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام) أنّهُ قالَ: (إنَّ عيسى بنَ مريم (عليه السّلام) كانَ مِن شرائعِه السّيحُ في البلادِ، فخرجَ في بعضِ سيحِه ومعهُ رجلٌ مِن أصحابِه قصيرٌ، وكانَ كثيرَ اللّزومِ لعيسى (عليهِ السّلام)، فلمّا إنتهى عيسى إلى البحرِ، قالَ: بسمِ اللهِ، بصحّةِ يقينٍ منهُ، فمشى على ظهرِ الماءِ، فقالَ الرّجلُ القصيرُ، حينَ نظرَ إلى عيسى جازَه: بسمِ اللهِ، بصحّةِ يقينٍ منه، فمشى على الماءِ ولحقَ بعيسى) [الكافي: ج2 ص306]. لأنّهُ كانَ على معرفةٍ يقينيّةٍ تامّةٍ بالنّبيّ عيسى (عليه السّلام)، وعلى أساسِ هذهِ المعرفةِ مشى على الماءِ، فالوصولُ إلى هذهِ الدّرجاتِ ليسَ خيالاً ولا أمراً مُستحيلاً، بَل هوَ واقعٌ لا يمكنُ إنكارُه. ولذلكَ جاءَ في الحديثِ القُدسيّ المشهور: (يا ابنَ آدمَ أنا أقولُ للشّيءِ كُن فيكونُ أطعني فيما أمرتُك أجعلُك تقولُ للشّيءِ كُن فيكون) [بحارُ الأنوار: ج90 ص376]. 

وهكذا يمكنُ تفسيرُ قلعِ بابِ خيبرَ مِن قِبلِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام)، والتي لم يكُن يقدرُ على فتحِها وإغلاقِها إلّا أربعونَ رجُلاً، بينَما تقدّمَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السّلام) وأخذَه بيدِه، وقلعَه منَ الحصنِ، ليجعلَ منهُ جِسراً على الخندقِ، تعبرُ عليهِ جيوشُ الإسلامِ. [ينظرُ أمالي الشّيخِ الصّدوق (رحمَهُ اللهُ): ص399 ]، فقد رويَ أنَّ أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) قالَ في رسالتِه إلى سهلٍ بنِ حنيف (رحمَهُ اللهُ): (واللهِ، ما قلعتُ بابَ خيبرَ ورميتُ بهِ خلفَ ظهري أربعينَ ذراعاً بقوّةٍ جسديّةٍ ولا حركةٍ غذائيّةٍ لكِن أُيّدتُ بقوّةٍ ملكوتيّةٍ، ونفسٍ بنورِ ربِّها مضيئةٍ وأنا مِن أحمدَ كالضّوءِ منَ الضّوء) الحديثُ. [أمالي الشّيخ الصّدوق (رحمَه الله): ص514 ].

فهذهِ الأمورُ يقفُ أمامَها العقلُ المادّيُّ حائراً مذهولاً لأنّهُ لا يجدُ لها تفسيراً، بعدَ أن حجّمَ النّاسُ أنفسَهم، وقيّدوا أفكارَهم بالمادّةِ، وإبتعدوا عنِ الغيبِ والرّوحِ، التي لا تعرفُ لها حدودٌ مُعيّنةٌ، فيحاولونَ أن يُكذّبوا هذهِ الأخبارَ، ويصفوها بالخرافةِ، ولكِن هيهاتَ فإنَّ اللهَ يأبى إلّا أن يُتمَّ نورَه، فقد تحدّثَت الأخبارُ لدى عامّةِ المُسلمينَ بفضائلِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السّلام)، وأكّدَت على هذهِ الأمورِ عينَ الواقعِ، ولكنَّ حالَ بينَ هؤلاءِ وبينَ تصديقِ ذلكَ، الغشاواتُ والحجبُ التي راكموها على قلوبِهم. وصاروا كما قالَ تعالى عنهم: (مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي استَوقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءت مَا حَولَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِم وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبصِرُونَ * صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لاَ يَرجِعُونَ) [البقرة:17].. 

 

واليقينُ ـ كما مرّ ـ صفةٌ كماليّةٌ يصلُ بها الإنسانُ إلى كمالِه الرّوحيّ المُطلقِ، وهوَ الأُنسُ والإكتفاءُ والإعتمادُ على اللهِ عزَّ وجلّ فقَط، ولهذهِ الصّفةِ ثمراتٌ عظيمةٌ جدّاً في الحياةِ الدّنيا.

منها: أنَّ المُتّقي يرى السّعادةَ العُظمى في خدمةِ الآخرينَ للهِ، حيثُ يسعدُ ويفرحُ عندَما يقدّمُ خدمةً أو عملاً ما لشخصٍ مِن أجلِ اللهِ، يقولُ الإمامُ الصّادقُ (عليه السّلام): (كانَ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السّلام) لا يسافرُ إلّا معَ رفقةٍ لا يعرفونَه ويشترطُ عليهم أن يكونَ مِن خدمِ الرّفقةِ، فيما يحتاجونَ إليه، فسافرَ مرّةً معَ قومٍ، فرآهُ رجلٌ فعرفَه، فقالَ لهُم: أتدرونَ مَن هذا؟ قالوا: لا. قالَ: هذا عليٌّ بنُ الحُسين (عليهِ السّلام). فوثبوا، فقبّلوا يدَه ورجلَه، وقالوا: يا ابنَ رسولِ اللهِ، أردتَ أن تُصلينا نارَ جهنّمَ لو بدرَت مِنّا إليكَ يدٌ أو لسانٌ، أما كنّا قد هلكنا إلى آخرِ الدّهرِ فما الذي يحملك على هذا؟ فقالَ: إنّي كنتُ سافرتُ مرّةً معَ قومٍ يعرفونني، فأعطوني، برسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، ما لا أستحقُّ به، فإنّي أخافُ أن تعطوني مثلَ ذلكَ، فصارَ كتمانُ أمري أحبَّ لي) عيونُ أخبار الرّضا (عليه السّلام): ج2 ص145. هذه صورةٌ وأنموذجٌ مِن أحوالِ المُتّقينَ، الذينَ تجاوزَت أرواحُهم وأفكارُهم هذهِ الدّنيا وتجاوزَت حبَّ الذّاتِ، إلى أن صارَت تنظرُ إلى الآخرينَ وكأنّها تنظرُ إلى نفسِها، ويقومُ الإنسانُ الموقنُ بخدمةِ النّاسِ، ويشعرُ بأنّهُ يخدمُ نفسَه، ويُقدّمُ الخيرَ إليها، فيسعدُ حينَما يسعدُ النّاسَ، وكذلكَ الشّهيدُ، فهوَ ذلكَ الإنسانُ الذي وصلَ إلى حالةٍ منَ اليقينِ بربِّه، وإنقطعَ عنِ الدّنيا تماماً، وتجاوزَ أفقَ الدّنيا إلى الآخرةِ، فهوَ يجاهدُ ويخرجُ مُقاسياً الألمَ ونزفَ الدّماءِ، مِن أجلِ أن يعيشَ الآخرونَ؛ إذ إنّه يعي تماماً بأنّهُ يموتُ مِن أجلِ أن يعيشَ الآخرون. 

فهذهِ كلُّها مِن ثمراتِ اليقينِ، وهيَ أعمالٌ تخدمُ البشريّةَ وتؤمّنُ عيشَها الرّغيدَ، وتحافظُ عليها. 

 

ومن الثمراتِ الأخرى، أنّ الموقنَ لا ينفكّ يقدّم صالحَ الأعمال، لأنهُ يشعر أنها الرصيدُ الروحيّ له في الدنيا، وأنّها رصيدهُ في الآخرة، فتراهُ يقدّم الخدماتِ الاجتماعية للناس على إختلافها. 

قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام) في خطبة يبيّن فيها صفة المتقين: (عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ مِن أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيهِ عَبداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفسِهِ فَاستَشعَرَ الحُزنَ وَ تَجَلبَبَ الخَوفَ فَزَهَرَ مِصبَاحُ الهُدَى فِي قَلبِهِ وَ أَعَدَّ القِرَى لِيَومِهِ النَّازِلِ بِهِ فَقَرَّبَ عَلَى نَفسِهِ البَعِيدَ وَ هَوَّنَ الشَّدِيدَ نَظَرَ فَأَبصَرَ وَ ذَكَرَ فَاستَكثَرَ وَ ارتَوَى مِن عَذبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَت لَهُ مَوَارِدُهُ فَشَرِبَ نَهَلا وَ سَلَكَ سَبِيلا جَدَداً قَد خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ وَ تَخَلَّى مِنَ الهُمُومِ إِلا هَمّاً وَاحِداً انفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ مِن صِفَةِ العَمَى وَ مُشَارَكَةِ أَهلِ الهَوَى وَ صَارَ مِن مَفَاتِيحِ أَبوَابِ الهُدَى وَ مَغَالِيقِ أَبوَابِ الرَّدَى قَد أَبصَرَ طَرِيقَهُ وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ وَ عَرَفَ مَنَارَهُ وَ قَطَعَ غِمَارَهُ وَ استَمسَكَ مِنَ العُرَى بِأَوثَقِهَا وَ مِنَ الحِبَالِ بِأَمتَنِهَا فَهُوَ مِنَ اليَقِينِ عَلَى مِثلِ ضَوءِ الشَّمسِ قَد نَصَبَ نَفسَهُ لِلَّهِ سُبحَانَهُ فِي أَرفَعِ الأُمُورِ مِن إِصدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيهِ وَ تَصيِيرِ كُلِّ فَرعٍ إِلَى أَصلِهِ مِصبَاحُ ظُلُمَاتٍ كَشَّافُ عَشَوَاتٍ مِفتَاحُ مُبهَمَاتٍ دَفَّاعُ مُعضِلَاتٍ دَلِيلُ فَلَوَاتٍ يَقُولُ فَيُفهِمُ وَيَسكُتُ فَيَسلَمُ قَد أَخلَصَ لِلَّهِ فَاستَخلَصَهُ فَهُوَ مِن مَعَادِنِ دِينِهِ وَأَوتَادِ َرضِهِ قَد أَلزَمَ نَفسَهُ العَدلَ فَكَانَ أَوَّلَ عَدلِهِ نَفيُ الهَوَى عَن نَفسِهِ يَصِفُ الحَقَّ وَيَعمَلُ بِهِ لا يَدَعُ لِلخَيرِ غَايَةً إِلا أَمَّهَا وَ لا مَظِنَّةً 

إِلا قَصَدَهَا قَد أَمكَنَ الكِتَابَ مِن زِمَامِهِ فَهُوَ قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ يَحُلُّ حَيثُ حَلَّ ثَقَلُهُ وَ يَنزِلُ حَيثُ كَانَ مَنزِلُهُ)[ينظر:  نهج البلاغة، الخطبة: 87].ودمتم سالمين.