نرجو منكم نقد شبهة عرضُ الرّواياتِ على القرآنِ العظيم
نرجو منكم نقد هذه الشبهة ((قاعدة عرض الروايات على القرآن تعاني مشكلةً منهجيةً معضِلةً، لأنّ البحث التاريخي العلمي لا يعبأ بالقرآن كمعيارٍ لتثبيت وجود روايةٍ ونفي أخرى، فهذا لا يمتّ للحياد العلمي بصلةٍ مطلقاً، فلعلّ أئمة الدين يقولون ما هو ضدّ معطيات القرآن، وهذا الاحتمال واردٌ جدّاً إلا لمن يعتبرهم معصومين مسبقاً، فينسب الجميل لهم وينفي عنهم القبيح!. ليس للقرآن فهمٌ محددٌ، ومن يستند إليه كميزانٍ لقبول الروايات ورفضها -من حيث الوجود- يفترض مسبقاً أنّ فهمه هو الصحيح وأنّ الآخرين فهموا مثل فهمه هو، بالزمان وبالمكان.. وهذا ما لم يثبت أبداً، ولقد صرّح محمد حسين الطباطبائي بقول ذي دلالةٍ هامّةٍ: "لقد اختلف المفسِّرون فيما بينهم حتى لم تجمع بينهم إلا كلمة لا اله إلا الله"، فكيف يستند إلى المختلف عليه والقابل للتأويل بألف وجهٍ كما وصفه علي بن أبي طالب عندما أعطى ظهره لدعوة الاحتجاج بالقران؟!. ومن ناحيةٍ منهجيةٍ، فإنّ ثبوت القرآن (وجوده، تواتره واعتباره) جاء من نفس آليات علمي الرجال والحديث التي ثبتت بها الروايات المعارضة للقرآن، بل المعارضة لفهمٍ معيّنٍ للقرآن، فكيف يجوز لنا نفي صدور روايةٍ عن إمامٍ لمجرّد كونها تعارض القران، رغم أنها صحيحةٌ أو متواترةٌ بنفس اليات صحّة وتواتر القران؟. دعوات الأخذ بالقران بوصفه معياراً تاريخياً شاعت عند فريقٍ ممن يريد تعديل مسار الدين بعدما غطَّ في التراث الروائي الضخم وما فيه من الغثّ والسمين، أعني أنّها محاولة الغريق للتشبّث بالقشّة عند عامة المعتدلين، وقد تبنّاها كمال الحيدري على علّاتها وتسلّح بها أمام مناوئيه ممن نسخوا/مسخوا القران بالروايات، لكون الروايات، بنظرهم، تصدر عن معصومٍ بشري مثلما يصدر القران عن معصومٍ إلهي عدا أنّ القران شديد الغموض ووحده المعصوم من يفهمه!. والخلاصة: ١- فتح باب التشكيك بالروايات الصحيحة لمجرد كونها تعارض القران، يجعل آليات تصحيح رواية القرآن في ورطة منهجية بالغة الشدة. ٢-الاستناد للقران كمعيار يفترض وحدة فهم القرآن وهو أمر لم يحصل. ٣- إمكانية افتراض فعل أئمّة الدين ما يناقض فهمنا الحالي للقرآن، أو هم يفعلون ما يناسب القرآن بحسب فهمهم هم. ٤- يرى الفرض العلمي إمكانية حدوث التناقض بالنص وبالواقع كلاهما، فمثلما تتناقض آيات القران مع بعضها، تتناقض الروايات مع القران، وتتناقض الروايات مع بعضها، طالما الأمر لم يخرج عن الإطار البشري.))
السّلامُ عليكُم ورحمة الله:
ينبغي للسّائلِ أن يعرفَ قبلَ كلِّ شيءٍ أنّ نقدَنا لهذهِ الشّبهاتِ والإشكالاتِ الواردةِ في هذا السّؤالِ موجّهٌ بالأساسِ إلى مَن يتبنّاها، وليسَ موجّهاً إلى شخصهِ الكريمِ، فنقولُ: إنّ عرضَ الرّواياتِ على القرآنِ العظيمِ يُعَـدُّ معياراً أساسيّاً لا إشكالَ فيه، وقد درجَ عليهِ علماؤنا قديماً وحديثاً لعدّةِ أدلّةٍ في المقامِ، مِنها:
1-ما رواهُ الكشيّ (كما في إختيارِ معرفةِ الرّجال، (ج2/ص73)، بإسنادِه الصّحيحِ إلى الثّقةِ الجليلِ محمّدٍ بنِ عيسى بنِ عبيدٍ ، عنِ الثّقةِ الفقيهِ يونس بنِ عبدِ الرّحمن، أنّ بعضَ أصحابِنا سأله وأنا حاضرٌ، فقالَ له: يا أبا محمّد: ما أشدّكَ في الحديثِ ، وأكثرَ إنكاركَ لِما يرويهِ أصحابُنا ، فما الذي يحملُكَ على ردِّ الأحاديثِ؟ فقالَ : حدّثني هشامٌ بنُ الحكمِ أنّه سمعَ أبا عبدِ اللهِ عليه السّلام يقولُ: لا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافقَ القرآنَ والسنّةَ ، أو تجدونَ معهُ شاهداً مِن أحاديثِنا المُتقدّمةِ، فإنَّ المغيرةَ بنَ سعيدٍ لعنَهُ اللهُ دسّ في كتبِ أصحابِ أبي أحاديثَ لم يحدِّث بها أبي ، فاتّقوا اللهَ ولا تقبلوا علينا ما خالفَ قولَ ربّنا تعالى وسنّةَ نبيّنا صلّى اللهُ عليه وآله، فإنّا إذا حدّثنا ، قُلنا قالَ اللهُ عزَّ وجل ، وقالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله . قالَ يونسُ : وافيتُ العراقَ فوجدتُ بها قطعةً مِن أصحابِ أبي جعفرٍ عليهِ السّلام، ووجدتُ أصحابَ أبي عبدِ اللهِ عليهِ السّلام متوافرينَ ، فسمعتُ منهم وأخذتُ كتبَهم ، فعرضتُها مِن بعدُ على أبي الحسنِ الرّضا عليهِ السّلام، فأنكرَ منها أحاديثَ كثيرةً أن تكونَ مِن أحاديثِ أبي عبدِ الله عليه السّلام . وقالَ لي : إنّ أبا الخطّابِ كذبَ على أبي عبدِ اللهِ عليه السّلام لعنَ اللهُ أبا الخطّابِ ، وكذلكَ أصحابُ أبي الخطّابِ يدسّونَ هذهِ الأحاديثَ إلى يوِمنا هذا في كتبِ أصحابِ أبي عبدِ اللهِ عليه السّلام ، فلا تقبلوا علينا خلافَ القرآنِ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقةِ القرآنِ وموافقةِ السنّةِ ، إنّا عنِ اللهِ وعَن رسولِه نحدّثُ ، ولا نقولُ قالَ فلانٌ، وفلان ، فيتناقضُ كلامُنا ، إنّ كلامَ آخرنا مثلَ كلامِ أوّلِنا ، وكلامُ أوّلنا مصادقٌ لكلامِ آخرِنا ، فإذا أتاكُم مَن يُحدّثُكم بخلافِ ذلكَ فردّوه عليهِ، وقولوا: أنتَ أعلمُ وما جئتَ به ، فإنّ معَ كلِّ قولٍ منّا حقيقةً وعليه نوراً، فما لا حقيقةَ معَه، ولا نورَ عليه فذلكَ مِن قولِ الشّيطان .
2- ومنها ما أوردَه السيّدُ الخوئيّ (قد) في كتابِه (التّبيان)، (ص234) في معرضِ ردِّه على رواياتِ التّحريفِ بالإستدلالِ بأحاديثِ العرضِ على كتابِ اللهِ تعالى وطرحِها إن عارضَتهُ بقولِه: ((ما رواهُ الشّيخُ الصّدوقُ بسندِه الصّحيحِ عنِ الصّادقِ (عليه السّلام): الوقوفُ عندَ الشّبهةِ خيرٌ منَ الإقتحامِ في الهلكةِ إنّ على كلِّ حقٍّ حقيقةً وعلى كلِّ صوابٍ نوراً ، فما وافقَ كتابَ اللهِ فخذوهُ وما خالفَ كتابَ اللهِ فدعوه...)).
وما رواهُ الشّيخُ الجليلُ سعيدٌ بنُ هبةِ الله ((القطبُ الراونديّ)) بسندِه الصّحيحِ إلى الصّادقِ (عليه السّلام): (إذا وردَ عليكم حديثانِ مُختلفانِ فاعرضوهما على كتابِ اللهِ، فما وافقَ كتابَ اللهِ فخذوهُ وما خالفَ كتابَ اللهِ فردّوه...).
فإذا عرفتَ ما تقدّمَ، فما وردَ في منطوقِ السّؤالِ مِن إشكالاتٍ مردودٌ مِن وجوهٍ، منها:
أوّلاً: قولُ المُستشكلِ: إنّ قاعدةَ عرضِ الرّواياتِ على القرآنِ تواجهُ مشكلةً منهجيّةً مُعضلةً، بدعوى أنّ البحثَ التّأريخيّ لا يعبأُ بالقرآنِ كمعيارٍ لتثبيتِ روايةٍ ونفي أخرى. أقولُ: إنّ هذا القولَ مردودٌ، لأنّ الصّوابَ بضدِّه، فضلاً عمّا في إشكالِه مِن قلبٍ للحقائقِ، وذلكَ لأنّ قاعدةَ عرضِ الرّواياتِ على القرآنِ قاعدةٌ صحيحةٌ، وإذا كانَت هناكَ مشكلةٌ منهجيّةٌ، فالإشكالُ فيمَن أجرى هذهِ القاعدةَ على مواردِها، وليسَ في نفسِ القاعدةِ، وبعبارةٍ أخرى: لدينا نظريّةُ معيارِ القرآنِ ولدينا تطبيقٌ لهذهِ النّظريّةِ يقومُ بها العلماءُ، فإن كانَ هناكَ خللٌ ما؛ فالإشكالُ في التّطبيقِ وليسَ في النظريّةِ، وهذا الأمرُ يجري كذلكَ في علومٍ شتّى كما لا يخفى.
زِد على ذلك: أنّ جمهورَ أهلِ العلمِ يذهبُ إلى أنّ القرآنَ العظيمَ الذي هوَ ما بينَ الدفّتينِ محفوظٌ منَ التّحريفِ والتزويرِ والزّيادةِ والنّقصانِ، وبعكسِه البحثُ التأريخيّ وما تضمّنَه مِن أحداثٍ ورواياتٍ قد شابَها التّحريفُ والتّزويرُ والزّيادةُ والنّقصانُ، فكيفَ تُعَوّلُ على ما شابهَ التّزويرَ والتّحريفَ وتهتمُّ بهِ وتقدّمُه على ما خلا منهُما، هذا فضلاً عَن أنّ أصحابَ التّواريخِ كانَت لهم إتّجاهاتُهم المُختلفةُ في كتابةِ التّأريخِ وما جمعوهُ في كتبِهم مِن رواياتٍ وأحداث، إذ كانَ بعضُهم يميلُ إلى السّلطةِ الحاكمةِ ويتناغمُ معهم، وبعضُهم كانَ يجمعُ الغثَّ والسّمينَ، وبعضُهم كانَ يروي الأحداثَ مِن غيرِ أسانيد، ونحو ذلكَ، ولِذا كانَ الخلافُ بارزاً لـمّا كانَت تعقدُ النّدواتُ والمؤتمراتُ لبيانِ كيفيّةِ كتابةِ التّأريخِ الإسلاميّ، إذ ترى كثيراً منَ المُناقشينَ يصطدمونَ بواقعِ الإشكالاتِ آنفاً، فيصعبُ عليهم التّوفيقُ بينَ الآراءِ نتيجةَ ذلك.
وثانياً: قولُ المُستشكلِ: إنّ أئمّةَ الدّينِ لعلّهم يقولونَ ما هوَ ضدّ مُعطياتِ القرآنِ قد كشفَ عَن سوءِ سريرةٍ، وذلكَ لأنّ أئمّةَ الدّينِ المُتصدّينَ لبيانِ الحُكمِ الشرعيّ معروفونَ على مرِّ العصورِ والأزمنةِ أنّهم مراجعُ للدّينِ الإسلاميّ وفقَ الشّروطِ المُعتبرةِ المُحدَّدةِ بينَ أهلِ العلمِ، أضِف إلى ذلكَ: لم نسمَع عَن أحدٍ ما يصفُ مرجعاً معيّناً بأنّه معصومٌ منَ الخطأ مهما بلغَ منَ العلومِ رُتبةً، وعليه فالإفتراضُ هُنا في غيرِ محلِّه.
وثالثاً: قولُ المُستشكلِ: ليسَ للقرآنِ فهمٌ محدّدٌ؛ إنّما هيَ كلمةُ حقٍّ يُرادُ بها باطلٌ، لأنّ أميرَ المؤمنينَ عليهِ السّلام حينَ عبّرَ بمقولتِه الشّهيرةِ: (القرآنُ حمّالُ أوجهٍ)، لَـمّا بعثَ إبنَ عبّاس إلى الخوارجِ ليُخاصمَهم، أوصاهُ بأن يخاصمَهم بالسنّةِ لا بالقرآنِ، ليسَ مِن بابِ أنّ القرآنَ ليسَ لهُ فهمٌ محدّدٌ كما تزعمُ، وإنّما أطلقَ عبارتَه آنفاً، لأنّه كانَ يعرفُ أنّ الخوارجَ أصحابُ أهواءٍ ورغباتٍ، يحاولونَ بوسائلَ شتّى أن يتهرّبوا منَ الحقّ الذي عليهم، بما تُمليهِ عليهم رغباتُهم وأهواؤهم، فأرادَ أن يقطعَ الطّريقَ عليهم بتلكَ المقالةِ في مقامِ المُحاججةِ والمُخاصمةِ، وإلّا فإنّ آياتِ القرآنِ الكريمِ لها مفهومٌ واضحٌ بيّنٌ وظاهرٌ وقطعيٌّ وملزمٌ لأتباعِه، وممّا يؤكّدُ يسرَ القرآنِ الكريمِ للفهمِ ما وصفَ بهِ القرآنُ نفسَه مِن خلالِ بعضِ آياتِه وأحكامِه، فمِن ذلكَ: قولهُ تعالى: “ولقد يسّرنا القرآنَ للذّكرِ فهَل مِن مُدّكر” ، وقولهُ تعالى: “نزّلَ عليكَ الكتابَ بالحقِّ مصدّقاً لِما بينَ يديه” (آلُ عمران: 3)، وقولهُ تعالى: “ونزّلنا عليكَ الكتابَ تبياناً لكلِّ شيءٍ” ، وغيرُها منَ الآياتِ، ولكنَّ هذا الفهمَ يتحقّقُ بمراعاةِ أهمِّ سببٍ مِن أسبابِ فهمِ القرآنِ العظيمِ وسهولتِه، وهوَ ما يتسالمُ عليه جميعُ المُفسّرينَ، ألا وهوَ ضرورةُ الإهتمامِ الكبيرِ والواسعِ بلغةِ العربِ التي نزلَ بها القرآنُ العظيمُ مِن حيثُ النّحوُ والصّرفُ والبلاغةُ والشّعرُ والنّثرُ ونحوِ ذلك، فعربيّةُ القرآنِ الكريمِ سببٌ مُهمٌّ لتيسيرِ فهمِ القرآنِ الكريم، وهيَ سببٌ أيضاً في عمومِ هدايةِ القرآنِ وإرشادِه للعالَمينَ مِن خلالِ سهولةِ تواصلِ النّاسِ معَه، وحتّى الجنُّ لـمّا سمعَتهُ كانَ الأمرُ عندَها واضِحاً. قالَ تعالى على لسانِ الجنِّ:“إنّا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرّشدِ” (الجنُّ: 1-2). وإذا صادفَ أنّ هناكَ بعضُ الخلافِ في تفسيرِ بعضِ آياتِ الكتابِ العزيزِ، فالتخلّصُ منهُ ينبغي أن يكونَ بالرّجوعِ إلى ما وردَ عَن أئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام كونهم عدلَ القرآنِ العظيمِ بمُقتضى مفادِ حديثِ الثّقلينِ الصّحيحِ والثّابتِ عَن طريقِ الفريقين.
وأمّا المرادُ مِن عبارةِ الإمامِ عليهِ السّلام آنِفاً، فهيَ تعني أنّ هناكَ ألفاظاً مُشتركةً في القرآنِ العظيمِ تُستَعملُ في عدَّةِ معانٍ، ويستفادُ منها في سعةِ دلالةِ مُفرداتِه، وإتِّساعِ آياتِه لِوجوهٍ منَ التَّأويلِ الحسنِ معَ الإيجازِ، وهذا مِن آثارِ كونِه مُعجزةً خارقةً لعادةِ كلامِ البشرِ، ودالَّةً على أنَّهُ مُنزَّلٌ مِن لَدُنِ حكيمٍ خبير؛ ولكِن لا يَنبغي أن يُساءَ هذا الفَهمُ لتُحمَّلَ الآياتُ ما لا تَحتملُ، ويُستَخرَجَ منها ما لا تدلُّ عليه، كما يفعلُ الخوارجُ قديماً، وبعضُ المُعاصرينَ منَ المُستشرقينَ والمُتأثّرينَ بهم حديثاً. وعليهِ فالإدّعاءُ أنّ القرآنَ ليسَ له معنىً محدّدٌ، بل هوَ يقبلُ كلَّ تأويلٍ إنّما هوَ كلامٌ باطلٌ يفرّغُ القرآنَ مِن هدايتِه ويهدمُ قُدسيّتَه وإلزاميّةَ إتّباعَه على المؤمنينَ، ويجعلُ الوحيَ الربّانيَ كلاماً لا محتوى لهُ، وهوَ ما يتنزّهُ عنهُ النّاسُ، فضلاً عَن ربّ النّاسِ سبحانَه وتعالى.
ورابعاً: قولهُ: إنّ ثبوتَ القرآنِ (وجودَه وتواترَه) جاءَ بنفسِ آلياتِ علمَي الحديثِ والرّجالِ التي تثبتُ بها الرّوايةُ المُعارضةُ للقرآنِ، فكيفَ يجوزُ لنا نفيُ صدورِ روايةٍ عَن إمامٍ لمجرّدِ كونِها تعارضُ القرآنَ رغمَ أنّها صحيحةٌ أو متواترة؟
أقولُ: في كلامِ المُستشكلِ لبسٌ واضحٌ في فهمِ هذهِ المسألةِ، وذلكَ لأنّ القرآنَ العظيمَ كما يعرفُ أهلُ العلمِ ثبتَ صدورُه يقيناً بالتواترِ، وقاعدةُ عرضِ الرّواياتِ على القرآنِ تختصُّ بالرّواياتِ غيرِ المُتواترةِ، إذ لا يوجدُ رواياتٌ متواترةٌ تعارضُ القرآنَ العظيمَ مُطلقاً، وإلّا فعليهِ إثباتُ ذلكَ وفقَ شروطِ التّواترِ المعروفةِ المُبيّنةِ في علمِ الحديثِ والدّرايةِ، إذِ التواترُ لهُ شروطٌ معروفةٌ، مِن أهمِّها: كثرةُ الطّرقِ المُعتدِّ بها، وليسَ مُجرّدَ وجودِ طرقٍ كثيرةٍ، فكَم مِن رواياتٍ لها طرقٌ كثيرةٌ قد يظنُّ بعضُهم أنّها متواترةٌ، ولكنّها بعدَ الدّراسةِ والتّحقيقِ فيها يتبيّنُ أنّها رواياتٌ مشهورةٌ، وليسَت متواترةً، معَ العلمِ أنّ الشّهرةَ لا تقتضي الصحّةَ دائماً كما لا يخفى. زِد على ذلكَ أنّ مجرّدَ وجودِ روايةٍ رجالُها ثقاتٌ وإسنادُها مُتّصلٌ لا يعني أنّها صحيحةٌ دائماً، لإحتمالِ إشتباهِ أحدِ رجالِها أو سهوهِ حينَ النّقلِ لها عَن مشايخِه، فلِذا ترى كثيراً منَ الرّواياتِ رجالها ثقاتٌ لكنّها منكرةٌ، وقد أعرضَ عنها الأصحابُ مِن حيثُ العملِ، والعكسُ صحيحٌ، فكم مِن رواياتٍ ضعيفةِ الإسنادِ وعليها العملُ بينَ الأصحابِ بغيرِ خلافٍ، وهذا الأمرُ موجودٌ عندَ جميعِ الفرقِ الإسلاميّةِ، فافهَم وتدبّر؟
وخامساً: قولهُ: الفرضُ العلميّ يرى إمكانيّةَ حدوثِ التّناقضِ بالنصِّ وبالواقعِ كلاهُما، فمثلما تتناقضُ آياتُ القرآنِ معَ بعضِها، تتناقضُ الرّواياتُ مع القرآنِ، وتتناقضُ الرّواياتُ معَ بعضِها ما دامَ الأمرُ لا يخرجُ عنِ الإطارِ البشري.
أقولُ لهذا المُستشكلِ: أليسَ الأولى بكَ قبلَ كلِّ شيءٍ أنّ تبيّنَ لنا ماذا تقصدُ بالفرضِ العلميّ الذي أوصلكَ إلى مثلِ هذا التّناقضِ العجيبِ، وما حدودُه وما هيَ معالمُه، حتّى يعرفَ القارئُ المنصفُ أنّ ما إدّعيتَه هُنا صحيحٌ، ولا يختلفُ عليها إثنان، وإلّا فما توصّلتَ إليهِ باطلٌ، لأنّ الفرضَ العلميّ الذي بنيتَ عليه كلامكَ هُنا مجهولٌ، وما بُنيَ على المجهولِ لا قيمةَ له.
وعلى كلِّ حالٍ لقد بانَ لكلِّ منصٍف أنّ صاحبَ هذهِ الإشكالاتِ هوَ نفسُه ملبوسٌ عليه، ولا يعرفُ كثيراً مِن قليلٍ في أمورِ الدّينِ، ويظهرُ أنّه إستندَ في إشكالاتِه على المُشكّكينَ بالقرآنِ والرّواياتِ منَ المُستشرقينَ وغيرِهم الذينَ ما همّهم سوى بثُّ التّشكيكِ في نفوسِ المُسلمينَ، والذينَ ما فلحوا في ذلكَ أبداً، ولن يفلحوا مُطلقاً، إذ مثلُ هذهِ الإشكالاتِ قد أجيبَ عنها بجواباتٍ مُتعدّدةٍ، فَمَثَلُ المُستندِ إليها والمُعتقدِ بها كمثلِ القابضِ على الماءِ خانَتهُ فروجُ الأصابعِ. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق