هل مناسكُ الحجِّ إسلاميّةُ الأصلِ بالفِعل أم أنّها كباقي المناسكِ الإسلاميّةِ الإبراهيميّةِ، إستوحيَت مِن مناسكَ وثنيّةٍ سبقَتها؟ أي أنَّ الحجَّ هوَ منَ الأصولِ الوثنيّة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
لابدَّ منَ التعليقِ أوّلاً على صيغةِ السّؤالِ، حيثُ يستشفُّ منهُ أنَّ السّائلَ يعتقدُ بأنَّ كلَّ المناسكِ الإسلاميّةِ تمَّ إستيحاؤها مِن مناسكَ وثنيّةٍ سابقةٍ إلّا أنَّ السّائلَ مُتردّدٌ في موضوعِ مناسكِ الحجِّ هل هيَ مثلُ بقيّةِ المناسكِ أم أنّها إسلاميّةُ الأصلِ؟ ولا ندري هل السّائلُ يتعمّدُ هذا المعنى أم أنّهُ يقصدُ عكسَ ذلكَ إلّا أنَّ العباراتِ لم تساعِده على ذلكَ؟
سواءٌ كانَ يقصدُ ما يفهمُ منَ السّؤالِ أو كانَ يقصدُ السّؤالَ عَن مناسكِ الحجِّ؛ هل هيَ إسلاميّةُ الأصلِ كبقيّةِ المناسكِ الأخرى أم أنّها مستمدّةٌ مِن مناسكَ وثنيّةٍ سابقة؟ أي حصرُ السّؤالِ والتردّد فيما يخصُّ مناسكَ الحجِّ دونَ المناسكِ الأخرى، وبكِلا المعنيينِ يجبُ علينا إجمالُ الرّد.
ويبدو أنَّ سببَ هذهِ الشبهةِ فيما يخصُّ مناسكَ الحجِّ هوَ المقارنةُ شكليّاً بينَ مناسكِ الحجِّ وبينَ ما يفعله الوثنيّونَ قبلَ البعثةِ مثلَ طوافِهم حولَ الكعبةِ أو تقبيلِ الحجرِ الأسودِ أو تقديمِ القرابينِ والأضاحي لبيتِ اللهِ، أمّا فيما يخصُّ بقيّةَ المناسكِ الإسلاميّةِ لا نفهمُ بأيّ كيفيّةٍ يمكنُ نسبتُها للوثنيّةِ؟ الأمرُ الذي يؤكّدُ على أنَّ البعضَ لا يهتمُّ إلّا بإثارةِ الشبهاتِ والتشكيكاتِ، حتّى لو كانَت الشبهاتُ غيرَ واقعيّةٍ، المهمُّ هوَ إحداثُ البلبلةِ والوصولُ إلى الطبقاتِ الضعيفةِ في المُجتمعِ الإسلاميّ.
ومنَ الواضحِ أنَّ الوثنيّةَ تقعُ على نقيضِ التوحيدِ ولا يمكنُ أن تجتمعَ معَه بأيّ شكلٍ منَ الأشكالِ، فإذا كانَ التوحيدُ هوَ الاعتقادُ باللهِ الواحدِ الأحدِ والانقطاعُ لهُ تعالى فإنَّ الوثنيّةَ تقومُ على نقيضِ ذلكَ، والذي يميّزُ بينَ سلوكِ المؤمنِ والوثنيّ ليسَ الشّكلُ الظاهريّ للفعلِ والممارسة فهيَ قد تكونُ متشابهةً إلّا أنَّ الفرقَ هوَ في القصدِ والتوجّهِ، فعندَما يطوفُ الموحّدُ بالكعبةِ فإنّهُ يتقرّبُ بذلكَ للهِ إستجابةً لأمرِه ولا يعتقدُ في البيتِ المصنوعِ منَ الحجارةِ، ولذا كانَت التلبيةُ شرطاً في عقدِ إحرامِ الحاجِّ وهيَ قوله: (لبّيكَ اللهمَّ لبّيك، لبّيكَ لا شريكَ لكَ لبّيك)، وهذا خلافُ الوثني الذي لا يؤمنُ باللهِ ولا يعتقدُ بتوحيدِه بل يعتقدُ في تلكَ الأصنامِ التي وُضعَت داخلَ الكعبةِ أو حولَها، أمّا القولُ كيفَ يأمرُنا اللهُ بالطّوافِ حولَ الحجارةِ وما علاقةُ ذلكَ بتوحيدِه؟ فإنَّ الإنسانَ بوصفِه مخلوقاً مُختاراً إذا أرادَ اللهُ اختبارَ طاعتِه لابدَّ أن يعبدَه ببعضِ الأفعالِ والسلوكيّاتِ، ومنَ الواضحِ أنَّ السّلوكَ الإنسانيَّ ليسَ مُجرّداً وإنّما هوَ حسّيٌّ بالضّرورةِ لكونِه نابعاً مِن تفاعلِه الحسيّ معَ ما حولَه منَ الأشياءِ، والسّلوكُ بهذا الوصفِ يمكنُ أن يقومَ به الموحّدُ والوثنيُّ، فليسَ منَ المُستحيلِ عمليّاً وفيزيائيّاً أن يؤدّيَ الوثنيُّ الصّلاةَ والزّكاةَ والصّومَ والحجَّ، إلّا أنَّ فعلَ ذلكَ لا يُخرجُ الوثنيَّ مِن وثنيّتِه، الأمرُ الذي يؤكّدُ على أنَّ هناكَ شرطاً آخرَ غيرَ نفسِ الشّكلِ الظاهريّ للفعلِ وهوَ الإيمانُ بوحدانيّةِ اللهِ والامتثالُ لأمرِه، وبذلكَ نفهمُ أنَّ أمرَ اللهِ مثلاً بالطّوافِ حولَ الكعبةِ وامتثالَ العبدِ لأمرِه يُمثّلُ دليلاً حسّيّاً على إيمانِه واعتقادِه بتوحيدِه، ومِن هُنا فإنَّ الشّعائرَ وما يؤدّيهِ الإنسانُ المؤمنُ مِن مناسكَ حتّى وإن كانَت حسيّةً إلّا أنّها معبّرةٌ عَن مدى استجابتِه للهِ تعالى، وعليهِ لا يمكنُ التشكيكُ في المناسكِ مِن بابِ كونِها متعلّقةً بأمرٍ حسّيٍّ قد يفعله الوثنيُّ أيضاً وإنّما يجبُ النّظرُ للدّوافعِ التي تكمنُ خلفَ هذهِ الأفعالِ، قالَ تعالى: (إِنِّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ) فالذي يميّزُ التّوحيدَ عن الوثنيّةِ هوَ الانقطاعُ للهِ وحدِه، ولا يعني تقديسُ بعضِ الأماكنِ أو احترامُ بعضِ الأزمنةِ رجوعاً عَن مبادئِ التّوحيدِ إلى مهاوي الوثنيّةِ الجاهليّة؛ لأنَّ مُتعلّقاتِ العبادةِ الحاليّةِ أو المكانيّةِ أو الزمانيّة مجرّدُ ظروفٍ لا تُقصدُ لنفسِها، ولا ينسبُ أحدٌ إليها شيئاً مِن خصائصِ الألوهيّةِ المُطلقة، والنّاسُ يتوجّهونَ بالعبادةِ فيها وعندَها وليسَ إليها وهذا فرقٌ كبيرٌ وجوهري.
وأفضلُ ما نختمُ بهِ الإجابةَ على هذا السّؤالِ هوَ حديثُ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام) عن الحجِّ حتّى يتبيّنَ الفرقُ الكبيرُ بينَ التوحيدِ والوثنيّةِ، يقولُ (عليهِ السّلام): إذا أردتَ الحجَّ فجرِّد قلبكَ للهِ تعالى مِن كلِّ شاغلٍ وحجابِ كلِّ حاجبٍ، وفوِّض أُموركَ كلّها إلى خالقِك، وتوكَّل عليهِ في جميعِ ما يظهرُ مِن حركاتِك، وسلِّم لقضائِه وحُكمِه وقدره، ودَع الدّنيا والرّاحةَ والخَلقَ، واخرُج مِن حقوقٍ تلزمُك مِن جهةِ المخلوقينَ، ولا تعتمِد على زادِك وراحلتِك وأصحابك وقوّتِك وشبابِك ومالِك؛ مخافةَ أن يصيروا لكَ عدوّاً ووبالاً، فإنَّ مَن ادّعى رضا اللهِ واعتمدَ على شيءٍ صيّرَهُ عليهِ عدوّاً ووبالاً، ليعلمَ أنّهُ ليسَ له قوّةٌ ولا حيلةٌ ولا لأحدٍ إلّا بعصمةِ اللهِ وتوفيقِه، واستعدَّ استعدادَ مَن لا يرجو الرّجوعَ، وأحسِنِ الصُّحبةَ، وراعِ أوقاتَ فرائضِ اللهِ وسُننَ نبيّهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وما يجبُ عليكَ منَ الأدبِ والاحتمالِ والصّبرِ والشّكرِ والشّفقةِ والسّخاءِ وإيثارِ الزّادِ على دوامِ الأوقات.
ثمَّ إغسِل بماءِ التوبةِ الخالصةِ ذنوبَك، والبَس كسوةَ الصّدقِ والصّفاءِ والخضوعِ والخشوع، وأحرِم مِن كلِّ شيءٍ يمنعُكَ عَن ذكرِ اللهِ ويحجبُكَ عن طاعتِه، ولبِّ بمعنى إجابةٍ صافيةٍ زاكيةٍ للهِ عزَّ وجلّ في دعوتِك له، متمسّكاً بعروتِه الوثقى. وطُف بقلبِك معَ الملائكةِ حولَ العرشِ كطوافِكَ معَ المُسلمينَ بنفسِك حولَ البيت. وهروِل هرولةً مِن هواكَ وتبرّيّاً مِن جميعِ حولِك وقوّتِك، واخرُج مِن غفلتِك وزلّاتِك بخروجِكَ إلى منى ولا تتمنَّ ما لا يحلُّ لكَ ولا تستحقّه. واعترِف بالخطايا بعرفات، وجدِّد عهدكَ عندَ اللهِ بوحدانيّتِه.
وتقرَّب إلى اللهِ ذا ثقةٍ واتّقِه بمُزدلفة، واصعَد بروحِك إلى الملأ الأعلى بصعودِك إلى الجبلِ. واذبَح حنجرَتَي الهوى والطمعِ عندَ الذّبيحة.
وإرمِ الشّهواتِ والخساسةَ والدناءةَ والذميمةَ عندَ رمي الجمراتِ.
واحلق العيوبَ الظاهرةَ والباطنةَ بحلقِ رأسِك.
وادخُل في أمانِ اللهِ وكَنَفِهِ وسترِه وكلاءتِه مِن مُتابعةِ مُرادِك بدخولِك الحرمَ، وزُرِ البيتَ متحقّقاً لتعظيمِ صاحبِه ومعرفةِ جلالِه وسلطانِه، واستلِم الحجرَ رضىً بقسمتِه وخضوعاً لعزّتِه. وودّع ما سِواهُ بطوافِ الوداع.
وصفِّ روحَك وسرَّك للقاءِ اللهِ يومَ تلقاهُ بوقوفِك على الصّفا، وكُن بمرأىً منَ اللهِ نقيّاً عندَ المروة، إستقِم على شروطِ حُجّتِك هذهِ ووفاءِ عهدِك الذي عوهدتَ بهِ معَ ربِّك وأوجبتَ لهُ إلى يومِ القيامة، واعلَم أنَّ اللهَ لم يفرِض الحجَّ ولم يخُصَّه مِن جميعِ الطاعاتِ بالإضافةِ إلى نفسِه بقولِه تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَن استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً} ولا شرّعَ نبيُّه (صلّى اللهُ عليه ِوآله) سنّةً في خلالِ المناسكِ على ترتيبِ ما شرّعَه، إلّا للاستعدادِ والإشارةِ إلى الموتِ والقبرِ والبعثِ والقيامةِ وفضلِ بيانِ السّبقِ مِن دخولِ الجنّةِ أهلها، ودخولِ النّارِ أهلها، بمُشاهدةِ مناسكِ الحجّ من أوّلِها إلى آخرِها، لأولي الألبابِ وأولي النُّهى) (مُستدركُ الوسائل ج 10/ 172/ 11771)
اترك تعليق