ما تفسيرُ قوله تعالى: "هوَ الذي خلقَكم مِن طينٍ ثمَّ قضى أجلاً وأجلٌ مسمّى عندَه ثمَّ أنتم تمترون" وما هيَ الغايةُ مِن جعلِ اللهِ تعالى أكثرَ مِن أجلٍ للإنسان؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
نكتفي في الإجابةِ بما أفادَه العلّامةُ الطباطبائي في تفسيرِه الميزانِ ففيهِ إجابةٌ مُفصّلةٌ على هذا السّؤال، حيثُ جاء فيه: (قوله تعالى: (هوَ الذي خلقَكم مِن طينٍ ثمَّ قضى أجلاً) يشيرُ إلى خلقةِ العالمِ الإنساني الصّغير بعدَ الإشارةِ إلى خلقِ العالمِ الكبيرِ فيبيّنُ أنَّ اللهَ سبحانَه هوَ الذي خلقَ الإنسانَ ودبّرَ أمرَه بضربِ الأجلِ لبقائِه الدنيويّ ظاهراً فهوَ محدودُ الوجودِ بينَ الطينِ الذي بدأ منهُ خلقَ نوعِه وإن كانَ بقاءُ نسلِه جارياً على سُنّةِ الازدواجِ والوقاع كما قالَ تعالى: (وبدأ خلقَ الإنسانِ مِن طين، ثمَّ جعلَ نسلَه مِن سلالةٍ مِن ماءٍ مهين) (السّجدة: 8).
وبينَ الأجلِ المقضي الذي يقارنُ الموتَ كما قالَ تعالى، (كلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموت ثمَّ إلينا يرجعون) (العنكبوت: 57) ومنَ المُمكنِ أن يُرادَ بالأجلِ ما يقارنُ الرّجوعَ إلى اللهِ سبحانَه بالبعثِ فإنَّ القرآنَ الكريمِ كأنّهُ يُعدُّ الحياةَ البرزخيّةَ منَ الدّنيا كما يفيدُه ظاهرُ قولهِ تعالى: (قالَ كم لبثتُم في الأرضِ عددَ سنين، قالوا لبثنا يوماً أو بعضَ يوم فاسألِ العادّين، قالَ إن لبثتُم إلّا قليلاً لو أنّكم كنتُم تعلمون) (المؤمنونَ: 114)، وقالَ أيضاً: و(يومَ تقومُ الساعةُ يقسمُ المُجرمونَ، ما لبثوا غيرَ ساعةٍ كذلكَ كانوا يؤفكون، وقالَ الذينَ أوتوا العلمَ والإيمانَ لقد لبثتُم في كتابِ اللهِ إلى يومِ البعثِ فهذا يومُ البعثِ ولكنّكم كنتُم لا تعلمون) (الرّوم: 56).
وقد أبهمَ أمرُ الأجلِ بإتيانِه مُنكّراً في قولِه: (ثمَّ قضى أجلاً) للدلالةِ على كونِه مجهولاً للإنسانِ لا سبيلَ له إلى المعرفةِ بهِ بالتوسّلِ إلى العلومِ العاديّة.
قولهُ تعالى: (وأجلٌ مسمّىً عندَه) تسميةُ الأجلِ تعيينُه فإنَّ العادةَ جرَت في العهودِ والديونِ ونحوِ ذلكَ بذكرِ الأجلِ وهوَ المُدّةُ المضروبةُ أو آخرُ المُدّةِ باسمِه، وهوَ الأجلُ المُسمّى، قالَ تعالى: (إذا تداينتُم بدينٍ إلى أجلٍ مُسمّى فاكتبوه) (البقرةُ: 282) وهوَ الأجلُ بمعنى آخر المدّةِ المضروبة، وكذا قولهُ تعالى: (مَن كانَ يرجو لقاءَ اللهِ فإنَّ أجلَ اللهِ لآت) (العنكبوتُ: 5) وقالَ تعالى في قصّةِ موسى وشعيب: (قالَ إنّي أريدُ أن أُنكحكَ إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثمانيَ حججٍ فإن أتممتَ عشراً فمِن عندِك - إلى أن قال - قالَ ذلكَ بيني وبينك أيّما الأجلينِ قضيتَ فلا عدوانَ على) (القصصُ: 28) وهوَ الأجلُ بمعنى تمامِ المُدّةِ المضروبة.
والظاهرُ أنَّ الأجلَ بمعنى آخرِ المُدّة فرعُ الأجلِ بمعنى تمامِ المُدّة استعمالاً أي إنّه استعمِلَ كثيراً (الأجلُ المقضي) ثمَّ حذفَ الوصفَ واكتفى بالموصوفِ فأفادَ الأجلُ معنى الأجلِ المقضي، قالَ الرّاغبُ في مُفرداته: يقالُ للمُدّةِ المضروبةِ لحياةِ الإنسانِ (أجل) فيقالُ: دنا أجلهُ عبارةً عَن دنوّ الموتِ، وأصلهُ استيفاءُ الأجل، انتهى.
وكيفَ كانَ فظاهرُ كلامِه تعالى أنَّ المُرادَ بالأجلِ والأجلِ المُسمّى هو آخرُ مدّةِ الحياةِ لإتمامِ المدّةِ كما يفيدُه قوله: (فإنَّ أجلَ اللهِ لآت) الآية.
فتبيّنُ بذلكَ أنَّ الأجلَ أجلان: الأجلُ على إبهامِه، والأجلُ المُسمّى عندَ اللهِ تعالى.
وهذا هوَ الذي لا يقعُ فيهِ تغيّرٌ لمكانِ تقييدِه بقولِه (عنده) وقد قالَ تعالى: (وما عندَ اللهِ باق) (النحلُ: 96) وهوَ الأجلُ المحتومُ الذي لا يتغيّرُ ولا يتبدّلُ، قالَ تعالى: (إذا جاءَ أجلُهم فلا يستأخرونَ ساعةً ولا يستقدمون) (يونس 49).
فنسبةُ الأجلِ المُسمّى إلى الأجلِ غيرِ المُسمّى نسبةُ المُطلقِ المُنجَز إلى المشروطِ المُعلّق فمنَ المُمكنِ أن يتخلّفَ المشروطُ المُعلّق عن التحقّقِ لعدمِ تحقّقِ شرطِه الذي علقَ عليهِ بخلافِ المُطلقِ المُنجزِ فإنّهُ لا سبيلَ إلى عدمِ تحقّقِه البتّة.
والتدبّرُ في الآياتِ السابقةِ مُنضمّةٌ إلى قولِه تعالى: (لكلِّ أجلٍ كتاب، يمحو اللهُ ما يشاءُ ويثبِت وعندَه أمُّ الكتاب) (الرّعد: 39) يفيدُ أنَّ الأجلَ المُسمّى هوَ الذي وضعَ في أمِّ الكتاب، وغيرُ المُسمّى منَ الأجلِ هو المكتوبُ فيما نُسمّيهِ بلوحِ المحوِ والإثبات، وسيأتي إن شاءَ اللهُ تعالى أنَّ أمَّ الكتابِ قابلُ الانطباقِ على الحوادثِ الثابتةِ في العينِ أي الحوادث مِن جهةِ استنادِها إلى الأسبابِ العامّةِ التي لا تتخلّفُ عن تأثيرِها، ولوحُ المحوِ والإثباتِ قابلُ الانطباقِ على الحوادثِ مِن جهةِ استنادِها إلى الأسبابِ الناقصةِ التي ربّما نسمّيها بالمُقتضياتِ التي يمكنُ اقترانُها بموانعَ تمنعُ مِن تأثيرِها.
واعتبرَ ما ذُكرَ مِن أمرِ السببِ التامّ والناقصِ بمثالِ إضاءةِ الشمسِ فإنّا نعلمُ أنَّ هذهِ الليلةَ ستنقضي بعدَ ساعاتٍ وتطلعُ علينا الشمسُ فتضيئُ وجهَ الأرضِ لكن يمكنُ أن يقارنَ ذلكَ بحيلولةِ سحابةٍ أو حيلولةِ القمرِ أو أيّ مانعٍ آخرَ فتمنعُ منَ الإضاءةِ وأمّا إذا كانَت الشمسُ فوقَ الأفقِ ولم يتحقّق أيُّ مانعٍ مفروضٍ بينَ الأرضِ وبينَها فإنّها تضيئُ وجهَ الأرضِ لا محالة.
بيانٌ: فطلوعُ الشمسِ وحدهُ بالنسبةِ إلى الإضاءةِ بمنزلةِ لوحِ المحوِ والإثبات، وطلوعُها معَ حلولِ وقتِه وعدمِ أيّ حائلٍ مفروضٍ بينَها وبينَ الأرضِ بالنسبةِ إلى الإضاءةِ بمنزلةِ أمِّ الكتابِ المُسمّى باللوحِ المحفوظ.
فالتركيبُ الخاصُّ الذي لبُنيةِ هذا الشخصِ الإنساني معَ ما في أركانِه منَ الاقتضاءِ المحدودِ يقتضي أن يُعمّرَ العُمرَ الطبيعيّ الذي ربّما حدّدوهُ بمائةٍ أو بمائةٍ وعشرينَ سنة وهذا هوَ المكتوبُ في لوحِ المحوِ والإثباتِ مثلاً غيرَ أنَّ لجميعِ أجزاءِ الكونِ ارتباطاً وتأثيراً في الوجودِ الإنساني فربّما تفاعلَت الأسبابُ والموانعُ التي لا نُحصيها تفاعلاً لا نحيطُ بهِ فأدّى إلى حلولِ أجلِه قبلَ أن ينقضيَ الأمدُ الطبيعي، وهوَ المُسمّى بالموتِ الإخترامي.
وبهذا يسهلُ تصوّرُ وقوعِ الحاجةِ بحسبِ ما نظّمَ اللهُ الوجودَ إلى الأجلِ المُسمّى وغيرِ المُسمّى جميعاً، وإنَّ الإبهامَ الذي بحسبِ الأجلِ غيرِ المُسمّى لا يُنافي التعيينَ بحسبِ الأجلِ المُسمّى، وإنَّ الأجلَ غيرَ المُسمّى والمسمّى ربّما توافقا وربّما تخالفا والواقعُ حينئذٍ هوَ الأجلُ المُسمّى البتّة.
هذا ما يعطيهِ التدبّرُ في قولِه: (ثمَّ قضى أجلاً وأجلٌ مسمّى عنده) وللمُفسّرينَ تفسيراتٌ غريبةٌ للأجلينِ الواقعينِ في الآية:
منها: أنَّ المرادَ بالأجلِ الأوّلِ ما بينَ الخلقِ والموتِ والثاني ما بينَ الموتِ والبعث، ذكرَه عدّةٌ منَ الأقدمينِ وربّما روى عن ابنِ عبّاس.
ومنها: أنَّ الأجلَ الأوّلَ أجلُ أهلِ الدّنيا حتّى يموتوا، والثاني أجلُ الآخرةِ الذي لا آخرَ له، ونُسبَ إلى المُجاهدِ والجبائيّ وغيرِهما.
ومنها: أنَّ الأجلَ الأوّلَ أجلُ مَن مضى، والثاني أجلُ مَن بقيَ مَن سيأتي ونُسبَ إلى أبي مسلم.
ومنها: أنَّ الأجلَ الأوّلَ النوم، والثاني الموت.
ومنها: أنَّ المرادَ بالأجلينِ واحدٌ، وتقديرُ الآيةِ الشريفةِ ثمَّ قضى أجلاً وهذا أجلٌ مُسمّى عنده.
ولا أرى الاشتغالَ بالبحثِ عن صحّةِ هذه الوجوهِ وأشباهِها وسقمِها يسوّغُه الوقتُ على ضيقه، ولا يسمحُ بإباحته العمرُ على قصره. (تفسيرُ الميزان ج7، ص 8 - 11)
اترك تعليق