ممكن شرح مُفصّل للخلافة والحُكمُ وفقَ المنظورِ القُرآني؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
كلمةُ الخلافةِ في استخداماتِ المُسلمينَ لها دلالةٌ مُستمدّةٌ منَ التجربةِ السياسيّةِ بعدَ وفاةِ رسولِ الله، فهيَ تُطلقُ على كلِّ مَن حكمَ بعدَ رسولِ الله إلى ما بعدَ نهايةِ الدولةِ العبّاسيّة، ويكتسبُ هذا المُصطلحُ ظلالاً خاصّةً عندَ أهلِ السنّةِ بينما تستخدمُ الشيعةُ كلمةَ الإمامِ لمَن يتولّى شؤونَ المؤمنينَ الدنيويّةِ والدينيّة، ومنَ الواضحِ أنَّ الخلافةَ بهذا المعنى لا وجودَ لها في آياتِ القرآنِ الكريم، في حينِ أنَّ كلمةَ الأئمّةِ لها حضورٌ واضحٌ بينَ الآيات.
أمّا كلمةُ الحُكمِ فتُطلقُ في الاستخدامِ العُرفي لوصفِ الحالةِ السياسيّةِ والتي تقسمُ الدّولةَ إلى حاكمٍ ومحكومين، ويبدو أنَّ السائلَ يبحثُ عن النظامِ السياسيّ في القرآنِ مُستعيناً بمُصطلحي الخلافةِ والحُكم، إلّا أنَّ ذلكَ يوقعُنا في خطأٍ منهجي، فإمّا أن نفرضَ المعاني المُستخدمةَ عندَنا لكلمتي الخلافةِ والحُكم على القرآن، وإمّا أن نبحثَ عن دلالاتِها في القرآنِ بعيداً عمّا نتصوّرُه نحنُ مِن معانٍ لهذه الكلمات، ففي الخيارِ الأوّلِ مُصادرةٌ للقرآن، والخيارُ الثاني لا يوصلنا إلى ما نبحثُ عنه؛ لأنَّ كلمةَ الخلافةِ والحُكمِ في القرآنِ لا تحملُ المعاني التي نتصوّرُها نحنُ للكلمتين. وعليهِ هناكَ موضوعانِ مُختلفان.
الأوّلُ: ما هيَ الدلالةُ القُرآنيّةُ لكلمةِ الخلافةِ والحُكم وهل لهما علاقةٌ بطبيعةِ العملِ السياسي؟
والثاني: ما هوَ النظامُ السياسي في القرآنِ بحسبِ ما نفهمُه منَ العملِ السياسي؟
بالنسبةِ للسؤالِ الأوّلِ فقد جاءَت كلمةُ خليفة في القرآنِ في موردينِ وهُما:
1- قالَ تعالى: (وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعلَمُ مَا لَا تَعلَمُونَ)
2- (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَومَ الحِسَابِ)
ففي الآيةِ الأولى هناكَ خلافٌ بينَ المُفسّرينَ هل الخلافةُ خاصّةٌ بآدمَ (عليه السّلام) أم هيَ عامّةٌ تشملُ جميعَ بني آدم؟ فإن كانَت خاصّةً بآدمَ فلا يمكنُ حملها على المعنى السياسي، بل يجبُ حملها على خلافةِ اللهِ بمعنى النبوّة، وإذا كانَت عامّةً لجميعِ بني آدم فهيَ تعني خلافتَهم في الأرضِ، سواءٌ بمعنى استعمارِهم للأرضِ وعيشِهم فيها، أو بمعنى أدائهم للوظيفةِ التي خُلقوا مِن أجلِها وهيَ عبادةُ اللهِ تعالى، وعليهِ بكِلا المعنيين كلمةُ خليفة في الآيةِ لا علاقةَ لها بالخلافةِ السياسيّةِ ونظامِ الحُكم.
أمّا الآيةُ الثانيةُ فقد جمعَت بينَ كلمتي الخلافةِ والحُكم، حيثُ جعلَ اللهُ داودَ خليفةً مِن أجلِ أن يحكمَ بينَ الناسِ بالحق، وهُنا قد يقتربُ استخدامُ القرآنُ إلى استخدامِنا للكلمتين، إلّا أنَّ الفارقَ هوَ أنَّ داودَ نبيٌّ منَ الأنبياءِ، ومِن وظائفِ النبوّةِ مُضافاً للهدايةِ الحُكمُ بالحقِّ بينَ المُتخاصمينَ، ولو قبِلنا المعنى السياسيَّ للخليفةِ في هذهِ الآيةِ لابدَّ أن نقبلَ أيضاً أنَّ اللهَ هوَ الذي يُعيّنُ خليفتَه (إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً) وليسَ مِن حقِّ الناسِ أن يُعيّنوا مَن يكونُ خليفةً للهِ تعالى، فهناكَ فرقٌ بينَ خليفةِ اللهِ وبينَ خليفةِ الناس، فمَن يختارُه الناسُ يكونُ مُعبّراً عَن إرادةِ الناس، بينَما مَن يختارُه اللهُ يكونُ مُعبّراً عَن إرادتِه، وعليهِ الخليفةُ بالمعنى السياسي الذي نفهمُه لا وجودَ له في هذهِ الآية.
وهناكَ آياتٌ أخرى عبّرَت بكلمةِ خلائف، فمثلاً قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُم خَلاَئِفَ الأَرضِ وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبلُوَكُم فِي مَا آتَاكُم إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وهُنا الخلافةُ عامّةٌ للمؤمنِ والكافر، أي أنَّ اللهَ استخلفَ الإنسانَ ليبتليهِ، وهذا ما تؤكّدُه آيةٌ أخرى وهيَ قولهُ تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُم خَلَائِفَ فِي الأَرضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفرُهُم عِندَ رَبِّهِم إِلَّا مَقتاً وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفرُهُم إِلَّا خَسَاراً)، وقد تأتي بمعنى أن يكونَ قومٌ خلفاً لقومٍ آخرين، قالَ تعالى: (ثُمَّ جَعَلنَاكُم خَلاَئِفَ فِي الأَرضِ مِن بَعدِهِم لِنَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ) وهكذا بقيّةُ الآياتِ التي جاءَ فيها كلمةُ (خلائف) لا تحملُ أيّ دلالةٍ على المعنى السياسيّ للخليفة.
أمّا كلمةُ الحُكمِ فقد وردَ ذكرُها في آياتٍ كثيرةٍ منَ القرآنِ الكريم، وقد نُسبَ الحُكمُ في أغلبِها للهِ وحده، مثلَ قولِه تعالى: (إِنِ الحُكمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيرُ الفَاصِلِينَ)، وقولِه: (أَلَا لَهُ الحُكمُ وَهُوَ أَسرَعُ الحَاسِبِينَ) وقولِه: (إِنِ الحُكمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، وقولِه: (إِنِ الحُكمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَعَلَيهِ فَليَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ) والظاهرُ مِن كلِّ تلكَ الآياتِ أنَّ اللهَ هوَ الحاكمُ، وهذا لازمٌ طبيعيٌّ لكونِ اللهِ هوَ الخالقُ والآمرُ على خلقِه، فالمخلوقُ لا يمكنُه الخروجُ عَن سلطانِ اللهِ تكويناً، والعبدُ لا يمكنُه الفرارُ بفعلِه منَ اللهِ تشريعاً، فهوَ الحاكمُ بينَهم يومَ القيامة، (أَلَا لَهُ الحُكمُ وَهُوَ أَسرَعُ الحَاسِبِينَ).
وقد جعلَت بعضُ الآياتِ الحُكمَ للأنبياءِ مثلَ قولِه تعالى: (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النَّاسِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ)، وقولِه تعالى: (يَا يَحيَىٰ خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيًّا)، مُضافاً للآيةِ التي سبقَت في شأنِ داود، (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ) والحكمُ هُنا ليسَ أمراً آخرَ غيرَ حاكميّةِ اللهِ تعالى على خلقِه، والأنبياء والرّسول ليسَ إلّا مصداقاً مِن مصاديقِ حُكمِ اللهِ على الإنسان.
وعليهِ لا يمكنُ أن نستفيدَ مِن كلمةِ حُكم في القرآنِ المعنى السياسيّ الذي نفهمُه، وفي الإجابةِ على سؤالِ السائلِ (الخلافةُ والحُكمُ وفقَ المنظورِ القرآني) ليسَ أمامنا غيرَ بيانِ معنى الخليفةِ والحاكمِ في القرآنِ طالما قيّدَ سؤالَه بالمنظورِ القرآني، وهذا بالتأكيدِ ما لا يقصدُه السّائل، وإنّما كانَ يقصدُ النظامَ السياسيَّ في المنظورِ القرآني.
وعندَ الإجابةِ على السّؤالِ بصيغتِه الثانية، ينحصرُ البحثُ في الرؤيةِ الاجتهاديّة لعدمِ وجودِ آياتٍ تحدّثَت بشكلٍ مُباشرٍ عن الوضعِ السياسي الذي يجبُ أن يكونَ عليهِ حالُ الدولةِ الإسلاميّة، وإنّما هناكَ مُحدّداتٌ عامّةٌ وقيمٌ كُليّةٌ مِن خلالِها يمكنُ تكوينُ رؤيةٍ عامّةٍ تستشرفُ الوضعَ السياسيَّ للمُسلمين، ومنَ المُؤكّدِ أنَّ هذهِ الرؤيةَ مُختصرةٌ على الإطارِ العامِّ الذي يجبُ أن تكونَ عليهِ الدّولةُ دونَ التفاصيلِ الإجرائيّةِ التي يستعيرُها الإنسانُ مِن تجربتِه الحياتيّة، وهناكَ بحوثٌ مُتعدّدةٌ حولَ هذا الموضوعِ إلّا أنّه منَ الصعبِ وصفُها بأنّها مُعبّرةٌ عن المنظورِ القرآني.
والأمرُ المُؤكّدُ في القرآنِ هوَ ارتكازُ كلِّ آياتِه على توحيدِ اللهِ وحاكميّتِه، وتتحقّقُ هذهِ الحاكميّةُ عبرَ الطاعة ِوالامتثالِ لمَن أمرَ اللهُ بطاعتِه منَ الأنبياءِ والرّسلِ والأئمّة، ومِن هُنا كانَ الأئمّةُ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السلام) مِن بعدِ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) خلفاءَ اللهِ في الأرضِ والقائمين بحُكمِه على الخلق.
ولا وجودَ لخُطّةٍ بديلةٍ في القرآنِ في حالِ لم يكُن هناكَ رسولٌ أو إمام، ولا يبقى أمامَ الأمّةِ إلّا الاجتهادُ في إدارةِ شؤونِها بما يتّفقُ معَ قيمِ الدينِ وأحكامِ الشرع، ويظلُّ المؤمنونُ في حالةِ انتظارِ الفرجِ إلى حينِ ظهورِ صاحبِ العصرِ الذي يقيمُ الدّولةَ الإلهيّةَ التي تملأُ الأرضَ قسطاً وعدلاً.
اترك تعليق