كيفية تأثير معتقد المفسر في تفسيرة وهل هناك نماذج؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
قبلَ الإجابةِ لابدَّ مِن مُقدّمةٍ بسيطةٍ تشرحُ كيفيّةَ التفكيرِ عندَ الإنسانِ، فإنَّ ذلكَ يساعدُ على فهمِ كيفيّةِ تأثيرِ المُعتقداتِ على تفسيرِ المُفسّرينَ للقرآن.
فمِمّا لا شكَّ فيه أنَّ الإنسانَ في تفكيرِه يرتكزُ على مخزونِه المعرفي، بل يستحيلُ عليه تحقيقُ فهمٍ للأشياءِ انطلاقاً مِن عقلٍ فارغٍ عن أي مُعطىً سابق، فمُقاربةُ المسائلِ، وتقييمُ الموضوعاتِ، وتفسيرُ الأشياء، يتوقّفُ على وجودِ معلوماتٍ يعتمدُ عليها العقلُ للقيامِ بهذهِ الأمور، ومِن هُنا إذا سُئلَ إنسانٌ عَن أمرٍ لا يمتلكُ فيهِ أيَّ معلومةٍ لا يمكنُه الإجابةُ عنه؛ لأنَّ الإنسانَ في تفكيرِه يقومُ بمراجعةِ جميعِ معلوماتِه السابقةِ ليختارَ مِن بينِها ما يكونُ مناسباً، وإذا لم تتوفّر لهُ تلكَ المعلوماتُ استحالَ عليهِ التفكير.
وخيرُ مثالٍ على هيمنةِ المعلوماتِ السّابقةِ على نمطِ تفكيرِ الإنسانِ هيَ تفاسيرُ القرآنِ الكريم، فصاحبُ التوجّهِ اللغوي والبلاغي عندَما يُفسّرُ القرآنَ يُفسّرُه لغويّاً وبلاغيّاً، وصاحبُ التوجّهِ الفلسفيّ يُفسّرُه فلسفيّاً، والصوفيُّ يُفسّرُه رمزيّاً واشاريّاً، والمتكلّمُ يجعلُ التفسيرَ مسرحاً للجدلِ العقائديّ، وهكذا كلٌّ بحسبِ توجّهِه الفكري الذي يميلُ إليه، والخطرُ الأكبرُ في تأثيرِ المعلوماتِ السابقةِ هوَ في التعاملِ معها على أنّها مُسلّماتٌ جزميّة، الأمرُ الذي يجعلهُ يلوي النصوصَ ليّاً حتّى تنساقَ وتندرجَ معَ أفكارِه، وعندَها لا يكونُ المُفسّرُ باحثاً عن المعاني الموجودةِ في الآياتِ وإنّما باحثٌ عن طريقةٍ يفرضُ بها قناعتَه على تلكَ الآيات.
ومعَ ذلكَ فإنَّ الأمرَ لا تحكمُه الفوضى، والعقلُ ليسَ مُحايداً أو سلبيّاً أمامَ الأفكارِ، فهوَ ليسَ مُجرّدَ مستودعٍ للمعلوماتِ، وإنّما له القدرةُ على التفكيرِ المنطقي والمعالجةِ المنهجيّةِ للمعلومات، فمهما كانَ تأثيرُ التوجّهاتِ الفكريّةِ السابقةِ قويّاً، بإمكانِ العقلِ إعادةُ التفكيرِ إلى مسارِه السليمِ مِن خلالِ الضوابطِ العقليّة والمناهجِ العلميّة، وعليهِ فإنَّ المعيارَ الذي يحكمُ عمليّةَ التفسيرِ هوَ مدى الالتزامِ بضوابطِ البحثِ العلمي، فالموضوعيّةُ العلميّةُ تعني الابتعادَ عن الذاتيّةِ والتجرّدَ للحقيقةِ مِن خلالِ الانضباطِ الكاملِ بمناهجِ البحثِ العلمي، والتي تعملُ بدورِها على منعِ المُفسّرِ مِن اسقاطِ أفكارِه على الآياتِ من دونِ مُبرّرٍ منطقي ومن دونِ سندٍ منهجي.
ففي المبدأ ليسَ بوسعِ الإنسانِ أن يُفكّرَ كما يشاء، وإنّما يجبُ عليهِ التفكيرُ والاستنتاجُ بحسبِ الطرقِ المُتّفقِ عليها بينَ العقلاء، إلّا أنَّ الموضوعيّةَ الصارمةَ والإبعادَ التامَّ للذاتِ غيرُ مُتحقّقٍ في كثيرٍ منَ البحوثِ العلميّة، وبخاصّةٍ في الأمورِ الخلافيّةِ والتبايناتِ الأيدلوجيّة والعقائديّة، فصاحبُ المذهبِ العقائدي يصعبُ عليهِ تفسيرُ الآياتِ بما يخالفُ ميولهُ واعتقاداتِه، ومِن هنا تشدّدَت الرواياتُ في تحريمِ تفسيرِ القرآنِ بالرّأي، ففي الروايةِ عن رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): (مَن قالَ في القرآنِ بغيرِ علمٍ فليتبوّأ مقعدَه منَ النار)، وعن الإمامِ الصّادقِ (عليهِ السّلام): (مَن فسّرَ القرآنَ برأيه فأصابَ لم يُؤجَر، وإن أخطأ كانَ إثمُه عليه)
فمشكلةُ الإنسانِ هيَ إقرارُه بالأفكارِ التي نشأ ودرجَ عليها، فعندَما يعتادُ الإنسانُ على أفكارٍ مُعيّنةٍ يتمسّكُ بها ولا يتنازلُ عنها، حتّى لو قامَ الدليلُ على خلافِها، والإنسانُ يتمسّكُ في العادةِ بالأفكارِ التي تجعلهُ صاحبَ حظوةٍ بينَ الآخرين، أو تجعلُ منهُ صاحبَ مكانةٍ اجتماعيّة، أو غيرِ ذلكَ مِن أهواءِ النفس، ولذا كانَت مُشكلةُ المعرفةِ نفسيّةً وليسَت عقليّة.
وبشكلٍ عام يدركُ المُفسّرونَ خطورةَ الأفكارِ السابقةِ، ولذا أشاروا إلى ضرورةِ التخلّصِ منها عندَ تفسيرِ القرآن، فمثلاً يؤكّدُ السيّدُ الصدرُ في المدرسةِ القرآنيّةِ على ضرورةِ انفصالِ المُفسّرِ عن تحصيلِه الثقافي والمعرفي ليكونَ تلميذاً بينَ يدي القرآن، حيثُ يقول: (ثمّ ينفصلُ عن هذهِ الحصيلةِ ويجلسُ بينَ يدي القرآن... سائلاً ومُستفهماً ومتدبّراً) (المدرسةُ القرآنيّة، ص20)، ويقولُ سيّد قطب: (إنّ الطريقَ الأمثلَ في فهمِ القرآنِ وتفسيرِه... أن ينفضَ الإنسانُ مِن ذهنِه كلّ تصوّرٍ سابقٍ، وأن يواجهَ القرآنَ بغيرِ مقرّراتٍ تصوريّةٍ أو عقليّةٍ أو شعوريّةٍ سابقة) (في ظلالِ القرآن ج 6، ص3730)، إلا أنَّ التطبيقَ العمليَّ لهذا الأمرِ منَ الصعوبةِ بمكان، وقد أشرنا إلى أنَّ الحياديّةَ والموضوعيّةَ المُطلقةَ غيرُ متحقّقةٍ عمليّاً، والذي يدلُّ على ذلكَ حجمُ التباينِ بينَ المُفسّرينَ في تفسيرِ الآياتِ العقائديّةِ ذاتِ الطابعِ الخِلافي، ومِن هُنا لا يمكنُ إعطاءُ ضمانٍ مُطلقٍ لأيّ تفسيرٍ منَ التفسيراتِ ولا يمكنُ الإيمانُ بأنّها مُعبّرةٌ عَن مرادِ اللهِ بالضرورة، وعلى ذلكَ يجبُ التعاملُ معها على أنّها محاولةٌ لفهمِ القرآنِ بحسبِ القُدرةِ البشريّة، وما يمكنُ قبولهُ منَ التفاسيرِ هوَ التفسيرُ الذي لا يتعدّى مستوى الظهورِ العُرفي، وما هوَ فوقَ ذلكَ فلا يُقبلُ إلّا إذا كانَ مدعوماً بالحُججِ المنطقيّة، وبالنصوصِ الروائيّة، وبالقرائنِ العُقلائيّة.
أمّا بالنسبةِ للنماذجِ على تأثيرِ العقائدِ على التفسيرِ فهيَ كثيرةٌ، فمثلاً كلُّ آياتِ الصّفاتِ حدثَ خلافٌ في تفسيرِها بينَ الفرقةِ الكلاميّةِ مثلَ الأشاعرةِ والمُعتزلةِ وغيرِهم، وكتبُ العقائدِ مشحونةٌ بمثلِ هذهِ النماذجِ، والتطرّقُ لبعضِها هُنا يستوجبُ أوّلاً شرحاً مُفصّلاً للعقيدةِ وبيانِ الآراءِ المُتباينةِ حولها وسببِ الاختلافِ، وثانياً بيانُ تأثيرِ كلِّ ذلكَ على تفسيرِ الآيةِ، وذلكَ ممّا لا يحتملهُ المقام.
اترك تعليق