ما صحة حادثةَ رمي سيّدِ الشهداءِ (عليهِ السّلام) دماءَ سيّدنا عبدِ اللهِ الرّضيع (عليهِ السّلام) نحوَ السّماء؟وما سرها؟

هناكَ رواياتٌ تقولُ أنَّ الحُسينَ عليهِ السّلام رمى دمَ ابنِه عبدِ الله الرّضيعِ إلى السّماء بعد أن رماه حرملة بسهم، وهُنا كانَ السرّ الإلهيُّ الربّاني أنّه لم تنزِل أيُّ قطرةِ دمٍ إلى الأرضِ، ما صحّةُ هذهِ الرواية؟ وما هوَ السرُّ في هذا الشيء؟ وهل هناكَ أيُّ شيءٍ يُفسّرُ هذا الفعلَ؟ مع التقدير. 

: السيد عبدالهادي العلوي

السّلام عليكُم ورحمة الله وبركاته، 

إنّ حادثةَ رمي سيّدِ الشهداءِ (عليهِ السّلام) دماءَ سيّدنا عبدِ اللهِ الرّضيع (عليهِ السّلام) نحوَ السّماء، وعدم رجوعِ قطرةٍ منه، هيَ حادثةٌ معروفةٌ ومشهورة، نقلها جملةٌ مِن أربابِ التاريخِ والسيرِ والمقاتل، كأبي الفرجِ الأصفهانيّ في [مقاتلِ الطالبيّينَ ص59]، وابنِ شهرِ آشوب في [المناقبِ ج3 ص257]، وابنِ طاوسَ الحليّ في [اللهوف ص69]، وابنِ نما الحليّ في [مُثيرِ الأحزان ص52]، وابنِ كثيرٍ في [البدايةِ والنهاية ج8 ص203]، والباعوني الشافعيّ في [جواهرِ المطالب ج2 ص288]، وغيرِهم.   

وجاءَ في زيارةِ الشهداءِ في يومِ عاشوراء الصادرة عن الناحيةِ المُقدّسةِ: « السلامُ على عبدِ اللهِ بنِ الحُسين، الطفلِ الرّضيع، المرميّ الصريع، المُتشحّطِ دماً، المُصعّدِ دمَهُ إلى السّماء، المذبوحِ بالسهمِ في حِجرِ أبيه، لعنَ اللهُ راميَه حرملةَ بنَ كاهلٍ الأسديّ وذويه ». [المزارُ الكبيرُ للمُفيد ص286، المزارُ الكبيرُ للمشهدي ص488، إقبالُ الأعمال ج3 ص74].   

وقد روى الطبريّ في [تاريخِه ج4 ص342]، والمفيدُ في [الإرشادِ ج2 ص108]، والطبرسيّ في [إعلامِ الورى ج1 ص466]: أنّ الإمامَ الحُسين (عليهِ السّلام) تلقّى مِن دمِ ابنِه وصبَّه في الأرض.  

ويمكنُ رفعُ التنافي بينَ الروايتين ـ على فرضِ صحّتِهما ـ بافتراضِ كونِ مُتعلّقِ الفعلينِ واحداً، بمعنى أنَّ الإمامَ (عليهِ السّلام) ملأ كفَّه بدماءِ ولدِه (عليهِ السّلام) ورماهُ نحوَ السماءِ ثمّ ملأ كفَّه وصبَّه في الأرضِ، كما يمكنُ رفعُ التنافي أيضاً بافتراضِ كونِ مُتعلّقِ الفعلينِ اثنين، بمعنى أنّ الإمامَ (عليهِ السّلام) ملأ كفَّه بدماءِ أحدِ ولديه ورماهُ نحوَ السّماء، وملأ كفَّه بدماءِ ولدٍ آخر وصبَّه في الأرض.  

على كلِّ حال، ذكرَ عدّةٌ منَ العلماءِ أنّ السرَّ في رمي سيّدِ الشهداءِ (عليه السّلام) هذهِ الدماءَ الطاهرةَ نحوَ السماءِ وعدم رجوعِ قطرةٍ منها للأرضِ، يكمنُ في دفعِ نزولِ العذابِ على القوم؛ باعتبارِ أنّ هذهِ الدّماءَ لو أصابَت الأرضَ لانخسفَت الأرضُ بأهلها..   

قالَ العلّامةُ الدربنديّ في [إكسيرِ العبادات ج2 ص771]: « لو نزلَت قطرةٌ مِن هذهِ الدماءِ إلى الأرضِ لانخسفَت الأرضُ بأهلها ».  

وقالَ العلّامة السيّدُ أبو طالبٍ القائينيّ في [اللؤلؤةِ الغاليةِ ص95]: « وأمّا سرّ الصّلاةِ عليه [يعني على سيّدِنا الرّضيع] فلإظهارِ كمالِ الخضوعِ والعبوديّة، وتمامِ الشكرِ على تأييدِ اللهِ بالإقدامِ على مثلِ هذهِ الواقعة العظيمة، وقبولِ فدائهِ في ساحةِ ربِّ العزّة، وعدمِ ردِّه بالفداءِ عنه كما في جدّيهِ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المُطّلبِ وإسماعيلَ بنِ إبراهيم... وإظهارِ قدرِ هذا الطفلِ ومرتبتِه عندَ [الـ]حضرةِ الأحديّةِ على البرية، كما أظهرَه بالقولِ أيضاً حينَ رمى بدمِه الشريفِ إلى السماءِ قائِلاً: (اللهمَّ إنّهُ ليسَ عندكَ أخسُّ رتبةً مِن ولدِ ناقةِ صالح)، ترحّماً على الأمّة؛ لأنّهُ لو صُبّ منهُ قطرةٌ على الأرضِ لخسفَت بأهلِها ولم يبقَ على وجهِها ديّار، ولا تنبُت نباتاً، كما في الخبر ».  

وقالَ المرجعُ السيّدُ الرّوحانيّ في أجوبةِ بعضِ الاستفتاءات: « الثابتُ أنّ سيّدَ الشهداءِ (عليهِ السّلام) رمى بدمِ ابنِه الرضيعِ (عليهِ السّلام)، وكذا بدمِه الطاهرِ أيضاً لمّا أصابَه السهمُ المُثلّثُ في قلبِه المُقدّس، فلم ترجِع مِن ذلكَ ولا قطرةٌ واحدةٌ منَ الدم، والسرُّ في ذلكَ هو المنعُ مِن نزولِ العذابِ على القوم ».  

وقالَ المرجعُ الوحيدُ الخُراسانيّ في مُحاضرةٍ له ـ كما في [الحقِّ المُبينِ ص356] ـ: « وهل وقعَ مِن دمِه [يعني دمِ سيّدِ الشهداءِ (عليهِ السّلام)] على الأرض؟ ولماذا لم يترُكه الإمامُ الحُسين يجري على الأرض؟ ولو جرى على الأرضِ هل تبقى أرضٌ وأهلُ الأرض؟ إنّ هذا هوَ معنى: (السلامُ عليكَ يا رحمةَ اللهِ الواسعة ويا بابَ نجاةِ الأمّة) ».  

أقولُ: وقد جاءَ في بعضِ الرواياتِ أنّ الإمامَ (عليهِ السّلام) قالَ بعدَما رمى الدماءَ نحوَ السماء: « اللهمَّ لا يكونُ أهونَ عليكَ مِن فصيلِ (ناقةِ صالح) »، ومعناهُ أنّ هذهِ الدماءَ ليسَت أهونَ على اللهِ تعالى مِن ناقةِ صالح (عليهِ السّلام) التي نزلَ العذابُ على ثمودَ لقتلِهم إيّاها، وهذا فيهِ إشعارٌ لوجودِ نحوِ ارتباطٍ بينَ ذكرِ الناقةِ وبينَ نزولِ العذابِ الإلهيّ، ولهذا رمى الإمامُ (عليهِ السّلام) تلكَ الدماءَ الطاهرةَ نحوَ السماءِ لئلّا يسقطَ منها قطرةٌ على الأرضِ فينزلُ العذابُ على القوِم وتنخسفَ بهم الأرض.   

وتجدرُ الإشارةُ إلى أنّ هذا المشهدَ تكرّرَ عدّةَ مرّات، الأولى معَ إمامِنا سيّدِ الشهداءِ (عليهِ السّلام)، والثانيةُ مع سيّدنا عبدِ اللهِ الرّضيع (عليهِ السلام)، وقد تقدّمَت الإشارةُ لها، والثالثةُ مع سيّدنا عليٍّ الأكبرِ (عليهِ السّلام)؛ إذ وردَ في زيارةٍ له ـ كما في [كاملِ الزّيارات ص415] ـ: «..

بأبي أنتَ وأمّي دمُكَ المُرتقى به إلى حبيبِ الله، وبأبي أنتَ وأمّي من مقدّمٍ بينَ يدي أبيك، يحتسبُكَ ويبكي عليك، مُحرقاً عليكَ قلبَه، يرفعُ دمَك بكفّه إلى أعنانِ السماءِ لا ترجعُ منهُ قطرة.. »، وهوَ ظاهرٌ أنّ الإمامَ (عليه السّلام) ملأ كفَّه بدماءِ ولدِه الأكبرِ (عليهِ السّلام) ورمى بها نحوَ السماء.   

ثمّ إنّ المُستفادَ ممّا جاءَ في [مقتلِ الخوارزميّ ج2 ص34] ظهورُ الآيةِ السماويّة ـ أعني الحُمرةَ في السّماءِ ـ بعدَ رمي سيّدِ الشهداءِ (عليه السلام) دمَه نحوَ السماء، فلعلَّ هناكَ نحو ارتباطٍ بينَهما.. ذكرَ الخوارزميّ: أنّ الإمامَ الحُسينَ (عليهِ السّلام) لمّا أصيبَ « وضعَ يدَه على الجُرحِ، فلمّا امتلأت دماً رمى بها إلى السّماء، فما رجعَ مِن ذلكَ قطرة، وما عُرفَت الحُمرةُ في السّماءِ حتّى رمى الحُسينُ بدمِه إلى السّماء ».   

ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا باللهِ العليّ العظيم.