هل يزيدُ الرزق وينقصُ أم هوَ ثابتٌ لا تغيُّرَ فيه و هل القدرُ يتغيّرُ أم هوَ ثابتٌ؟
السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه، عندي أسئلة وهيَ عن الرزقِ، هل يزيدُ وينقصُ أم هوَ ثابتٌ لا تغيُّرَ فيه وهل القدرُ يتغيّرُ أم هوَ ثابتٌ وأيضاً أريدُ تفسيرَ الآيةِ الكريمة يمحو اللهُ ما يشاءُ ويُثبِت وعندَه أمُّ الكتاب وشكراً جزيلاً
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
يتضمّنُ السؤالُ ثلاثَ أسئلةٍ إلا أنّها في الواقعِ سؤالٌ واحدٌ، وهوَ: هل القدرُ يتغيّرُ أم هوَ ثابت؟ فالسؤالُ عن تقديرِ الرزقِ أو السؤالُ عن تفسيرِ الآيةِ يدخلانِ في السؤالِ عن القدر، فإذا ثبتَ أنَّ الأقدارَ تتغيّرُ بحسبِ عقيدةِ البداء يثبتُ تبعاً لذلكَ تغيّرُ الأرزاقِ، وآيةُ المحوِ والإثباتِ هيَ أحدُ الأدلّةِ في هذا الموضوع، وعليهِ ستكونُ الإجابةُ بتوضيحٍ مُختصرٍ حولَ عقيدةِ البداء فبه تتمُّ الإجابةُ على جميعِ الأسئلة.
ترتكزُ رواياتُ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) فيما يرتبطُ بالأقدارِ على كونِ اللهِ فاعلاً مُختاراً، أي أنَّ لهُ مشيئةً ماضيةً وإرادةً قاهرة، فعَن أبي عبدِ الله (ع) أنّه قالَ في قولِ اللهِ عزَّ وجل: (وَقالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغلُولَةٌ): لم يعنوا أنّهُ هكذا، ولكنّهم قالوا: قد فرغَ منَ الأمرِ فلا يزيدُ ولا ينقص، فقالَ اللهُ جلَّ جلاله تكذيباً لقولِهم: (غُلَّت أَيدِيهِم وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَل يَداهُ مَبسُوطَتانِ يُنفِقُ كَيفَ يَشاءُ)، ألم تسمَع اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: (يَمحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ) (التوحيدُ للشيخِ الصّدوق ص 167)
والمقصودُ منَ البَداءِ في المُعتقَدِ الشيعي هوَ (الإنشاءُ) وليسَ الظهورُ بعدَ الخفاء، وإنّما هوَ إنشاءٌ بعدَ إنشاءٍ وإرادةٌ بعدَ إرادة، بمعنى أنَّ للهِ مشيئةً ماضيةً وإرادةً مُستمرّةً: (للهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ)، مِن قبلِ الخلقِ وبعد الخلق، ومِن قبلِ التقديرِ وبعدَ التقدير، ومِن قبلِ الأمرِ ومِن بعدِ الأمر، ومن قبل الإرادة ومن بعد الإرادة...، فمشيئته لا تُحدُّ وإرادته لا تُقهر، حتّى ولو بإرادةٍ سابقةٍ، هذا هوَ معنى البَداءِ لا غير.
والناظرُ إلى طبيعةِ العلاقةِ بينَ الخالقِ والمخلوق، يجدُ أنَّ اللهَ يجري الأمورَ بالأسباب، أي أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يعلِّقُ وقوعَ حدثٍ مُعيّنٍ على شروطٍ مُعيّنةٍ وظروفٍ خاصّة، كما هوَ الحالُ في نَسخِ بعضِ الآياتِ أو الأحكام، فلو كانَت إرادةُ اللهِ واحدةً، وليسَ له القدرةُ على تبديلِها، فكيفَ يكونُ قد أرادَ الحُكمَ الأوّلَ ثمَّ بدّلَه بحُكمٍ آخر وإرادةٍ جديدة؟ قالَ تعالى: (ما نَنسَخ مِن آيَةٍ أَو نُنسِها نَأتِ بِخَيرٍ مِنها أَو مِثلِها)، وقال تعالى: (يَمحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ)، وقالَ: (يَسأَلُهُ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ كُلَّ يَومٍ هُوَ فِي شَأنٍ). وغيرُها كثيرٌ مِن آياتِ الذّكرِ الحكيم، التي تكشفُ أنَّ اللهَ يُغيِّرُ ويبدِّلُ، ويعلِّقُ ذلكَ بفعلِ العبد، فاللهُ لا يغيّرُ واقعَ قومٍ مِن حالٍ إلى حالٍ أحسن، إلّا إذا هُم غيَّروا ما بأنفسِهم، قالَ تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم) وقد فسّرَ الإمامُ الصّادقُ (عليه السّلام) قوله تعالى (يَمحُو اللهُ مَا يَشَآءُ وَيُثبِتُ) بقولِه: وهل يمحو اللهُ إلاّ ما كان؟ وهل يثبتُ إلاّ ما لَم يكن؟).
فمِن خطلِ الرّأي القولُ، أنَّ اللهَ أوجبَ على الناسِ أن يعبدوه وأن يعملوا صالحاً، في حينِ أنّه قد قدّرَ لهُم مقاديرَهم ومصائرَهم بشكلٍ حتميّ ونهائي، وهذا عينُ التناقضِ، فلو كانَ قد قدّرَ لنا أن نكونَ سُعداءَ أو أشقياء ونحنُ في بطونِ أمّهاتنا - ولا محيصَ عَن تغييرِ ذلك-، فما معنى أن يأمُرنا- جميعاً- بالسعيّ نحوَ السعادةِ والخير، وينهانا عن الوقوعِ في مهاوي الشقاء؟
فلا يستقيمُ للعبادةِ والدّعاءِ معنىً إلا بالبَداء، فكيفَ يعبدُ الإنسانُ أو يرجو اللهَ بالدّعاء، وكلُّ شيءٍ قد رُسمَ سلفاً، وانتهى تقديرُه، وما معنى أن يأمرَنا بأن ندعوه، وأنّه قريبٌ مجيب؟ فإذا نفينا الاعتقادَ بمبدأ البَداءِ وتملّصنا عنه، يكونُ لزاماً علينا أن نتركَ العبادة، والعملَ الصّالح، وأن نقفَ مكتوفي الأيدي، بانتظارِ مصيرِنا المَحتوم وقدرِنا المكتوب، وكأنّما هذه الحياةُ مسرحيّةٌ قد اكتملَت فصولُها ويتمُّ عرضُها، أو لوحةٌ تمَّ رسمُها وجفَّت ألوانُها.
ومِن هُنا كانَ تأكيدُ أهلِ البيتِ عليهم السّلام على عقيدةِ البَداء؛ إذ لا تستقيمُ للبشرِ عقيدةٌ ولا حياةٌ مِن دونِها، فلا يستغربُ الإنسانُ عندَما يسمعُ حديثَ الإمامِ الصّادق (عليه السّلام) وهو يقول: (ما عُبدَ اللهُ بمثلِ البَداء) ، فمَن يعبُد إلهاً ميتاً، وعاجزاً، ومحدوداً، ومغلولَ اليدين، فإنّه لم يعرِفه ولم يعبُده حتماً، أمّا مَن اعتقدَ بأنَّ اللهَ فعّالٌ لما يشاء، له الأمرُ مِن قبلُ ومن بعد، - مِن قبلِ أن يُقدِّرَ ومِن بعد ما قدَّر-، فإنّه يمارسُ دورَه في إطارِ هذهِ الصّفة، بالدعاءِ والحيويّةِ والنّشاطِ والإقبالِ إلى الله، فهوَ قد عبدَ اللهَ أحسنَ العبادة.
ومِن هُنا يصبحُ البَداءُ أساسَ دعوةِ الأنبياء، لأنّهُ مفتاحُ معرفتِه تعالى، والسبيلُ إلى الاعترافِ بتوحيدِه، وجوهرُ عبادتِه، يقولُ الإمامُ الصّادق (عليهِ السلام): (ما بعثَ اللهُ نبيّاً قط، حتّى يأخذَ عليهِ ثلاثاً: الإقرارُ للهِ بالعبوديّةِ وخلعُ الأندادِ وأنَّ اللهَ يمحو ما يشاءُ ويُثبتُ ما يشاء) (المحاسنُ، أحمَدُ بنُ محمّدٍ البُرقي ج1 ص 224)
وفي روايةٍ أخرى يقولُ (عليهِ السّلام): (لو علمَ الناسُ ما في القولِ بالبَداءِ منَ الأجرِ ما فتروا عن الكلامِ فيه) (الكافي ج1 ص 148)، ويقولُ: (ادعُ ولا تقُل إنَّ الأمرَ قد فُرغَ منه، إنَّ عندَ اللهِ عزَّ وجل منزلةً لا تُنالُ إلاّ بمسألة) (الكافي، ج 2ص 466)
وعن الإمامِ الكاظم (عليهِ السّلام) أنّهُ قال: (عليكُم بالدّعاء، فإنَّ الدّعاءَ لله، والطلبَ إلى اللهِ يردُّ القضاءَ وقد قُدِّرَ وقُضي ولم يبقَ إلاّ إمضاؤه، فإذا دُعيَ اللهُ عزّ وجلّ وسُئل، صرفَ البلاءَ صِرفةً) (الكافي ج2 ص 470)
فالقولُ بالبَداءِ يفتحُ للإنسانِ آفاقَ الدّنيا والآخرة، فهوَ سبيلٌ إلى نيلِ فضلِ اللهِ وكرمِه، والاستزادةَ مِن نعمِه وآلائِه، وإنَّ مُشكلةَ الإنسانِ وعقدتَه الكُبرى في الحياة، تكمنُ في أنّه قليلاً ما يؤمنُ بأنَّ اللهَ يفعلُ ما يشاء، وأنّه قادرٌ على تغييرِ حالِه إلى أحسنِ حال، فلا سبيلَ للإحباطِ ولا استسلامَ للظروفِ، فالذي يمكنُ أن يعيقَ حركةَ الإنسانِ وتكامله هو القنوطُ الذي يحجبُه عن قُدرةِ الله، وهوَ العاملُ المُسبّبُ في جمودِ حركةِ البشريّةِ نحوَ اللهِ تعالى، ولكي يعيدَ المُسلمينَ حيويّتَهم مِن جديد وينطلقوا في رحابِ كرمِ الله، لا بدَّ أن يرجعوا إلى أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) لكي يتعلّموا منهم الاعتقادَ بالبَداء.
والرزقُ هو واحدٌ منَ الأقدارِ التي تشملها عقيدةُ البداء، فحتّى لو كانَ مُقدّراً على العبادِ إلّا أنّهُ مُعرّضٌ للزيادةِ والنقصانِ بحسبِ عملِ الإنسان، فمثلاً التقوى منَ العبدِ تفتحُ له أبوابَ رزقٍ لم تكُن في حسبانِه، قالَ تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجا ِ وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ) وفي المقابلِ من يُعرِض عن ذكرِ اللهِ تتبدّلُ حياتُه وتكونُ معيشتُه ضنكاً، قالَ تعالى: (وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) فذكرُ اللهِ أو عدمُ ذكرِه منَ الأفعالِ الاختياريّة التي يقومُ بها الإنسان، ومعَ ذلكَ مؤثّرةٌ في تغييرِ ما قُدّرَ له إن كانَ سعادةً أو شقاءً، قالَ تعالى: (وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ).
فمُضافاً للأسبابِ المعنويّة التي يفعلها الإنسانُ وتؤثّرُ سلباً أو إيجاباً على الرزقِ، هناكَ أيضاً أسبابٌ وعواملُ ماديّةٌ لها نفسُ التأثيرِ، فالذي يعملُ ويجتهدُ في تحصيلِ رزقِه لا يتساوى مع العاطلِ الذي لا يُحرّكُ ساكناً، وفي المبدأ كلُّ مخلوقٍ أوجدَه اللهُ منَ العدمِ كفلَ لهُ رزقَه وقدّرَ لهُ قوّتَه الذي يمكّنُه منَ القيامِ بدورِه المنوطِ به، وتبقى مسؤوليّةُ الإنسانِ في تحقيقِ ذلك، فبسعيهِ في الحياةِ يرسمُ لنفسِه المصيرَ الذي يريدُه، بحيثُ تتبدّلُ أمامَه الظروفُ وتتغيّرُ الأقدارُ بحسبِ إخلاصِه وجدّيّتِه في السعي، فاللهُ يمحو ما يشاءُ مِن تلكَ الأقدارِ ويثبتُ أقداراً جديدةً لم تكُن موجودة.
اترك تعليق