هل ما نرى مِن تعدّدِ الزعاماتِ (الشيعيّة) هوَ تمدّدٌ وتعدّدٌ للمذهبِ الشيعي ؟أيُّ هؤلاءِ هُم البتريّة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
قصدُ السائلِ ليسَ واضحاً، فلم نفهَم الربطَ بينَ هذهِ العناوينِ الثلاثة: الزعاماتُ الشيعيّة، وتمدّدُ المذهبِ، والبتريّة، ولذا سيكونُ تعليقُنا عليهِ عامّاً بمقدارِ ما يمكنُ فهمُه منَ السؤال.
أوّلاً: إنَّ وصفَ الفقهاءِ الذينَ يمثّلونَ مرجعيّاتٍ للأحكامِ الشرعيّةِ بالزعاماتِ غيرُ صحيحٍ، حيثُ لا يخفى أنَّ كلمةَ زعيمٍ لها ظلالٌ سلبيّة، فكلُّ مَن سادَ حتّى مِن غيرِ وجهِ حقٍّ فهوَ زعيم، فقد جاءَ في مُعجمِ المعاني في تعريفِ هذهِ الكلمة، زَعَمَ زَعمًا: ظنَّ. وزَعُمَ زَعامةٌ: سادَ ورَأَسَ، ولذا تُستخدمُ هذهِ الكلمةُ في حقِّ مَن لهُ سيادةٌ في الشأنِ الاجتماعيّ أو السياسي، فيقالُ لشيخِ القبيلةِ أو للحاكمِ السياسيّ زعيمٌ، أي مَن لهُ سلطةٌ على أتباعِه بحُكمِ موقعِه ومكانتِه الاجتماعيّة والسياسيّة، وهذا ما لا ينطبقُ على الفقهاءِ والعلماءِ، فليسَ لهم بما هُم أشخاصٌ أيُّ سلطةٍ على أتباعِهم، وإنّما السلطةُ في الحقيقةِ هيَ سلطةُ الدّين، فالمُكلّفُ هوَ الذي يبحثُ بمحضِ إرادتِه عَن حُكمِ الله، ومِن هُنا مَن لم يتّبع الفُقهاء ولم يلتزِم بفتاواهم لا تترتّبُ عليهِ أيُّ ملاحقَ قانونيّةٍ كما هوَ الحالُ في مَن يخالفُ الزعاماتِ الاجتماعيّةَ والسياسيّة، بمعنىً آخر ليسَ هناكَ محاكماتٌ لمَن لا يعملُ بفتاوى الفقهاءِ سواءٌ كانَت محاكماتٍ عُرفيّةً كما هوَ عندَ العشائرِ، أو محاكماتٍ قضائيّةً كما هو في الدولِ والأنظمةِ السياسيّة.
فجوهرُ التشيّعِ قائمٌ بالأساسِ على التمرّدِ على كلِّ الزعاماتِ، حيثُ مثّلوا وفي طولِ التاريخِ تيّارَ الرّفضِ والمُعارضةِ لكلِّ أشكالِ الهيمنة، بعكسِ المكوّنِ الآخرِ الذي ما زالَ يُمثّلُ تيّارَ الموالاةِ لكلِّ الزعاماتِ السياسيّة، صحيحٌ أنَّ التشيّعَ قد ضحّى بالكثيرِ في سبيلِ هذا المبدأ، وما زالَ يُعاني مِن عداواتٍ وثاراتٍ توارثَت معَ الأيّام، ولكنّه ربحَ دينَه وعقيدتَه، ولم يعترِف بأيّةِ سُلطةٍ حتّى وإن كانَت مِن كبارِ الصحابةِ، طالما لم تكُن بسلطانٍ منَ الله، وحافظَ بذلكَ على مكوّناتِه الدينيّةِ والثقافيّةِ بشكلٍ مُستقلٍّ عَن أيّ نظامٍ سياسي، ولم يُضطرَّ يوماً للتنازلِ عن أيّ مبدأٍ مُجاراةً لأيّةِ هيمنةٍ سياسيّة، وقد ساعدَه في ذلكَ وضوحُ فكرتِه، وترابطُ أتباعِه في نظامٍ دقيقٍ يتّصلُ بقمّةِ الهرمِ الشيعي، وهُم الفقهاءُ والمراجع.
وسيادةُ الفقيهِ عندَ الشيعةِ إنّما هيَ تابعةٌ لسيادةِ الدين، فلا يتقدّمُ لهذا المنصبِ إلّا أكثرُهم عِلماً وورعاً وزُهداً، فقد جاءَ في وصيّةِ الإمامِ الحُجّةِ لشيعتِه في عصرِ الغيبة: (مَن كانَ منَ الفقهاءِ صائِناً لنفسِه، حافظاً لدينه، مُخالفاً لهواه، مُطيعاً لأمرِ مولاه، فللعوامِّ أن يُقلّدوه)، فالضابطُ للمرجعيّةِ هوَ الفقهُ والورع، ولتحقيقِ هذا الشرطِ اهتمَّ الشيعةُ بالمؤسّسةِ العلميّة التي تسمّى بالحوزة، وقد توارثَ الشيعةُ هذهِ المؤسّسةَ العملاقةَ منذُ زمنِ الأئمّةِ عليهم السّلام وإلى اليوم، وقد تكفّلَت ضمنَ ضوابطَ دقيقةٍ، تخريجَ عشراتِ المُجتهدينَ، الذينَ نالوا درجاتٍ عاليةٍ منَ الفقهِ والعلم.
والمهمُّ في الأمرِ، أنَّ المؤسّسةَ الحوزويّةَ لا تفرضُ مرجعاً مُحدّداً على المُقلِّد، وإنّما المُكلَّفُ هو الذي يختارُ لنفسِه مِن بينِ المُجتهدينَ مرجعاً له، فهيَ بالتالي انتخابٌ جماهيريٌّ شعبيّ لا تتدخّلُ فيهِ الدعايةُ والترغيب، فالإنسانُ المُسلمُ ضمنَ الدائرةِ الشيعيّة إمّا أن يكونَ مُجتهداً قادراً على استنباطِ الأحكامِ الشرعيّة أو مُقلّداً للفقيهِ الجامعِ لشرائطِ الاجتهاد، ويبقى بابُ الحوزةِ مفتوحاً أمامَ الجميع، لمَن يرى في نفسِه أهليّةَ التعلّمِ والاجتهاد.
والمرجعيّةُ الدينيّة ضمنَ التصوّرِ الموجودِ هيَ مصدرُ فخرِ الشيعةِ وعزّتِهم؛ لأنّهم دونَ غيرِهم منَ المذاهبِ استطاعوا أن يُوجدوا لأنفسِهم نظاماً على رأسِه العلماء: (فكيفَ ما كنتُم يولّى عليكم)، فالمُجتمعُ الذي يدفعُ لصدارتِه الفقهاءَ والعلماء، هوَ خيرُ نموذجٍ للمُجتمعِ الذي أرادَه الإسلام، ولا أتصوّرُ أنَّ هناكَ مُنصِفاً لا يرى أنَّ النظامَ المرجعيَّ عندَ الشيعةِ، هوَ الخيارُ الأمثلُ لأيّ مُجتمعٍ إسلامي، ولا بديلَ عن ذلكَ على المُستوى النظري - طالما أنَّ المُجتمعَ يتّصفُ بكونِه مُسلماً -، ولا على المُستوى العملي؛ فواقعُ الحالِ دالٌّ على أنَّ الدينَ أصبحَ مطيّةً في يدِ السّلطان.
فالمُجتمعُ الشيعيُّ مُستقلٌّ بكيانِه غيرَ مُرتهنٍ لغيرِه، ولقد كانَ ذلكَ مصدراً لعِداءِ الأنظمةِ الحاكمةِ والمذاهبِ التي تحتمي بها، رغمَ أنَّ الشيعةَ أكثرُ انضباطاً بحقوقِ المواطنةِ والعيشِ المُشترك، وأكثرُهم تعقّلاً في التعاملِ مع المُخالف، إلّا أنَّ استبدادَ الأنظمةِ لا يقبلُ أن يكونَ هناكَ ولاءٌ لغيرِه، وقد خسرَ الشيعةُ الكثيرَ بسببِ الانتماءِ
المرجعي، فهُمِّشوا، وحُوصروا، واستُضعفوا، وسُجنوا، وهُجِّروا،... ورغمَ ذلكَ، ظلّت المرجعيّةُ هيَ العلَمُ الذي يُرفرفُ على رؤوسِ الشيعة، ولو جازَ تسميةُ المرجعِ بالزعيمِ كما في بعضِ الأعراف، فإنَّ ذلكَ يعودُ إلى حبِّ الناسِ وتأثّرِهم بتوجيهاتِ المراجعِ وإرشاداتِهم، فالدافعُ لذلكَ هوَ حبُّ الناسِ للدينِ وأوامرِ الشرعِ المُقدّس، ولولا ذلكَ الحرصِ على الدين، لما دفعَ الشيعةُ أخماسَ أرباحِهم سنويّاً للمرجعيّةِ الدينيّة، الأمرُ الذي جعلَ المؤسّسةَ الدينيّةَ مُستقلّةً، وغنيّةً عن مدِّ اليدِ لطلبِ العونِ مِن أيّ نظامٍ سياسيّ موجود، ويتمُّ كلُّ ذلكَ مِن غيرِ وجودِ أيّ جهازٍ تنفيذيٍّ يحاسبُ الناسَ أو يراقبُهم في دفعِ أموالهم.
كما أنَّ تعدّدَ المرجعيّاتِ الفقهيّة مِن أهمِّ العواملِ الإيجابيّة سواءٌ كانَ على مستوى تعدّدِ المنابرِ العلميّة أو كانَ على مُستوى اتّساعِ الخياراتِ أمامَ عامّةِ الناس، وقد عملَ العُلماءُ والمراجعُ أنفسُهم على تأسيسِ الحوزاتِ والتدريسِ فيها بُغيةَ تخريجِ عشراتِ العلماءِ والفقهاءِ الذينَ يقومونَ بدورِ حمايةِ التديّنِ في المُجتمعاتِ الإسلاميّة، ولو كانَت المرجعيّةُ مُجرّدَ زعامةٍ لما ظلَّ البابُ مفتوحاً على مصراعيه أمامَ كلِّ الفقهاءِ والعلماء.
ولم نفهَم علاقةَ كلِّ ذلكَ بالبتريّة، فمُصطلحُ (البتريّة) له علاقةٌ ببعضِ الفِرقِ وبخاصّةٍ الزيديّة الذينَ خلطوا بينَ ولايةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) وبينَ ولايةِ الخليفةِ الأوّلِ والثاني، فقد نقلَ العلّامةُ المجلسي عن الكشّي قولَه: (والبتريّةُ هُم أصحابُ كثيرٍ النوا، والحسنِ بنِ صالحٍ بنِ حي، وسالمٍ بنِ أبي حفصة، والحكمِ بنِ عتيبة، وسلمةَ بنِ كهيل، وأبي المقدامِ ثابتٍ الحدّاد، وهُم الذينَ دعوا إلى ولايةِ عليٍّ (عليهِ السلام) ثمَّ خلطوها بولايةِ أبي بكرٍ وعُمر، ويثبتونَ لهُما إمامتَهما، ويبغضونَ عثمانَ وطلحةَ والزبيرَ وعائشة، ويرونَ الخروجَ معَ بطونِ ولدِ عليٍّ بنِ أبي طالب (عليهِ السّلام) ويذهبونَ في ذلكَ إلى الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكر، ويثبتونَ لكلِّ مَن خرجَ مِن ولدِ عليٍّ (عليهِ السلام) عندَ خروجِه الإمامةَ) (بحارُ الأنوار، ج 37، ص 31)
اترك تعليق