هل يستطيع المشركين الكذب يوم القيامة ؟

يصرّحُ القرآنُ الكريمُ أنَّ الإنسانَ في يومِ القيامةِ لا يتمكّنُ منَ الكذب، فكيفَ نفهمُ قولهُ تعالى في وصفِ الكافرينَ في يومِ القيامة (واللهِ ربّنا ما كنّا مُشركين)، وهوَ كذبٌ واضح؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

هناكَ أقوالٌ مُتعدّدةٌ للمُفسّرينَ في هذهِ المسألة، وأوردوا في ذلكَ عشراتِ الاحتمالاتِ كما فعلَ الفخرُ الرازي في تفسيرِه مفاتيحِ الغيب في الجُزءِ الثاني عشر، والإشكالُ الذي حاولوا رفعَه هوَ ما أشارَ إليهِ السّائل، إذ كيفَ يصدرُ منهُم الكذبُ في يومِ القيامةِ وهُم يعرفونَ اللهَ بالاضطرار؟ فلو كانوا يعرفونَه بالاستدلالِ لصارَ يومُ القيامةِ دارَ تكليفٍ وهوَ باطل، وبما أنّهم عارفونَ باللهِ بالضرورةِ ويعلمونَ أنّه مُطّلعٌ على فعلِهم، فمحالٌ والحالُ هذا أن يصدرَ عنهُم الكذب، ومعَ ذلكَ قد صدرَ عنهم الكذبُ بالفعل، وقد أكّدَت الآيةُ التي بعدَها ذلكَ وهيَ قولهُ تعالى: (انظُر كَيفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِم ۚ وَضَلَّ عَنهُم مَّا كَانُوا يَفتَرُونَ) فكيفَ يُرفعُ هذا الإشكال؟  

اختَرنا في الإجابةِ على هذا السؤالِ ما ذكرَه تفسيرُ الأمثلِ للمرجعِ مكارم الشيرازي، وما ذكرَه العلّامةُ الطباطبائيّ في تفسيرِ الميزان.   

يقولُ مكارِم الشيرازي: (يبقى سؤالٌ آخر، وهوَ أنَّ الآيةَ المذكورةَ تفيدُ أنَّ المُشركينَ يُنكرونَ شركَهم يومَ القيامةِ معَ أنَّ ظروفَ يومِ القيامةِ لا يمكنُ أن تسمحَ لأحدٍ أن يجانبَ الصدقَ وهوَ يرى تلكَ الحقائقَ الحسّيّةَ، كما لو كانَ أحدٌ يريدُ أن يُغطّي على الشمسِ في رائعةِ النهار، ليقولَ كذباً: إنَّ الدّنيا ظلام، ثمَّ إنّ هناكَ آياتٍ أخرى تفيدُ بأنّهم يومَ القيامةِ يعترفونَ صراحةً بشركِهم ولا يخفونَ أمراً: ولا يكتمونَ اللهَ حديثاً. 

يمكنُ أن نذكرَ لهذا السّؤالِ جوابين: 

أوّلاً: ليومِ القيامةِ مراحل، ففي المراحلِ الأولى يظنُّ المُشركونَ أنّهم بالكذبِ يستطيعونَ التملّصَ مِن عذابِ اللهِ الأليم، لذلكَ يرجعونَ إلى عادتِهم القديمةِ في التوسّلِ بالكذب، ولكِن في المراحلِ التاليةِ يدركونَ أن لا مهربَ لهُم أبداً، فيعترفونَ بأعمالِهم. 

يبدو أنَّ الأستارَ يومَ القيامةِ تُرفَعُ - بالتدريجِ - عن عينِ الإنسانِ، وفي البدايةِ - عندَما لا يكونُ المُشركونَ قد درسوا ملفّاتِ أعمالِهم جيّداً بعد - يركنونَ إلى الكذبِ، ولكن في المراحلِ التاليةِ حيثُ ترتفعُ فيها الأستارُ أكثر ويرونَ كلَّ شيءٍ حاضراً، لا يجدونَ مندوحةً عن الاعترافِ تماماً، مثلَ المُجرمينَ الذينَ يُنكرونَ كلَّ شيءٍ في بدايةِ التحقيق، حتّى معرفتَهم بأصدقائِهم... ولكنّهم عندَما يرونَ الأدلّةَ الماديّةَ والمُستنداتِ الحيّة التي تفضحُ جريمتَهم، يدركونَ أنَّ الأمرَ منَ الوضوحِ بحيثُ لا يحتملُ الإنكارَ، فيعترفونَ ويدلّونَ بإفادةٍ كاملة، وقد وردَ هذا الجوابُ في حديثٍ عن أميرِ المؤمنينَ عليٍّ (عليهِ السلام). 

وثانياً: إنَّ الآيةَ المذكورةَ تتحدّثُ عمَّن لا يرى نفسَه مُشركاً مثلَ المسيحيّينَ الذينَ قالوا بالآلهةِ الثلاثةِ واعتقدوا أنّهم مُوحّدونَ، أو مثل الذينَ يدّعونَ التوحيد، لكنَّ أعمالَهم ملوّثةٌ بالشركِ، لأنّهم كانوا يُعرضونَ عن تعاليمِ الأنبياءِ، ويعتمدونَ على غيرِ اللهِ ويُنكرونَ ولايةَ أولياءِ الله... هؤلاءِ يُقسمونَ يومَ القيامةِ على أنّهم كانوا موحّدين، ولكنّهم سرعانَ ما يدركونَ أنّهم في الباطنِ كانوا مُشركين، هذا الجوابُ أيضاً قد وردَ في عددٍ منَ الرواياتِ نقلاً عن الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) والإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام) وكلا الجوابينِ مقبولان) (تفسيرُ الأمثل، ج4 ص 245)  

وقد حاولَ العلّامةُ الطباطبائي مُعالجةَ الإشكاليّةِ مِن زاويةٍ أخرى؛ وهيَ أنَّ الكذبَ لم يكُن إلّا تعبيراً عن ملكةٍ مُتأصّلةٍ في نفوسِهم، ففي يومِ الحسابِ تنكشفُ السّرائرُ وتظهرُ خبايا النفس، وعليهِ ما ظهرَ منهم مِن كذبٍ ليس إلّا ظهوراً لما كانَ مخفيّاً مِن ملكاتِ نفوسِهم التي اعتادَت وطُبعَت على الكذبِ، حيثُ يقول: (فإن قلت: فعلى هذا لا معنى لتحقّقِ الكذبِ والزورِ هناكَ وقد نصَّ القرآنُ الكريمُ عليه كما في قولِه تعالى: "ويومَ نحشرُهم جميعاً ثمَّ نقولُ للذينَ أشركوا أينَ شركاؤكم الذينَ كنتُم تزعمونَ ثمَّ لم تكُن فتنتهم إلّا أن قالوا واللهِ ربّنا ما كّنا مُشركين أنظُر كيفَ كذبوا على أنفسِهم" الأنعام: 24، وقولِه تعالى: "يومَ يبعثُهم اللهُ جميعاً فيحلفونَ له كما يحلفونَ لكُم ويحسبونَ أنّهم على شيءٍ ألا إنّهم هُم الكاذبون" المُجادلة: 18. 

قلتُ: هذا مِن ظهورِ الملكاتِ كما أنَّ الإنسانَ عندَ التفكيرِ يشاهدُ خبايا نفسِه مِن غيرِ حاجةٍ إلى أن يُخبرَ نفسَه بما يفكّرُ فيه ويكشفُ عمّا في ضميرِه لنفسِه بالتكلّم؛ لأنّه على شهادةٍ مِن باطنِ نفسِه لا في غيبٍ، وهو معَ ذلكَ يتصوّرُ صورةَ كلامٍ يدلُّ ما يطالعُه منَ المعاني الذهنيّة، وربّما يتكلّمُ بلسانِه أيضاً بما يخطرُ ببالِه مِن أجزاءِ الفكرة، والباعثُ له على ذلكَ ما اعتادَ وهذا نظيرُ دعوتِهم يومَ القيامةِ إلى السّجودِ ثمَّ عدم استطاعتِهم، قالَ تعالى: "يومَ يُكشَفُ عن ساق ويُدعونَ إلى السّجودِ فلا يستطيعونَ خاشعةٌ أبصارُهم ترهقُهم ذلّةٌ وقد كانوا يدعونَ إلى السّجودِ وهُم سالمون" القلمُ: 43 فعدمُ استطاعتِهم للسجودِ ليسَ إلّا لرسوخِ ملكةِ الاستكبارِ في نفوسِهم، ولو كانَ بمنعٍ جديدٍ مِن جانبِه تعالى لكانَت الحُجّةُ لهم عليه. 

ثمَّ يقول: وبالجُملةِ: إذا تكلّمَ هوَ عن سؤالٍ كانَ تكلّمه عن اضطرارٍ إليهِ ومطابقاً لِما عندَه منَ العملِ الظاهرِ الذي لا سترَ عليهِ هناكَ البتّة، ولو تكلّمَ كذباً كانَ ذلكَ مِن قبيلِ ظهورِ الملكاتِ كما تقدّمَ وعملاً مِن أعمالِه يظهرُ ظهوراً لا كلاماً يعدُّ جواباً لسؤالٍ فيختمُ على فيهِ ويستنطقُ سمعهُ وبصرهُ وجلدهُ ويدهُ ورجلهُ ويحضرُ العمل الذي عملَه ويستشهدُ الأشهادَ واللهُ على كلِّ شيءٍ شهيد) (تفسيرُ الميزان ج 11، ص 13) 

إلّا أنَّ الظاهرَ منَ الآيةِ أنَّ ما صدرَ منهُم مِن كذبٍ كانَ قولاً باللسانِ وليسَ ظهوراً لملاكاتِ النفسِ من دونِ كلام، كما يقولُ العلّامةُ الطباطبائي: (يظهرُ ظهوراً لا كلاماً).

وعليهِ ما قدّمَه المرجعُ مكارم الشيرازي مقبولٌ وبخاصّةٍ أنّه مُستندٌ على رواياتِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام، ويبدو أنَّ الرواياتِ التي أشارَ إليها ولم يورِدها هيَ ما جاءَ في كتابِ التوحيدِ عن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) في حديثٍ طويلٍ يذكرُ فيه أحوالَ أهلِ المحشرِ وفيهِ يقولُ عليهِ السلام: ثمَّ يجتمعونَ في مواطنَ أخرى فيستنطقونَ فيه فيقولونَ: واللهِ ربّنا ما كنّا مُشركين، فيختمُ اللهُ تباركَ وتعالى على أفواهِهم ويستنطقُ الأيدي والأرجلَ والجلود، فتشهدُ بكلِّ معصيةٍ كانَت منهم، ثمَّ يرفعُ عن ألسنتِهم الختمَ فيقولونَ لجلودِهم (لمَ شهدتُم علينا قالوا أنطقَنا اللهُ الذي أنطقَ كلَّ شيءٍ) فالروايةِ تشيرُ إلى تعدّدِ المواقفِ وذلكَ في قولِه (ثمَّ يجتمعونَ في مواطنَ أخرى).

وقد أوردَ الروايةَ كتابُ الاحتجاجِ للطبرسي معَ بعضِ التفصيلاتِ، جاءَ فيه: ثمَّ يجتمعونَ في مواطنَ أخرى فيُستنطقونَ فيهِ فيقولونَ: واللهِ ربّنا ما كنّا مُشركين، وهؤلاءِ خاصّةً هُم المُقرّونَ في دارِ الدنيا بالتوحيدِ، فلم ينفعهُم إيمانُهم باللهِ تعالى لمُخالفتِهم رُسله، وشكّهم فيما أتوا بهِ عن ربّهم ونقضِهم عهودَهم في أوصيائِهم، واستبدالِهم الذي هوَ أدنى بالذي هوَ خير، فكذّبَهم اللهُ فيما انتحلوه منَ الإيمانِ بقولِه: انظُر كيفَ كذبوا على أنفسِهم. (تفسيرُ نورِ الثقلين ج1، ص 709)