كيفَ نثبتُ لشخصٍ مُلحدٍ صحّةَ نزولِ القرآنِ الكريمِ وبعثةِ الرسولِ محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلم؟؟
السلامُ عليكم :
يبتني هذا السّؤالُ على فرضيّةٍ خاطئةٍ وهيَ أنَّ القرآنَ بنفسِه ليسَ مُقنِعاً إلّا لمَن آمنَ بهِ وسلّمَ بما فيهِ مُسبقاً، وعلى ذلكَ تكونُ حُجيّةُ القرآنِ نابعةً مِن كونِه نصّاً مُقدّساً يُسلّمُ بهِ المؤمنُ حتّى لو كانَ ما فيهِ مُخالفاً لضروراتِ العلمِ والمنطقِ، وهذا خلافُ طبيعةِ القرآنِ القائمةِ على إثارةِ دفائنِ العقولِ وتذكيرِ الإنسانِ بما يجدُه في فطرتِه وفي عُمقِ وجدانِه وشعورِه، ومِن هُنا كانَ خطابُ القرآنِ لجميعِ الناسِ دونَ تمييزٍ بينَ المؤمنِ والكافر، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءَكُم بُرهَانٌ مِّن رَّبِّكُم وَأَنزَلنَا إِلَيكُم نُورًا مُّبِينًا)، فطبيعةُ القرآنِ هيَ النورُ والبرهانُ ممّا يجعلهُ صالحاً لمُخاطبةِ الجميعِ، فعندَما بعثَ اللهُ نبيَّهُ الأعظمَ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) لم يبعَثه على قومٍ مؤمنينَ باللهِ تعالى، وعندَما أمرَهُ بتبليغِ رسالتِه وتلاوةِ آياتِه إنّما أمرَهُ أن يفعلَ ذلكَ بينَ مَن كانَ كافِراً باللهِ تعالى، فلم يطلب القرآنُ منَ الإنسانِ غيرَ التدبّرِ في آياتِه، فالعقلُ السليمُ إذا تدبّرَ في آياتِ القرآنِ لا يجدُ بدّاً غيرَ التسليمِ بكونِه منَ الله، قالَ تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ ۚ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلَافًا كَثِيرًا) فقد أرجَعَنا القرآنُ بذلكَ إلى النظرِ في علومِه ومعارفِه فإن كانَ فيها تناقضٌ واختلافٌ، أو كانَت مُخالفةً لضروراتِ العلمِ والمنطِق، أو كانَت مُتصادمةً معَ فطرةِ الإنسانِ وما يحكمُ بهِ ضميرُه، فحينَها يكونُ الإنسانُ في حلٍّ منَ الالتزامِ به، فالمطلوبُ منَ الإنسانِ سواءٌ كانَ مؤمِناً أو كافراً هو التعقّلُ مِن خلالِ التدبّرِ في آياتِه والإنصاتِ لها بإنصافٍ بعيداً عن الهوى والشهوات، قالَ تعالى: (إِنَّا أَنزَلنَاهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ)، فهدفُ القرآنِ هوَ الارتقاءُ بالإنسانِ إلى مصافِ العقلاءِ مِن غيرِ أن يجبرَهم على ذلك، وإنّما الإنسانُ هوَ المسؤولُ عن تحكيمِ عقلِه وتركِ هواه، ومِن هُنا فإنَّ القرآنَ هوَ حُجّةُ اللهِ البالغة لكلِّ عاقلٍ ألقى السمعَ وهوَ شهيد، قالَ تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أَو أَلقَى السَّمعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)، ولا يكونُ كذلكَ للمُعاندِ والجاحد، فأولو الألبابِ هُم الذينَ يعرفونَ أنّهُ منَ الله، قالَ تعالى: (أَفَمَن يَعلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَن هُوَ أَعمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ )، وذلكَ لأنَّ العقلاءَ يعلمونَ أنّه ليسَ بمقدورِ أيّ بشرٍ أن يفتريَ هذا القرآنَ مِن نفسِه ومِن ثمَّ يكونُ خالياً منَ العيوبِ والنقائصِ والتناقضِ، قالَ تعالى: (وَمَا كَانَ هَٰذَا القُرآنُ أَن يُفتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصدِيقَ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصِيلَ الكِتَابِ لَا رَيبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العَالَمِينَ)، فالقرآنُ جاءَ مُفصِّلاً للحقائقِ بما لا يكونُ معَه أدنى شكٍّ أو ريب، ومِن هُنا نفهمُ عجزَ الإنسِ والجنِّ أن يأتوا بمثلِه وعجزهم عن مُجاراته بأيّ شكلٍ منَ الأشكالِ، قالَ تعالى: (قُل لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأتُوا بِمِثلِ هَٰذَا القُرآنِ لَا يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضُهُم لِبَعضٍ ظَهِيرًا)
وعليهِ ليسَ لنا طريقةٌ خاصّةٌ لإقناعِ المُلحدِ باللهِ وبالقرآنِ غيرِ طريقةِ القرآنِ نفسِها، وهيَ الطريقةُ التي تخاطبُ عقلَ الإنسانِ ووجدانَه وتذكّرُه بالحقائقِ التي تشهدُ عليها فطرتُه، فكلُّ طالبِ حقٍّ مُتجرّدٌ عن الهوى ليسَ أمامَه إلّا الرجوعُ للقرآنِ والتأمّلُ في آياتِه، فالباحثُ المُنصفُ الذي يتطلّعُ للحقيقةِ عندَما يتعقّلُ آياتِ القرآنِ ويتدبّرُ فيها سوفَ يهتدي حتماً ويقيناً إلى أنّهُ كتابُ اللهِ الذي أنزلهُ على رسولِه الأكرمِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم)، أمّا الجاحدُ والمُنكِرُ والذي يكابرُ أمامَ الحقائقِ الواضحةِ، فلا يزيدُه الحقُّ إلّا إعراضاً ولا يزيدُه القرآنُ إلّا نفوراً، قالَ تعالى: (وَلَقَد صَرَّفنَا فِي هَٰذَا القُرآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُم إِلَّا نُفُورًا) فالقرآنُ ليسَ إلّا تذكيراً للعاقلِ الذي يبحثُ عن الحقِّ، أمّا مَن يكرهُ الحقَّ فإنّهُ ينفرُ مِن كلِّ شيءٍ يذكّرُه به، وقالَ تعالى: (وَلَقَد صَرَّفنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) فالمُصِرُّ على الكُفرِ والضّلالِ لا يمكنُ هدايتُه بكلِّ الطرقِ والوسائل، وعليهِ ليسَ جميعُ البشرِ مؤهّلينَ للوقوفِ على حقائقِ القرآن، وإنّما فقط مَن يتجرّدُ للحقِّ ويوطنُ نفسَه على قبولِه حتّى لو كانَ على خلافِ مصلحتِه، أمّا أصحابُ القلوبِ المُظلمةِ التي تراكمت عليها حجبُ الغرور والغفلةِ والتكبّر فإنّها محرومةٌ من ذلك، ويجبُ أن لا تذهب انفسنا عليهم حسرات، قال تعالى: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذهَبْ نَفسُكَ عَلَيْهِم حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ).
وفي الخُلاصةِ ليسَ هناكَ طرقٌ خاصّةٌ لإقناعِ المُلحدِ بكونِ القرآنِ منَ اللهِ غيرِ القرآنِ نفسِه، فهوَ حُجّةُ اللهِ على جميعِ البشرِ إلى قيامِ السّاعة، فكلُّ ما يحكمُ بهِ العقلُ وما تأمرُ بهِ الفضيلةُ موجودٌ في كتابِ الله، ولا وجودَ لأيّ كتابٍ فيهِ جوامعُ العلمِ وأصولُ الحِكمةِ غيرَ القرآنِ الكريم.
اترك تعليق