لماذا لا تُصرَفُ أموالُ الأوقافِ وعقاراتُها على الفقراء؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
الإجابةُ المباشرةُ على هذا السؤالِ هوَ أنَّ أموالَ الوقفِ تُصرفُ على مَن أوقفَ لهم، فإن كانَت العقاراتُ التي أشارَ لها السائلُ موقوفةً للفقراءِ فيجبُ صرفُ منفعتِها عليهم، وإن كانَت موقوفةً لأمرٍ آخر فلا يجوزُ صرفها على الفقراء.
ولأنَّ صيغةَ السؤالِ توحي بعدمِ معرفةِ السائلِ بمعنى الوقفِ ارتأينا توسيعَ الإجابةِ على هذا السؤالِ بذكرِ تعريفِ الوقفِ وفلسفتِه التشريعيّة للفائدةِ العامّة.
أكثرُ التعاريفِ شيوعاً للوقفِ هو (حبسُ العينِ وتسبيلُ المنفعة)، وهوَ مُصطلحٌ فقهيٌّ يرادُ به نوعٌ مخصوصٌ من التصدّقِ والتبرّعِ في سبيلِ الخير، فيُطلقُ على الصدقاتِ التي لها استمرارٌ وديمومةٌ، حيثُ ينتفعُ بها الناسُ على امتدادِ أجيالٍ مُتتالية، وإذا وقعَ الوقفُ من الواقفِ على النحوِ الصحيحِ تزولُ مُلكيّتُه عنه وعن ورثتِه وتتحوّلُ منفعتُه إلى مَن أوقفَ لهم، يقولُ السيّدُ السيستاني في المسألةِ رقم (1274) المنشورةِ في الموقعِ الرسمي: "الوقفُ هو (تحبيسُ الأصلِ وتسبيلُ المنفعة) وإذا تمّ بشروطِه الشرعيّة خرجَ المالُ الموقوفُ عن مُلكِ الواقفِ وأصبحَ ممّا لا يُوهبُ ولا يُورَث ولا يُباعُ إلّا في مواردَ معيّنةٍ يجوزُ فيها البيعُ" وقد بحثَ الفقهاءُ الوقفَ بشكلٍ مُفصّلٍ في كتبِهم الفقهيّة، وقد انصبّت جهودُهم في بيانِ الأحكامِ الشرعيّة المُتعلّقةِ بالوقف، مثلَ أركانِ الوقفِ وشروطِه وأقسامِه، كما فصّلوا في أنواعِ العينِ الموقوفةِ وعنوانِ الوقفِ بينَ العامِّ والخاصّ، وأحكامِ المتولّي وشروطِ الضمان، وعشراتِ المسائلِ التي فصّلت حدودَ الوقفِ وأحكامَه.
أمّا فلسفةُ الوقفِ وغاياتُه ومقاصدُه فهيَ لا تخرجُ في الجملةِ عن غاياتِ الأحكامِ الماليّة الأخرى في الإسلام، إلّا أنَّ الوقفَ يمتازُ بكونِه يُحقّقُ تنميةً مُستدامةً غيرَ متوفّرةٍ في بقيّةِ التشريعاتِ، كما أنَّ الوقفَ يتيحُ المجالَ لتكوينِ مؤسّساتِ مُجتمعٍ مدني تتداخلُ معَ كلِّ الحقولِ الاجتماعيّة، فهناكَ وقفٌ للتعليم، ووقفٌ آخرُ للصحّة، وثالثٌ لرعايةِ الفُقراء، وهكذا تتّسعُ مؤسّساتُ الوقفِ باتّساعِ حاجاتِ المُجتمع، ففلسفةُ الإسلامِ في ما يتعلّقُ بالمُجتمع يمكنُ تلخيصُها في كلمةٍ واحدةٍ وهيَ بناءُ مُجتمعٍ صحيحٍ ومُتماسك، ومِن هُنا نجدُ أنَّ التشريعاتِ الإسلاميّة تعملُ على تقويةِ الطبقاتِ الضعيفةِ في المُجتمع، فمثلاً وصّى الإسلامُ بالأيتامِ والفقراءِ والمساكين، وخصّهم بعشراتِ النصوصِ التي تستهدفُ تقويتَهم والارتقاءَ بهم مِن أجلِ مُعالجِة الاختلالاتِ الاجتماعيّة، كما شدّدَ على الاهتمامِ بحقوقِ العناصرِ المُستضعفةِ في المُجتمعِ مثلَ المرأةِ والأطفالِ وكبارِ السن. ومُضافاً لذلكَ أوجدَ الإسلامُ تشريعاتٍ تهتمُّ بمُعالجةِ الأمراضِ الاجتماعيّة مثلَ الطبقيّةِ والعنصريّاتِ القبليّة وغيرِها منَ العواملِ المُخرّبة للمُجتمعات. وضمنَ هذا السياقِ يأتي الوقفُ كحُكمٍ شرعيّ يستوعبُ كلَّ القيمِ الاجتماعيّة؛ لكونِه يمتازُ بالشمولِ والتكاملِ كما أنَّ له القدرةَ على مُلاحقةِ المُتغيّراتِ والعملِ على ترميمِ كلِّ الثغراتِ التي تحدثُها التحوّلاتُ السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.
وقد قدّمَ الوقفُ خدماتٍ كبيرةً في التاريخِ الإسلامي، فمثلاً التعليمُ في العالمِ الإسلامي قبلَ قيامِ الدولِ الحديثةِ كانَ يقومُ في الأساسِ على الوقف، وأكثرُ المراكزِ العلميّة تعتمدُ بشكلٍ أساسيّ على أموالِ الوقف، ومنَ الصورِ التاريخيّةِ المُشرقةِ في مجالِ مُساهمةِ الوقفِ في التعليم، هي أنَّ المدارسَ أوّل ما أنشئَت في المجتمعِ الإسلامي نشأت على الوقف، وكانَ يشملُ الوقفُ على هذه المدارسِ إطعامَ الطلّابِ وإيواءهم وكسوتَهم وعلاجَهم، هذا مُضافاً للأوقافِ الخاصّةِ برعايةِ الفُقراء أو أبناءِ السبيل، كما كانَ للوقفِ دورٌ فعّالٌ في القطاعِ الصحّي، سواءٌ كانَ مِن خلالِ النهوضِ بعلمِ الطبِّ والصيدلةِ عن طريقِ إيقافِ مكتباتٍ مُختصّةٍ بذلك، أو مِن خلالِ بناءِ المُستشفياتِ وتجهيزِ العديدِ منَ المراكزِ الصحيّةِ المُتنقّلةِ لخدمةِ المرضى في السجونِ والأماكنِ النائية، وقد وجدَ في بغداد لوحدِها سنةَ 1160م ما يربو على ستّينَ مُستشفىً وفي قرطبةَ خمسينَ مستشفى، كما جاءَ في كتابِ (أوقافِ الرعايةِ الصحيّة) لأحمد عوف محمّد عبدِ الرحمن ص 84. وذكرَ أحمدُ الريسوني في كتابِه (الوقفُ الإسلامي، مجالاتُه وأبعاده) ص 106، بأنَّ المغربَ عرفَ العديدَ منَ المُستشفياتِ الوقفيّةِ في كلٍّ مِن فاس ومكناس ومرّاكش والرباط وسلا وتازة، أبرزُها مُستشفى سيدي فرج بفاس الذي أسّسَ عام 1286م واستمرَّ العملُ فيه إلى أواسطِ القرنِ العشرين، ومُستشفى محمّد الغازي بالرباطِ الذي كانَ مُخصّصاً لعلاجِ المجانينَ والمُختلّينَ عقليّاً، كما وجدَت إقاماتٌ حبسيّةٌ خاصّةٌ لبعضِ أصنافِ المُعاقينَ والمُصابينَ ببعضِ الأمراضِ المُعديةِ المُستعصيةِ.
كلُّ ذلكَ يؤكّدُ الدورَ الكبيرَ الذي تقومُ بهِ شعيرةُ الوقفِ في المُجتمعاتِ الإسلاميّة، وقد سجّلَ لنا التاريخُ حجمَ المواردِ الهائلةِ للوقفِ والتي تمَّ تقديرُها في مطلعِ القرنِ التاسع عشر بثلثِ الأراضي المزروعةِ في مصرَ وتركيا وسوريا وفلسطينَ والعراق والجزائر والمغرب، إلّا أنَّ اعتمادَ المُجتمعاتِ في الدولِ الحديثةِ على الحكوماتِ قلّلَ مِن أهميّةِ الوقف، كما أنَّ سيطرةَ الدولِ على إداراتِ الأوقافِ منعَها منَ التفاعلِ الطبيعي معَ حاجاتِ المُجتمع، ومنَ الضروريّ إعادةُ الوقفِ كمؤسّسةٍ فاعلةٍ لتسدَّ كلَّ الفراغاتِ التي تُعاني منها مُجتمعاتُنا المُعاصرة، وهناكَ الكثيرُ منَ الأبحاثِ والدراساتِ المنشورةِ التي تتحدّثُ بشكلٍ مُفصّلٍ عمّا يمكنُ أن يقومَ بهِ الوقفُ مِن حلٍّ لمشاكلِ الفقرِ والبطالةِ في المُجتمعاتِ العربيّة، غيرَ أنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى تحويلِ تلكَ الأبحاثِ والمُقترحاتِ إلى برامجَ عمليّة تعيدُ الوقفَ كثقافةٍ فعّالةٍ في الأمّة.
اترك تعليق