هل عدم الإيمان بأحداث الماضي انحراف؟
أنا ابن اليوم ولا أؤمن بكل ما يقوله التاريخ لكني لا أنكر وجود الإله ولا أنكر أيضا ما ورد في القرآن الكريم.. هل أنا منحرف؟!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : كلُّ إنسانٍ يعيشُ اللحظاتِ التي تمتدُّ فيها حياتُه، وليسَ بإمكانِه العيشُ خارجَ الظرفِ الذي وُجدَ فيه، إلّا أنَّ الإيمانَ بالحاضرِ وحدَه لا يعني عدمَ الإيمانِ بالتاريخ، فكلُّ يومٍ يمرُّ على عُمرِ البشريّةِ ليسَ يوماً مبتوراً أو وجدَ منَ الفراغ، وإنّما هوَ امتدادٌ طبيعيٌّ لسلسةِ الأيّامِ التي سبقَته، ومِن هُنا لا يمكنُ فهمُ حاضرِ البشريّةِ بعيداً عن فهمِ تاريخِها وماضيها، فالتعبيرُ الأقربُ هوَ أنَّ الحاضرَ ابنُ التاريخِ بينَما المستقبلُ هوَ ابنُ الحاضر، أي هناكَ علاقةٌ وترابطٌ وثيقٌ بينَ اليومِ الذي تريدُ العيشَ فيه وحده، وبينَ التاريخِ الذي ساهمَ في صناعةِ هذا اليوم، فما تطمحُ أن تكونَ عليه غداً لهُ علاقةٌ بما أنتَ عليهِ اليوم، ولا فرقَ بينَ التاريخِ البعيدِ والقريبِ فكلٌّ له تأثيرُه بقدر، فثقافةُ المُجتمعاتِ ونظامُها الفكريُّ هو الذي يحدُّدُ للإنسانِ خياراتِه اليوميّة، وفي المقابلِ سُننُ التاريخِ وتراكمُ الخبراتِ هيَ التي تُحدّدُ ثقافةَ المُجتمعاتِ ونظامَها الفكري، وبذلكَ ليسَ بإمكانِ الفردِ أن يختارَ الكفرَ بالتاريخِ للعيشِ مُنعزلاً في حاضرِه، لأنَّ الحاضرَ نفسَه لا يمكنُه التخلّي عن ماضيه، وعليهِ هناكَ رابطٌ حيويٌّ بينَ التجربةِ على مُستوى الواقعِ والتجربةِ التي مضَت، بحيثُ يكونُ الواقعُ الحاضرُ هو رهينةُ الرؤيةِ التاريخيّة، فتكاملُ المسيرةِ واستمراريّتُها على المُستوى الراهنِ، وليدُ علاقةٍ جدليّةٍ بينَ الحاضرِ ونظرتِه إلى الماضي، فللتّاريخِ حيويّةٌ فاعلةٌ بما يحتويهِ مِن تراكمٍ في الخبرةِ البشريّة. والتاريخُ ليسَ فقط مُجرّدَ أحداثٍ وقعَت في الماضي، وإنّما هناكَ سننُ التاريخِ التي تحكمُ حركةَ الإنسانيّةِ عبرَ الزمان، قالَ تعالى: (أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم ۚ كَانُوا أَكثَرَ مِنهُم وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرضِ فَمَا أَغنَىٰ عَنهُم مَّا كَانُوا يَكسِبُونَ) فالآيةُ تدعو للتدبّرِ والتفكّرِ في الحوادثِ التاريخيّةِ مِن أجلِ الوقوفِ على السُّننِ والنواميسِ المُتحكّمةِ في تلكَ الأحداث. ومع ذلكَ نحنُ لا ندعو لتقديسِ التاريخِ أو الإيمانِ بكلِّ ما جاءَ فيه، ولكنّنا نؤمنُ بتأثيرِه علينا ولا يمكنُ التخلّي عنه بمُجرّدِ قرارٍ نتّخذُه، وإنّما يجبُ التعاملُ معه بوصفِه ما زالَ حاضراً بينَنا، فخياراتُنا اليومَ كمُسلمينَ لها علاقةٌ وثيقةٌ بتاريخِنا الإسلاميّ، ومُعادلةُ الحقِّ والباطلِ هيَ ذاتُها المعادلةُ التي تحكمُ الماضي والحاضر، فكما أنَّ مسيرةَ أهلِ الحقِّ مُتّصلةٌ كذلكَ مسيرةُ أهلِ الباطل، وحتّى يُحدّدَ الإنسانُ موقعَه لابدَّ أن يدرسَ التاريخَ جيّداً ويمحّصَ أحداثَه حتّى يكونَ مسارُه اليومَ مُتّصلاً بمسارِ الحق. وفي المُحصّلةِ لا يمكنُك كمُسلمٍ أن تكفُرَ بالتاريخِ بشكلٍ مُطلق، لأنَّ الكُفرَ المُطلقَ هوَ كفرٌ بالأنبياءِ والرّسلِ والأئمّة، وبالتالي الكفرُ بمسيرةِ أهلِ الحقِّ، وفي نفسِ الوقتِ لا يمكنُ الإيمانُ به بشكلٍ مُطلق، لأنَّ ذلكَ جهلٌ وخلطٌ بينَ الحقِّ والباطل، وإنّما يجبُ الإيمانُ بما هو حقٌّ والكفرُ بما هوَ باطلٌ.
اترك تعليق