ما حقيقة أن بعض الأخباريين يعتقدون بتحريف القرآن الكريم؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : ما عليهِ علماءُ الشيعةِ ومرجعيّاتُها الدينيّةُ هوَ صيانةُ القرآنِ منَ الزيادةِ أو النقصان، وما سطّرَهُ علماءُ الشيعةِ دفاعاً عن القرآنِ هوَ أفضلُ ما انتجَته الأمّةُ الإسلاميّةُ في هذا الشأنِ، ومعَ ذلكَ تجدُ البعضَ يصرُّ على هذهِ التُّهمةِ لتشويهِ صورةِ الشيعةِ بقصدِ عزلِهم عن المُحيطِ الإسلامي، وبحمدِ الله لم تنجَح هذه الفريةُ في تحجيمِ التشيّعِ بل حدثَ العكسُ حيثُ كسبَ الشيعةُ مساحاتٍ جديدةً في العالمِ الإسلاميّ لم يكُن لها سابقُ عهدٍ بالتشيّع، كما أنَّ الكثيرَ مِن علماءِ أهلِ السنّةِ وباحثيهم تصدّوا للدّفاعِ عن الشيعةِ ونفي هذهِ الكذبةِ عنهم، فمثلاً يقولُ الشيخُ محمّد الغزالي: (سمعتُ مِن هؤلاءِ يقولُ في مجلسِ علم: أنَّ للشيعةِ قرآناً آخر يزيدُ وينقصُ عن قرآنِنا المعروف! فقلتُ: أينَ هذا القرآن؟! ولـماذا لم يطّلِع الإنسُ والجنُّ على نُسخةٍ منه خلالَ هذا الدهرِ الطويل؟ لمـاذا يساقُ هذا الافتراء؟ … ولمـاذا هذا الكذبُ على الناسِ وعلى الوحي)، ويقولُ الدكتور عليّ عبدُ الواحد وافي: (يعتقدُ الشيعةُ الجعفريّةُ كما يعتقدُ أهلُ السنّةِ أنَّ القرآنَ الكريم هوَ كلامُ اللهِ عزَّ وجلّ المُنـزَلِ على رسولِه المنقولِ بالتواترِ والمدوّنِ بينَ دفّتي المصحفِ بسورِه وآياتِه المُرتّبةِ بتوقيفٍ منَ الرسولِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، وأنّه الجامعُ لأصولِ الإسلامِ عقائدِه وشرائعِه و أخلاقِه، والخلافُ بينَنا وبينَهم في هذا الصددِ يتمثّلُ في أمورٍ شكليّةٍ وجانبيّةٍ لا تمسُّ النصَّ القرآنيَّ بزيادةٍ ولا نقصٍ ولا تحريفٍ ولا تبديلٍ ولا تثريبَ عليهم في اعتقادِهم)، ويقولُ الشيخُ محمّد أبو زهرة: (إنَّ الشريفَ المُرتضى وأهلَ النظرِ الصادقِ مِن إخوانِنا الاثنا عشريّة قد اعتبروا القولَ بنقصِ القرآنِ أو تغييرِه أو تحريفِه تشكيكاً في مُعجزةِ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم واعتبروهُ إنكاراً لأمرٍ عُلمَ منَ الدينِ بالضرورة) وقولُ الشريفِ المُرتضى الذي يشيرُ له الشيخُ أبو زهرة هوَ هذا: (إنَّ العلمَ بصحّةِ نقلِ القرآنِ كالعلمِ بالبلدانِ والحوادثِ الكبارِ والوقائعِ العِظامِ والكتبِ المشهورةِ وأشعارِ العربِ المسطورة، فإنّ العنايةَ اشتدَّت والدواعي توفّرَت على نقلِه وحراستِه وبلغَت إلى حدٍّ لم يبلغه ما ذكرناهُ لأنّ القرآنَ مُعجزةُ النبوّةِ ومأخذُ العلومِ الشرعيّةِ والأحكامِ الدينيّة، وعلماء المُسلمين قد بلغوا في حفظِه وحمايتِه الغايةَ حتّى عرفوا كلَّ شيءٍ اختلفَ فيهِ مِن إعرابِه وقراءتِه وحروفِه وآياتِه، فكيفَ يجوزُ أن يكونَ مُغيّراً أو منقوصاً معَ العنايةِ الصادقةِ والضبطِ الشديدين؟) وهناكَ الكثيرُ منَ الأقوالِ المُنصفةِ التي تنفي عن الشيعةِ شُبهةَ القولِ بتحريفِ القرآن.والسببُ في إثارةِ هذا الموضوعِ هو وجودُ رواياتٍ عندَ الشيعةِ والسنّة قد يؤدّي التسليمُ بصحّتِها للقولِ أنَّ هناكَ نقصاً حدثَ في المصحفِ المعروفِ بينَ المُسلمين، وهذا ما لا يمكنُ قبولهُ فالتسليمُ بسلامةِ القرآنِ مُقدّمٌ بالضرورةِ على سلامةِ تلكَ الروايات، وما يلفتُ الانتباهَ أنَّ مرويّاتِ الشيعةِ بعيداً عن التدقيقِ في أسانيدِها جميعُها قابلٌ للتأويلِ والتوجيهِ بعيداً عن القولِ بالتحريف، فرواياتُهم ظاهرةٌ في أنَّ الذي وقعَ عليهِ الحذفُ هوَ ما كانَ في مصحفِ أميرِ المؤمنينَ مِن تفسيراتٍ وتأويلاتٍ ولا علاقةَ للنّقصِ بأصلِ الآياتِ النازلةِ منَ اللهِ تعالى، أو أنَّ التحريفَ المقصودَ هو تحريفٌ في المعنى وليسَ في الحروف، أي أقاموا حروفَه وحرّفوا معانيه، يقولُ الشيخُ المُفيد: (وقد قالَ جماعةٌ مِن أهلِ الإمامةِ أنّه لم ينقُص مِن كلمةٍ ولا مِن آيةٍ ولا مِن سورةٍ ولكن حُذفَ ما كانَ مُثبتاً في مصحفِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السلام مِن تأويلِه وتفسيرِ معانيه على حقيقةِ تنزيلِه، وذلكَ كانَ ثابتاً مُنزلاً وإن لم يكُن مِن جُملةِ كلامِ اللهِ تعالى الذي هوَ القرآنُ المُعجِز، وعندي أنّ هذا القولَ أشبهُ مِن مقالِ مَن ادّعى نقصانَ كلمٍ مِن نفسِ القرآنِ على الحقيقةِ دونَ التأويل، وإليهِ أميلُ واللهُ أسألُ توفيقَه للصّواب)، وذلكَ على خلافِ رواياتِ أهلِ السنّةِ التي يصعبُ معَها التأويلُ والتوجيه، فكثيرٌ مِنها نصٌّ صريحٌ في وقوعِ النقيصةِ في القرآنِ الكريم، كروايةِ مُسلمٍ في صحيحِه عن أبي موسى الأشعري أنّه قالَ لقرّاءِ البصرة : (كنّا نقرأ سورةً نشبّهُها في الطولِ والشدّةِ ببراءةَ فأنسيتُها، غيرَ أنّي حفظتُ منها: لو كانَ لابنِ آدمَ واديانِ مِن مال، لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفَ ابنِ آدمَ إلاّ التراب) وهذا تصريحٌ بفقدانِ سورةٍ كاملةٍ كسورةِ براءةَ في الطول، وكذلكَ روايةُ السيوطيّ في الاتقانِ عن عائشةَ قولها: (أنّ سورةَ الأحزابِ كانَت تُقرأ في زمانِ النبيّ (ص) في مائتي آيةٍ، فلم نقدِر مِنها إلاّ على ما هوَ الآن) وعلى ذلكَ فإنَّ هناكَ 127 آيةً حُذفَت منَ المصحفِ، وهناكَ رواياتٌ أخرى تؤيّدُ هذهِ الروايةَ كما في مُسندِ أحمد والمُستدرَك والسُّننِ الكُبرى وتفسيرِ الطبري عن عُمرَ وأبي بنِ كعب وعكرمةَ مولى ابنِ عبّاس، قولهما: (أنّ سورةَ الأحزابِ كانَت تقاربُ سورةَ البقرةِ، أو هيَ أطولُ منها، وفيها كانَت آيةُ الرّجم)، وقد أشارَ البُخاريّ أيضاً لآيةِ الرجمِ في صحيحِه، حيثُ قال: (إنَّ اللهَ بعثَ محمّداً صلّى اللهُ عليهِ وسلّم بالحقِّ وأنزلَ عليهِ الكتاب، فكانَ ممّا أنزلَ اللهُ آيةَ الرّجم، فقرأناها وعقِلناها ووعيناها، ورجمَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم ورجَمنا بعدَه، فأخشى إن طالَ بالنّاسِ زمانٌ أن يقولَ قائلٌ واللهِ ما نجدُ آيةَ الرّجمِ في كتابٍ فيضلّوا بتركِ فريضةٍ أنزلَها اللهُ، فالرّجمُ في كتابِ اللهِ حقٌّ على مَن زنا) والآيةُ المزعومةُ هيَ: (ورويَ أنّ عُمراً رضيَ اللهُ عنه قالَ: لولا أن يُقالَ زادَ عُمرُ في كتابِ اللهِ لأثبتُّ في المصحفِ، فقد نزلَت: الشّيخُ والشّيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّةَ نكالاً منَ اللهِ واللهُ شديدُ العقاب) وغيرُ ذلكَ منَ الرواياتِ الصريحةِ التي يصعبُ تأويلُها أو توجيهُها بعيداً عن حدوثِ النقيصةِ في القرآنِ الكريم، ومعَ ذلكَ لم يتّهم الشيعةُ أهلَ السنّةِ بالقولِ بالتحريفِ حِفاظاً على القرآنِ مِن أيّ شُبهةٍ تُشكّكُ في صحّتِه. أمّا ما صدرَ عن بعضِ علماءِ الإخباريّةِ فهوَ نتاجٌ للمنهجيّةِ الخاطئةِ التي تقومُ على تصحيحِ كلِّ ما رويَ مِن أحاديث، وهذا خلافُ ما عليهِ جمهورُ عُلماءِ الشيعة، فمُعظمُ رواياتِ التحريفِ إمّا تنتهي للسيّاري وهو فاسدُ المذهبِ ومنحرفٌ وغالٍ وملعونٌ على لسانِ الصادقِ (عليهِ السلام)، ومطعونٌ فيه مِن قبلِ جميعِ الرجاليّينَ. وإمّا عن عليٍّ بنِ أحمدَ الكوفي الذي وصفَه علماءُ الرّجالِ بأنّه كذّابٌ فاسدُ المذهب. أو عن يونسَ بنِ ظبيان الذي ضعّفَه النجاشيّ، ووصفَه ابنُ الغضائري بأنّه غالٍ كذّابٌ وضّاعٌ للحديث. أو عن منخلَ بنِ جميلٍ الكوفي الذي يقولونَ فيه: إنّهُ غالٍ مُنحرفٌ ضعيفٌ فاسدُ الرّواية. أو عن محمّدٍ بنِ حسن بنِ جمهور الذي هو غالٍ فاسدُ المذهبِ ضعيفُ الحديث. وعليهِ فإنَّ أمثالَ هؤلاءِ لا يصحُّ الاعتمادُ على رواياتِهم.وليسَ منَ الانصافِ أخذُ جميعِ الشيعةِ ببعضِ الآراءِ الشاذّةِ المُخالفةِ لِما أجمعوا عليه، وقد صرّحَ جميعُ العلماءِ والمُحقّقونَ بعقيدتهِم في القرآنِ منذُ زمنِ الصدوقِ إلى يومِنا هذا، حيثُ يقولُ الشيخُ الصدوقُ المتوفّي سنةَ 381هـ في اعتقادِ الإماميّة: (اعتقادُنا في القرآنِ الكريمِ الذي أنزلَه اللهُ تعالى على نبيّه محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآله هوَ ما بينَ الدفّتين، وهوَ ما في أيدي الناسِ ليسَ بأكثرَ مِن ذلكَ ومَن نسبَ إلينا أنّا نقولُ أنّه أكثرُ مِن ذلكَ فهوَ كاذبٌ). ويقولُ شيخُ الطائفةِ الطوسي: (وأمّا الكلامُ في زيادتِه ونقصانِه فمِمّا لا يليقُ به، لأنّ الزيادةَ فيه مُجمَعٌ على بطلانِها، والنقصانِ منه فالظاهرُ مِن مذهبِ المُسلمينَ خلافُه وهوَ الأليقُ بالصحيحِ مِن مذهبِنا، وهو الذي نصرَه المُرتضى وهو الظاهرُ منَ الرّوايات)، ولو تتبّعنا كلماتِ العلماءِ الأعلامِ إلى يومِنا الحاضرِ لطالَ بنا الأمرُ، فمِن بديهيّاتِ عقائدِ الشيعةِ هوَ القولُ بسلامةِ القرآنِ منَ الزيادةِ والنقصان.
اترك تعليق