هل ينحصرُ دورُ رجلِ الدينِ في بيانِ الحُكمِ الشرعيّ ودفعِ الشُّبهاتِ أم أنّهُ شريكٌ أساسيٌّ في عمليّةِ التغييرِ ومواجهةِ الأنظمةِ المُستبدّة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : تختلفُ الإجابةُ على هذا السؤالِ باختلافِ التصوّرِ الذي نحملهُ عن الإسلام، فالذي ينطلقُ مِن خلفيّةٍ تحصرُ الإسلامَ في الجانبِ الفردي بعيداً عن أيّ أدوارٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّة، سوفَ يحصرُ مُهمّةَ رجلِ الدينِ في بيانِ الأحكامِ وردِّ الشُّبهات، أمّا مَن يرى الإسلامَ مشروعاً يستوعبُ جميعَ أبعادِ الحياةِ لابدَّ أن يُحمّلَ رجلَ الدينِ مسؤوليّاتٍ تتعدّى بيانَ الاحكامِ وردَّ الشّبهات. فإذا أخَذنا مثلاً التصدّي للأنظمةِ المُستبدّةِ كما يشيرُ السائل، وسألنا عن دورِ رجلِ الدينِ في ذلك؟ لوجَدنا أجوبةً مُتعارضةً داخلَ الوسطِ الإسلاميّ، ولا نقصدُ بذلكَ التباينَ على مستوى الآراءِ الشخصيّةِ وإنّما نقصدُ التباينَ على مُستوى المذاهبِ والمدارسِ الإسلاميّة، فالانقسامُ الشيعيُّ السنّيُّ يعودُ في جذورِه لهذهِ المسألة، فبينَما مثّلَ التشيّعُ في طوالِ التاريخِ تيّارَ المُعارضةِ لكلِّ الأنظمةِ المُستبدّة، مثّلَ أهلُ السنّةِ تيّارَ الموالاةِ لتلكَ الأنظمة. ولا يعني ذلكَ عدمُ وجودِ مَن يرى ضرورةَ الخنوعِ والاستسلامِ للحاكمِ مِن داخلِ التشيّع، ومَن يرى ضرورةَ الخروجِ والتمرّدِ عليه مِن داخلِ أهلِ السنّة، إلّا أنَّ التشيّعَ في نصوصِه ومباديهِ يقومُ على ضرورةِ التصدّي للشأنِ العامِّ ومُقارعةِ المُستبدّين، بينَما يقومُ التسنّنُ في نصوصِه ومباديه على الانعزالِ منَ الشأنِ العامِّ وضرورةِ السمعِ والطاعةِ لكلِّ مَن حكم، فكلُّ مرويّاتِ أهلِ السنّةِ في هذا الشأنِ تحرّمُ الخروجَ على الحاكم، ومِن ذلكَ ما أخرجَ مُسلمٌ (1847) عن حُذيفةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: يَكُونُ بَعدِي أَئِمَّةٌ لا يَـهتَدُونَ بِـهُدَايَ، وَلا يَستَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِم رِجَالٌ قُلُوبُهُم قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُـثمان إنَّسٍ، قَالَ: قُلتُ: كَيفَ أَصنَعُ يَا رَسُولَ الله إنَّ أَدرَكتُ ذَلِكَ؟، قَالَ: تَسمَعُ وَتُطِيعُ لِلأمِيرِ، وَإنَّ ضُرِبَ ظَهرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ؛ فَاسمَع وَأَطِع. وأخرجَ البُخــــاريُّ (7053)، ومُسلمٌ (1851) عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم قَــالَ: مَن كَرِهَ مِن أَمِيرِهِ شَيئًا فَليَصبِر، فَإنَّهُ مَن خَرَجَ مِنَ السلطان شِبرًا مَاتَ مِيتَةً جاهلية. والنصوصُ في ذلكَ كثيرةٌ وليسَ هناكَ روايةٌ واحدةٌ عندَ أهلِ السنّةِ تجيزُ الخروجَ على الحاكمِ الظالم، فرجلُ الدينِ ضمنَ هذهِ الرؤيةِ لابدَّ أن يكونَ مُصطفّاً إلى جانبِ الحاكم، وعلى ذلكَ قامَ إجماعُهم، يقولُ الإمامُ أحمد: ومَن خرجَ على إمامٍ مِن أئمّةِ المُسلمين، وقد كانَ الناسُ اجتمعوا عليه، وأقرّوا لهُ بالخلافةِ بأيّ وجهٍ كانَ بالرّضا أو بالغلبةِ فقد شقَّ هذا الخارجُ عصا المُسلمينَ، وخالفَ الآثارَ عن رسولِ الله، فإن ماتَ الخارجُ عليهِ ماتَ ميتةً جاهليّة. (شرحُ أصولِ السنّة، عبدُ العزيزِ بنِ عبدِ الله الرّاجحي، ص 171) وَقَالَ أبو الحسنِ الأشعري: وأجمعوا عَلى السمعِ والطاعةِ لأئمّةِ المُسلمينَ ...مِن بَرٍّ وفاجرٍ لا يلزمُ الخروجُ عليهم بالسيفِ جارَ أو عدلَ... (رسالةٌ إلى أهلِ الثُّغر، الإمامُ أبو الحسنِ الأشعري، ص 296) وقالَ الآجري: مَن أُمِّرَ عليكَ مِن عربيٍّ وغيرِه، أسودٍ أو أبيض، أو أعجميّ، فأطِعه فيما ليسَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فيهِ معصيةٌ، وإن ظلمكَ حقّاً لك، وإن ضربكَ ظُلمًا، وانتهكَ عرضَك وأخذَ مالك، لا يَحملُك ذَلِكَ عَلَى أن يَخرج عليه سيفُك حتَّى تقاتلَه، ولا تَخرُج معَ خارجيٍّ حتَّى تقاتلَه، ولا تُحرِّض غيرَك عَلَى الخروجِ عليه، ولكِن اصبِر عليه". ( الشريعةُ للآجري، ص40) وقالَ الطحّاوي في عقيدةِ أهلِ السنّة: ولا نرى الخروجَ على أئمّتِنا وولاةِ أمورِنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزعُ يداً مِن طاعتِهم، ونرى طاعتَهم مِن طاعةِ الله -عزَّ وجل- فريضةً، ما لم يأمروا بمعصيةٍ، وندعو لهُم بالصلاحِ والمُعافاة. وقالَ الحافظُ فِي الفتح: وقد أجمعَ الفُقهاءُ على وجوبِ طاعةِ السلطانِ المُتغلِّبِ والجهادِ معه، وإنَّ طاعتَه خيرٌ منَ الخروجِ عليه لِما فِي ذَلِكَ مِن حقنٍ لدماءٍ وتسكيناً لدهماء (العقيدةُ الطحاويّة ص 32)ولقد ذكرَ هذا الإجماعَ جمعٌ منَ العُلماءِ مِنهم النوويُّ حيثُ قالَ في شرحِه لصحيحِ مُسلم: وأمّا الخروجُ عليهم وقتالُهم فحرامٌ بإجماعِ المُسلمينَ وإن كانوا فسقةً ظالمين.) شرحُ النوويّ ج 12، ص 229). ونقلَه ابنُ حِجر عن ابنِ بطّال فقالَ: وقد أجمعَ الفقهاءُ على وجوبِ طاعةِ السُّلطانِ المُتغلّبِ والجهادِ معَه وأنَّ طاعتَه خيرٌ منَ الخروجِ عليهِ لِما في ذلكَ مِن حقنِ الدماءِ وتسكينِ الدّهماء.. ولم يستثنوا مِن ذلكَ إلاّ إذا وقعَ منَ السُّلطانِ الكُفرُ الصّريح ... (فتحُ الباري، ج13، ص 7)وكلُّ ذلكَ مخالفٌ لِما عليهِ مذهبُ أهلِ البيتِ عليهم السلام، حيثُ مثّلَ التشيّعُ إسلامَ الرفضِ والمُعارضةِ لكلِّ الأنظمةِ الاستبداديّة، كما مثّلَ الإمامُ الحُسين (عليهِ السلام) وثورتُه المُباركةُ قمّةَ التحدّي والتضحيةِ في هذا السبيل، فرواياتُ الشيعةِ صريحةٌ وواضحةٌ في شرعيّةِ التصدّي للحاكمِ الظالم، فعن الإمامِ الحُسينِ عليهِ السلام قالَ: (أيُّها الناسُ، إنَّ رسولَ اللهِ قال: مَن رأى سُلطاناً جائِراً، مُستحلّاً لحرمِ الله، ناكِثاً لعهدِ الله، مُخالِفاً لسُنّةِ رسولِ الله، يعملُ في عبادِ اللهِ بالإثمِ والعدوان، فلم يُغيّر عليهِ بفعلٍ ولا قول، كانَ حقّاً على اللهِ أنَّ يُدخلَه مدخلَه) وتتّفقُ هذه الروايةُ مع روحِ الشريعةِ الإسلاميّةِ التي تقومُ على الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكر، كما تتّفقُ معَ صريحِ القرآنِ الذي حرّمَ مُجرّدَ الركونِ للظّالم، قالَ تعالى: (وَلاَ تَركَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار)، فالاستسلامُ للظّالمِ ركونٌ إليه وهوَ حرامٌ بنصِّ الآيةِ الكريمة، وقالَ تعالى: (وَلَا تُطِيعُوا أَمرَ المُسرِفِينَ * الَّذِينَ يُفسِدُونَ فِي الأَرضِ وَلَا يُصلِحُونَ)، وقوله تعالى: (وَلَا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكان أَمرُهُ فُرُطًا( وقوله تعالى: (فَاصبِر لِحُكمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِع مِنهُم آثِمًا أَو كَفُورًا)، وجاءَ عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) قالَ: (مَن أطاعَ رجلاً في معصيةٍ فقد عبدَه)، وفي الخصالِ بسندِه، عن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) قالَ: (أربعةٌ مِن قواصمِ الظهرِ إمامٌ يعصي اللهَ ويُطاعُ أمرُه...). وعليهِ فإنَّ مُجابهةَ المُستبدّينَ ومُقارعةَ الطواغيتِ منَ الواجباتِ التي يجبُ أن يتصدّى لها رجلُ الدين، والمواجهةُ لا تعني التصدّي العسكريَّ والتغييرَ باليدِ فحسب، وإنّما يتمُّ تحديدُ الموقفِ بحسبِ الظروفِ وتقييمِ العُقلاء، فالخروجُ على الحاكمِ فرعٌ مِن فروعِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكر، فإذا تعذّرَ التغييرُ باليدِ يتعيّنُ التغييرُ باللسانِ وإن تعسّرَ باللسانِ فيكونُ بالقلب، فعن عبدِ الرّحمنِ ابنِ أبي ليلى الفقيهِ وكانَ ممَّن خرجَ لقتالِ الحجّاجِ معَ ابنِ الأشعثِ أنّه قالَ فيما كانَ يحضُّ بهِ الناسَ على الجهادِ أنّي سمعتُ عليّاً رفعَ اللهُ درجتَه في الصالحين وأثابَه ثوابَ الشهداءِ والصدّيقينَ يقولُ: يومَ لقينا أهلَ الشامِ أيُّها المؤمنونَ، إنّه مَن رأى عدواناً يُعمَلُ به ومُنكراً يُدعى إليه فأنكرَه بقلبِه فقد سلمَ وبرئَ ومَن أنكرَه بلسانِه ففد أجرَ وهوَ أفضلُ مِن صاحبِه ومَن أنكرَه بالسيفِ لتكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العُليا وكلمةُ الظالمينَ هيَ السُّفلى فذلكَ الذي أصابَ سبيلَ الهُدى) وعن النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) قالَ: مَن رأى منكُم مُنكراً فليغيّرهُ بيدِه فإن لم يستطِع فبلسانِه فإن لم يستطِع فبقلبِه ليسَ وراءَ ذلكَ شيءٌ منَ الإيمانِ وفي روايةٍ إنَّ ذلكَ أضعفُ الإيمان. (جماعُ أحاديثِ الشيعةِ البروجردي ج14، ص 398)
اترك تعليق