ما هيَ الأسسُ الفلسفيّةُ للإلحاد؟
السلام عليكم ورحمة الله وزبركاته : الأساسُ الفلسفيُّ الذي يقومُ عليهِ الإلحادُ هوَ عدمُ الاعترافِ بأيّ حقيقةٍ خارجةٍ عن إطارِ الحسِّ والمادّة، ومِن هُنا يمكنُنا القولُ أنَّ الفلسفةَ الماديّةَ هيَ فلسفةٌ إلحاديّةٌ بالضرورة، والبحثُ في هذا الأمرِ لا يرتبطُ بالبحثِ الفلسفيّ وإنّما يرتبطُ بنظريّةِ المعرفة؛ وذلكَ لأنَّ البحثَ الفلسفيَّ يأتي مُتأخّراً عن البحثِ حولَ إمكانيّةِ المعرفةِ وطبيعتِها ومصادرِها وطرقِ تحصيلِها، والإلحادُ في العادةِ يُمارَسُ خِداعاً عندَما يوحي بأنَّ الأمرَ باتَ محسوماً لصالحِ المعرفةِ الحسيّةِ، معَ أنَّ الواقعَ غيرُ ذلكَ حيثُ باتَ منَ المُسلّماتِ إمكانيّةُ المعرفةِ خارجَ إطارِ الحسِّ والمادّة. والإشكاليّةُ المُهمّةُ التي يمكنُ أن تواجهَ الفلسفةَ الوضعيّة: هيَ كيفَ تُخضَعُ العلومُ الإنسانيّةُ لمعاييرِ العلومِ التجريبيّة؟ فالمعارفُ التي تعتمدُ على المفاهيمِ الكُليّة، والعناوينِ الانتزاعيّة، والتأمّلاتِ التحليليّة، هيَ منَ المعارفِ التي يكتسبُها العقلُ عندَما يحلّقُ في آفاقِ الحياةِ الواسعة، بما لها مِن تاريخٍ عريق، وحضاراتٍ متنوّعةٍ، واجتماعٍ إنسانيٍّ فاعلٍ ومُتفاعل، فحصرُ العقلِ وحبسُه بينَ جُدرانِ المُختبرِ جريمةٌ في حقِّ العقلِ والعلمِ معاً، ومنَ الواضحِ أنَّ التفكيرَ الطفوليَّ الذي كانَ يطمحُ لجعلِ العلومِ الإنسانيّةِ شبيهةً بالعلومِ التجريبيّةِ هوَ المسؤولُ عن هذا الخللِ، وقد بدأ هذا النمطُ منَ التفكيرِ الحالمِ معَ عصرِ النهضة، وبنضوجِ العلومِ وتقدّمِ المعرفةِ باتَ هذا التفكيرُ مرحلةً ساذجةً لا يعتدُّ بها أحدٌ، ولذلكَ انتهى عصرُ الفلسفةِ الوضعيّةِ عندَما أعلنَ مُنظّرُها الأكبرُ (سير الفريد آير) "في خمسيناتِ القرنِ العشرين أنَّ هذهِ الفلسفةَ ملأى بالتناقضِ، بالرّغمِ مِن أنّه قضى السنواتِ الطوالَ في مُعالجةِ أخطائِها. لقد تنبّهَ آير إلى أنّه لا يمكنُنا تطبيقُ قواعدِ البحثِ في العلومِ التجريبيّةِ التي تعتمدُ على الحواسِّ كالكيمياءِ والفيزياءِ على العلومِ الإنسانيّةِ كالفلسفةِ والمنطقِ والأخلاق. كذلكَ لا يمكنُ دراسةُ المفاهيمِ الدينيّةِ بمقاييسِ المفاهيمِ العلميّة؛ فلا ينبغي - مثلاً - محاولةُ فهمِ مقولةِ: إنَّ اللهَ موجودٌ في كلِّ مكان – كلّيّ الوجود- بمفاهيمِ المكانِ في فيزياءِ نيوتن أو فيزياءِ أينشتاين. بذلكَ قامَ آير بإعلانِ موتِ الفلسفةِ الوضعيّةِ المنطقيّةِ ودفنِها" (خرافةُ الإلحادِ ص 30) وإذا جازَ لنا تفهّمُ الإلحادِ في عصرِ النهضةِ بوصفِه ردّةَ فعلٍ على ما فعلَته الكنيسةُ، لا يمكنُ تفهّمُ ذلكَ بشكلٍ دائمٍ ومُطلقٍ، فكونُ الكنيسةِ بمفاهيمِها المُتخلّفةِ شكّلَت عقبةً أمامَ التقدّمِ العلميّ فلا يعني أنَّ مُطلقَ الدينِ يتعارضُ معَ العلم، ففسادُ دينٍ منَ الأديانِ لا يعني فسادَ الدينِ والتديّن. فالمُقاربةُ المُتفهِمةُ للعلاقةِ بينَ الرّوحِ والبدنِ في الإنسان، هيَ ذاتُها المُقاربةُ التي تتفهّمُ العلاقةَ بينَ الدينِ والعلم، فما يُحقّقُه العلمُ للإنسانِ لا يمكنُ أن تُحقّقَه الأديانُ، والعكسُ صحيحٌ، وكلاهما في خاتمةِ المَطافِ يخدمانِ شيئاً واحداً وهوَ الإنسانُ المُركّبُ مِن روحٍ ومادّة، فمُحاكمةُ الأديانِ بآليّاتِ العلمِ، أو مُحاكمة العلمِ بأدواتِ الأديان، هوَ الذي يتسبّبُ في علاقةٍ مشوّهةٍ بينَ الدينِ والعِلم، فالشهودُ وعالمُ الطبيعةِ هوَ الذي يقودُ الإنسانَ للإيمانِ بالغيب، والإيمانُ بالغيبِ هوَ الذي يربطُ الإنسانَ بالشهودِ عندَما يأمرُنا بالعلمِ والتعقّلِ، يقولُ عبدُ الجليلِ الكور: "فما أشدَّ وَهمَ الذينَ ظنّوا أنّ تجاوُزَ "المِتافيزيقا" قد أُنجزَ في ٱتّجاهِ التّخلُّصِ فلسفيّاً وعلميّاً مِن فكرةِ الله. إذ أنّ العلومَ المُعاصرةَ لم تَعُد قادرةً على تفادِي فرضيّةِ اللهِ التي يَزدادُ إلحاحُها على كلِّ المستوياتِ إلى الحدِّ الذي لم يعُد غريباً الجمعُ بينَ مفهومي "العلمِ" و"الله" ليسَ فقَط في عناوينِ المكتوباتِ (مثلَ الكتابِ الذّائعِ الصِّيتِ: «اللهُ والعلم» لـ"جون غيتون" والأخوين "غريتشكا")، بل أيضاً في أثناءِ أعمالٍ تتناوَلُ فلسفةَ العُلومِ المُعاصرةِ كما نجدُه، مثلاً، في الفصلِ الثامنِ (اللهُ يَرجعُ بقُوّةٍ) مِن كتابِ «هل لوُجودِنا معنىً؟» لصاحبِه "جُون ستون".وفي كتابِه نصيحةٌ لعالمٍ مُبتدئٍ يُحدّدُ السير بيتر مداور - الحائزُ على جائزةِ نوبل - قاعدةً ذهبيّةً لهذا العالم، فيقولُ: "لا شيءَ يُفقِدُ الثقةَ في العالمِ قدرَ تصريحِه بأنَّ العلمَ يعلمُ أو سيعلمُ قريباً الإجابةَ عن كلِّ الأسئلةِ التي تستحقُّ أن تُسأل، وإنَّ الأسئلةَ التي لا توجدُ لها إجابةٌ علميّةٌ لا تستحقُّ أن تُسألَ وتعتبرُ العلمَ كذباً، ولا يسألُها إلّا الحمقى، ولا يحاولُ الإجابةَ عنها إلّا السذّجُ، ويضيفُ: لا شكَّ أنَّ للعلمِ حدوداً لا يستطيعُ تجاوزَها، فالعلمُ لا يستطيعُ الإجابةَ عن الأسئلةِ البديهيّةِ التي يطرحُها علينا أطفالُنا: كيفَ بدأ هذا الوجودُ؟ كيفَ جِئنا هُنا؟ ما الغرضُ مِن حياتِنا؟ وغيرُها كثيرٌ، إنَّ هذهِ الأسئلةَ ليسَ لها إجابةٌ إلّا عندَ الفلاسفةِ ورجالِ الدين"وبالتالي الخطأُ المنهجيُّ الذي وقعَ فيهِ الإلحادُ هوَ محاولتُه إخضاعَ الحقيقةِ لمنهجٍ مادّيٍّ تجريبيّ، في حينِ أنَّ الحقيقةَ أعمُّ مِن كونِها ماديّةً، ولذا يُعدُّ التفريقُ بينَ منهجِ العلومِ الإنسانيّةِ والعلومِ الطبيعيّةِ خطوةً ضروريّةً لمعرفةِ المنهجِ الذي يناسبُ كلَّ حقيقةٍ، وقد باتَ منَ المُسلّمِ أنَّ الإنسانَ لا يمكنُ رصدُه وتقييمُه ضمنَ إطارٍ مادّي خارجيّ فحسب، لأنّه موجودٌ له قصدٌ وإرادة ٌولهُ تطلّعٌ روحيٌّ ومعنويّ، وبالتالي لا يمكنُ معرفتُه عن طريقِ الرصدِ المادّيّ وإدخالِه ضمنَ قانونِ السببيّةِ الماديّةِ وقوانينِ الطبيعةِ؛ لأنَّ معرفةَ الظاهرةِ الإنسانيّةِ لا تقومُ على الوصفِ والشرحِ كما هوَ الحالُ في الظاهرةِ الطبيعيّة، وإنّما تحتاجُ إلى تعقّلٍ وإدراكٍ وتفهّمٍ يستوعبُ ما يحملُه الإنسانُ مِن غاياتٍ وما يتطلّعُ له مِن كمالاتٍ. وعليهِ لا نتصوّرُ وجودَ أسسٍ خاصّةٍ بالفلسفةِ الإلحاديّةِ وإنّما هيَ نتاجٌ طبيعيٌّ للفلسفةِ الماديّةِ التي لا تؤمنُ بوجودِ شيءٍ خارجَ حدودِ الحسِّ.
اترك تعليق