رسائل الناحية المقدّسة (عجل الله فرجه الشريف) إلى الشيخ المفيد

ـ أرجو شرحَ كلامِ الإمامِ المهديّ (عجّلَ اللهُ فرجَه) للشيخِ المفيد، ومَن هيَ الواسطةُ التي نقلَت كلامَ الإمامِ للشيخِ المُفيد؟ أليسَ الإمامُ (عجّلَ اللهُ فرجَه) قال: « وسيأتي مِن شيعتي مَن يدّعي المُشاهدة، ألا فمَن ادّعى المُشاهدةَ قبلَ خروجِ السُّفيانيّ والصيحة فهوَ كذّابٌ مُفترٍ »، فكيفَ يبعثُ الإمامُ كتاباً للشيخِ المُفيد؟ وكيفَ لهذا العالمِ أن يُصدّقَ بمثلِ هذا الكتاب؟ وكيفَ لهذا العالمِ التأكّدُ بأنّ هذا الكتابَ مُرسلٌ منَ الإمامِ دونَ أن يراه؟ وما مضمونُ هذا الكتاب؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ينبغي الكلام في عدّة نقاط:

النقطة الأولى: مضمون مكاتبات الناحية للشيخ المفيد:

نقل الشيخ الطبرسيّ في كتاب الاحتجاج رسالتين من الناحية المقدّسة (عجّل الله فرجه) إلى الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) ـ وسيأتي نقل نصّهما ـ، إلّا أنّ بعضَ الأعلام حكى عن وجود رسالةٍ ثالثة أيضاً، قال الشيخ يوسف البحرانيّ في [لؤلؤة البحرين ص350]: « وذكر الشيخ يحيى بن بطريق الحليّ في رسالة (نهج العلوم إلى نفي المعدوم) طريقين في تزكية الشيخ المفيد: أحدهما: صحّة نقله عن الأئمّة الطاهرين بما هو مذكور في تصانيفه من المقنعة وغيرها، إلى أن قال: وأمّا الطريق الثاني في تزكيته: ما ترويه كافّة الشيعة وتتلقّاه بالقبول، من أنّ صاحب الأمر (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه) كتب إليه ثلاثة كتب، في كلّ سنة كتاباً.. ثمّ قال: وهذا أوفى مدح وتزكية، وأزكى ثناء وتطرية بقول إمام الأمّة وخلف الأئمّة، انتهى ».

أقول: الشيخ ابن بطريق هو يحيى بن الحسن بن الحسين الحليّ الربعيّ المعروف بابن بطريق، صاحب (العمدة) وغيرها، كان من الفقهاء، ولد سنة 533هـ وتوفي في شعبان سنة 600هـ، وكتابه نهج العلوم يعدّ من الكتب المفقودة في هذا الزمان.

وكلامه « كتب إليه ثلاثة كتب » واضح  في أنّ الإمام (عجل الله فرجه) أرسل إليه ثلاث رسائل، بينما أورد الشيخ الطبرسيّ في كتاب الاحتجاج كتابين منها فقط، وهذا يدلّ على وجود رسالة ثالثة لم يوردها. وقوله: « في كلّ سنة كتاباً » يدلّ على أنّ هذه الرسائل وصلت في ثلاث سنين متوالية، وعند مراجعة الرسالتين في الاحتجاج، نجد أنّ الرسالة الأولى مؤرّخة بسنة 410هـ، والأخرى مؤرّخة بسنة 412هـ، ومقتضى ذلك أنّ الرسالة الثالثة كانت في سنة 411هـ.

وينبغي التنبّه إلى أمرٍ، وهو أنّ الشيخ الطبرسيّ [وهو من أعلام القرن السادس الهجريّ] لم ينفرد بهذه التوقيعات؛ إذ تقدّم أنّ ابن بطريق [المتوفى سنة 600هـ] أشار لها وذكر قطعاً منها في رسالة نهج العلوم، ونقل قطعة منها أيضاً قطب الدين الراونديّ [المتوفى 573هـ] في كتاب الخرائج والجرائح، ويحتمل ـ كما سيأتي ـ أنّ ابن شهر آشوب [المتوفى 588هـ] نقلها أيضاً. وبهذا يظهر وجه النظر فيما يقوله البعض ـ من أنّ هذه التوقيعات مصدرها الوحيد الذي نقل عنه الجميع بحسب الظاهر هو كتاب الاحتجاج ـ؛ إذ تبيّن أنّ الطبرسيّ لم ينفرد بها، بل نقلها غيره أيضاً.

 

نصّ الرسالة الأولى:

قال الشيخ الطبرسيّ في [الاحتجاج ج2 ص318ـ324]:

« ذكر كتاب ورد من الناحية المقدسة ـ حرسها الله ورعاها ـ في أيام بقيت من صفر، سنة عشر وأربعمائة على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان ـ قدّس الله روحه ونوّر ضريحه ـ، ذكر موصلُه أنّه يحمله من ناحية متّصلة بالحجاز، نسخته:

للأخ السديد، والوليّ الرشيد، الشيخ المفيد، أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان ـ أدام الله إعزازه، من مستودع العهد المأخوذ على العباد.

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد، سلام عليك أيّها الوليّ المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيّدنا ومولانا ونبينا محمّد وآله الطاهرين، ونعلمك - أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق - أنّه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤدّيه عنّا إلى موالينا قبلك، أعزهم الله بطاعته، وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته، فقف ـ أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه ـ على ما أذكره، واعمل في تأديته إلى مَن تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله.

نحن وإن كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذلّ الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون.

أنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتّقوا الله جلّ جلاله، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله، ويحمى عنها مَن أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا، ومباثّتكم بأمرنا ونهينا، والله متمّ نوره ولو كره المشركون.

اعتصموا بالتقية من شبّ نار الجاهلية، يحششها عصب أمويّة، يهول بها فرقة مهديّة، أنا زعيم بنجاة مَن لم يرم فيها المواطن، وسلك في الطعن منها السبل المرضيّة، إذا حلّ جمادى الأولى من سنتكم هذه، فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه.

ستظهر لكم من السماء آية جليّة، ومن الأرض مثلها بالسويّة، ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق، ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مراق، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق، ثمّ تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار، ثمّ يستر بهلاكه المتقون الأخيار، ويتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يؤملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق، ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتساق.

فليعمل كلّ امرئ منكم بما يقرب به من محبّتنا، ويتجنّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنّ أمرنا بغتة فجأة، حين لا تنفعه توبة، ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة، والله يلهمكم الرشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته.

نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام:

هذا كتابنا إليك أيّها الأخ الوليّ، والمخلص في ودّنا الصفيّ، والناصر لنا الوفيّ، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به، ولا تظهر على خطّنا الذي سطرناه بما له ضمّناه أحداً، وأدِّ ما فيه إلى مَن تسكن إليه، وأوصِ جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ».

ونقل قطب الدين الروانديّ في [الخرائج والجرائح ج2 ص902ـ903] قطعة من هذه الرسالة، بقوله: « وقد كتب إلى الشيخ المفيد: نحن وإنْ كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين... إلى قوله: واصطلمكم الأعداء ».

وقد شرحنا بعض مقاطع هذه الرسالة الشريفة في بعض الأجوبة السابقة.

 

نصّ الرسالة الثانية:

قال الشيخ الطبرسيّ في [الاحتجاج ج2 ص324ـ325] بعد الرسالة السابقة:

« ورد عليه كتابٌ آخر من قبله ـ صلوات الله عليه ـ، يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة، سنة اثني عشر وأربعمائة؛ نسخته:

من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحقّ ودليله

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام الله عليك أيها الناصر للحقّ، الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنّا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، إلهنا وإله آبائنا الأوّلين، ونسأله الصلاة على سيّدنا ومولانا محمّد خاتم النبيّين، وعلى أهل بيته الطاهرين.

وبعد، فقد كنّا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه، وحرسك به من كيد أعدائه، وشفّعنا ذلك الآن من مستقرّ لنا ينصب في شمراخ، من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان، ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر، ولا تطاول من الزمان، ويأتيك نبأ منّا بما يتجدّد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال، والله موفقك لذلك برحمته.

فلتكن ـ حرسك الله بعينه التي لا تنام ـ أن تقابل لذلك فتنة تسلّ نفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لذمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون، وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالجرم المعظم، من رجس منافق مذمّم، مستحلّ للدم المحرّم، يعمد بكيده أهل الإيمان، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لأنّنا من وراء حفظهم بالدعاء الذي الذي لا يُحجَب عن ملك الأرض والسماء، فليطمئن بذلك من أوليائنا القلوب، وليثقوا بالكفاية منه، وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهيّ عنه من الذنوب.

ونحن نعهد إليك أيّها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين ـ أيّدك الله بنصره الذي أيّد به السلف من أوليائنا الصالحين ـ أنّه مَن اتّقى ربّه من إخوانك في الدين، وأخرج ممّا عليه إلى مستحقّيه، كان آمنا من الفتنة المبطلة، ومحنها المظلمة المضلّة، ومَن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته، فإنّه يكون خاسرا بذلك لأولاه وآخرته، ولو أنّ أشياعنا ـ وفقهم الله لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتّصل بنا ممّا نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيّدنا البشير النذير محمّد وآله الطاهرين وسلم.

وكتب في غرّة شوّال من سنة اثني عشر وأربعمائة.

نسخة التوقيع باليد العليا ـ صلوات الله على صاحبها ـ:

هذا كتابنا إليك أيّها الولي الملهم للحقّ العليّ، بإملائنا وخطّ ثقتنا، فأخفِه عن كلّ أحد، واطوِه، واجعل له نسخةً تطلع عليها مَن تسكن إلى أمانته من أوليائنا، شملهم الله ببركتنا إن شاء الله، [و] الحمد لله والصلاة على سيّدنا محمّد النبيّ وآله الطاهرين ».

ونقل قطب الدين الروانديّ في [الخرائج والجرائح ج2 ص903] قطعة من هذه الرسالة أيضاً، لكنّها ـ في النسخة المطبوعة ـ ملحقة بالرسالة الأولى، ويبدو أنّ في نسخة الخرائج سقطاً أورث هذا الاندماج، ولهذا جعل المحقّقون ثلاث نقاط نهاية الكلمات من الرسالة السابقة، ثمّ وردت هذه الفقرة ـ وهي من هذه الرسالة الثانية ـ: بقوله: « ولو أنّ أشياعنا على اجتماع القلوب لنا لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا، فما يحبس عنهم مشاهدتنا إلّا لما يتّصل بنا بما نكرهه ».

 

النقطة الثانية: اعتبار هذه المكاتبات

قد يُقال: إنّ المكاتبتين أوردهما الشيخ الطبرسيّ والراونديّ مرسلتين، فلم يذكرا إسنادهما لنرى مدى وثاقة ناقليها وضعفهم، وحينئذٍ ينبغي الحكم بضعفها سنداً، ولا اعتبار بها.

نقول: إنّ وصول الحديث لمرتبة الحجّيّة شرط لإثبات الحكم الشرعيّ الإلزاميّ عند المشهور، وأمّا غيرها، كالأحكام غير الإلزاميّة والتاريخ والقصص والفضائل والأدعية والزيارات والملاحم واللغات وغيرها، فليس الملاك فيها حجيّة الحديث صدوراً، وإنّما الركن الأساس فيها سلامة المضمون.

ثمّ إنّ الحديث الضعيف ليس فاقداً للاعتبار بالمرّة، بل له درجة من الاعتبار يتناسب مع مرتبة ضعفه، فالضعف قد يكون شديداً، وقد يكون خفيفاً، فيمكن أن يتقوّى بالشواهد والمتابعات والقرائن حتّى يحصل الوثوق بصدوره فيصل لنصاب الحجّيّة، وحينئذٍ ينبغي البحث عن وجود المعاضدات والمؤيّدات في المقام، ولنذكر عدّة قرائن ومؤيّدات:

 

القرينة الأولى: تقدّم محكيّ كلام ابن بطريق الحليّ [ت600هـ] في رسالة نهج العلوم؛ إذ يقول فيها: « وأمّا الطريق الثاني في تزكيته: ما ترويه كافّة الشيعة وتتلقّاه بالقبول، من أنّ صاحب الأمر (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه) كتب إليه ثلاثة كتب، في كلّ سنة كتاباً »، وهذه العبارة واضحة بأنّ التوقيعات الثلاثة تتميّز بأمرين: الأوّل: (ترويه كافّة الشيعة)، فهي من التوقيعات المشهورة والمعروفة عند الشيعة، والثاني: (وتتلقّاه بالقبول)، فهي سليمة المضمون ومقبولة لدى كافّة الشيعة، وكلامه ظاهر في إجماع الشيعة على اعتبار هذه التوقيعات. وحينئذٍ، فهذه التوقيعات وإن وصلتنا مرسلة إلّا أنّها مجبورة بالإجماع المنقول على روايتها واعتبارها.

ولهذا نجد مثل الميرزا النوريّ في [خاتمة المستدرك ج3 ص221] يقول عند ذكر الشيخ المفيد: « شيخ المشايخ العظام، وحجّة الحجج الهداة الكرام، محيي الشريعة، وماحي البدعة والشنيعة، ملهم الحقّ ودليله، ومنار الدين وسبيله، صاحب التوقيعات المعروفة المهدويّة، المنقول عليها إجماع الإماميّة، والمخصوص بما فيها من المزايا والفضائل السنيّة ».

 

القرينة الثانية: قال الشيخ الطبرسيّ في تقدمة [الاحتجاج ج1 ص4]: « ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده؛ إما لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلّت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف، إلّا ما أوردته عن أبي محمّد الحسن العسكريّ (عليه السلام)، فإنّه ليس في الاشتهار على حدّ ما سواه.. إلى آخره »، فالأخبار المودعة في كتابه الاحتجاج ـ عدا ما نقله عن تفسير العسكريّ (عليه السلام) ـ لا تخرج عن هذه الثلاثة؛ إمّا مجمع عليها، أو موافقة لما دلّت العقول إليه، أو مشهورة في السير والكتب، ومن ضمنها هذه التوقيعات، فإنّها لا تخرج عن هذه، وقد تقدّم كلام ابن بطريق الصريح بإجماع الفرقة على روايتها وعلى قبولها.

وقال الميرزا النوريّ في [النجم الثاقب ج2 ص242] بعدما نقل كلامي الطبرسيّ وابن بطريق: « فظاهر نصّ هذين الشيخين المعظمين أنّ هذين الكتابين كانا مشهورين ومقبولين عند الأصحاب، ولم يتأمّلوا في روايتهما، ولم يكن هذا إلّا أنّهم وجدوا علامة الصدق وشاهد القطع في المبلغ والموصل لهما، كما أنّ نفس ذلك الشخص الموصل قد وقف أيضاً على آية وعلامة بأنّهما منه (عليه السلام)، فكيف يمكن للأصحاب أن يتلقوهما ويقبلوهما بدون شواهد وآيات، وينسبوهما جازمين إليه (عليه السلام)؟ ».

 

القرينة الثالثة: إنّ التوقيعين وإن وردا مرسلين في كتاب الاحتجاج، لكن قبل عدّة سنوات عثر أحد الإخوة (جزاه الله خيراً) على مخطوطة قديمة تعود لسبعمائة سنة تقريباً، وردت فيها الرسالة الأولى مع الإسناد المتّصل، وهي النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى الإسلاميّ بطهران، تحت الرقم: (10481)، ورد فيها:

« بسم الله الرحمن الرحيم، أخبرنا الشيخ ابو الغنائم عبد الله بن محمّد، قال: أخبرني والدي أبو يعلى محمّد بن الحسن الجعفريّ، قال: أخبرني الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان (رضي الله عنه)، قال: كنتُ جالساً على باب داري فأقبل عليّ رجلُ بعد العصر، وكان إلى جانب الكهوليّة، وعليه ثياب فاختية، فسلّم عليّ، وسلّمَ إليّ كتاباً، وذلك في أيّام بقين من صفر من سنة عشر وأربعمائة، ذكر موصله أنّه يحمله من ناحية متّصلة بالحجاز، عنوانه: الأخ السديد، والمولى الرشيد، الشيخ المفيد، أبو عبد الله، محمّد بن محمّد بن النعمان ـ أدام الله إعزازه ـ.. إلى آخر المكاتبة الأولى ».

أقول: الراوي عن الشيخ المفيد هو أبو يعلى الجعفريّ، من رؤساء الإماميّة، ومن خاصّة الشيخ المفيد وبطانته، قال الشيخ النجاشيّ في [الفهرست ص404]: « محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفريّ، أبو يعلى، خليفة الشيخ أبي عبد الله ابن النعمان، والجالس مجلسه، متكلّم، فقيه، قيّم بالأمرين جميعاً. له كتب، منها: جواب المسألة الواردة من صيدا، جواب مسألة أهل الموصل، المسألة في مولد صاحب الزمان (عليه السلام)... مات (رحمه الله) يوم السبت، سادس شهر رمضان، سنة ثلاث وستين وأربعمائة، ودُفن في داره »، وقال الحافظ الذهبيّ في [سير أعلام النبلاء ج18 ص141]: « عالم الإماميّة.. من دعاة الشيعة، لازم الشيخ المفيد، وبرع في فقههم، وأصولهم، وعلم الكلام، وزوّجه المفيد ببنته، وخصّه بكتبه، وأخذ أيضاً عن الشريف المرتضى، وصنّف التصانيف.. وكان بصيراً بالقراءات ».

 

وبهذا يظهر وجه النظر فيما يقوله البعض ـ من أنّه لماذا لم يذكرها الشيخ المفيد في كتبه التي وصلت إلينا؟ ولماذا لم يعرف بهذه التوقيعات خاصّة الشيخ المفيد والمقرّبون منه؟ ـ، فإنّه يقال: أوّلاً: كتب الشيخ المفيد كثيرة، ولم يصلنا جميعها، فربّما ذكرها في إحدى كتبه التي لم تصلنا، وثانياً: لا يلزم أن يذكرها الشيخ المفيد في كتبه، فربّما لم يرَ صلاحاً في نشرها بكتبه أصلاً، خصوصاً مع ما ورد في ذيل التوقيع الأوّل: « وأدِّ ما فيه إلى مَن تسكن إليه، وأوصِ جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله »، وفي ذيل التوقيع الثاني: « فأخفِه عن كلّ أحد، واطوِه، واجعل له نسخةً تطلع عليها مَن تسكن إلى أمانته من أوليائنا »، فقد يكون نشره في كتابه مخالفة للأمر الصادر؛ إذ كتب الشيخ المفيد ـ مع ما له من الزعامة العليا والرئاسة العامّة ـ لا تقتصر على أفراد معيّنين، وثالثاً: في الإسناد المتقدّم ينقل التوقيع أبو يعلى الجعفريّ، وهو من خاصّة الشيخ المفيد والمقرّبين منه جدّاً، ورابعاً: هب أنّه لم نطّلع على مثل تلك المخطوطة، فلا يصحّ أن يُقال (لماذا لم يعرف بهذه التوقيعات خاصّة الشيخ المفيد)؛ إذ مَن قال لم يعرفوا بها؟ غاية الأمر أنّنا لم نطّلع على أسماء الأشخاص الذين اطّلعوا على هذه التوقيعات، ومن الواضح أنّه لا ملازمة بين عدم اطّلاعنا وعدم اطّلاعهم، إذ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، فيمكن أن يكون اطّلع عليها جمع من خاصّة الشيخ المفيد وأخذ عليهم عدم نشرها وبثّها، ولهذا لم ينقلوها في كتبهم امتثالاً لأمره، فهل هذا يدلّ على عدم اطّلاعهم عليها أصلاً؟!

 

القرينة الرابعة: ذكرنا أنّ الشيخ الطبرسيّ [وهو من أعلام القرن السادس الهجريّ] لم ينفرد بهذه التوقيعات؛ إذ إنّ ابن بطريق [المتوفى سنة 600هـ] أشار لها وذكر قطعاً منها في رسالة نهج العلوم، ونقل قطعة منها أيضاً قطب الدين الراونديّ [المتوفى 573هـ] في كتاب الخرائج والجرائح، ويحتمل أنّ ابن شهر آشوب [المتوفى 588هـ] نقلها أيضاً، فإنّه قال في [معالم العلماء ص148] في ترجمة الشيخ المفيد: « ولقّبه بالشيخ المفيد صاحبُ الزمان (صلوات الله عليه)، وقد ذكرت سبب ذلك في مناقب آل أبي طالب »، ولم يُعثر على ذلك في المناقب المتداول؛ باعتبار أنّ النسخ الخطيّة التي وصلتنا منه ناقصة ولا يوجد فيه البحث حول صاحب العصر (عليه السلام)، فيمكن أن يريد بالسبب في ذلك: ما ورد في التوقيع الأوّل: « للأخ السديد، والوليّ الرشيد، الشيخ المفيد، أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان ـ أدام الله إعزازه ـ، من مستودع العهد المأخوذ على العباد »، حيث ورد تسميته بالشيخ المفيد.

ولا يقدح في ذلك أنّ كانت تسميته بالمفيد من قِبل علي بن عيسى الرمانيّ في عنفوان شبابه ـ؛ لأنّ كلام ابن شهر آشوب في أنّ الإمام لقّبه بهذا اللقب كما يحتمل أن يُراد به أنه (عليه السلام) أوّل مَن أطلقه عليه، يحتمل أيضاً أن يُراد به قبول الإمام وتقريره لهذا اللقب وإطلاقه على الشيخ المفيد، فيحتمل أن يكون نظر ابن شهر آشوب لهذا الاحتمال الثاني لا الأوّل.

 

القرينة الخامسة: نقل الكثير من العلماء والرجاليّون وأهل التراجم هذه التوقيعات أو أشار لها لبيان عظمة الشيخ المفيد وجلالة قدره وكبر شأنه، وبينهم فحول العلماء وأعمدة المذهب وكبراء الطائفة. ومثل هذا الاستشهاد يضفي مسحة من الاعتبار عليها كما هو واضح.

إلى غير ذلك من القرائن والمؤيّدات التي طوينا عنها لئلّا يطول بنا الكلام، وهذه القرائن تتعاضد فيما بينها وتتكاتف وترفع نسبة احتمال صدورها، وقد تورث الوثوق بصدورها.

 

وأمّا جهالة حال المبلّغ للرسالة إلى الشيخ المفيد، فنقول: ورد الاحتجاج عند ذكر التوقيع: « ذكر موصلُه أنّه يحمله من ناحية متّصلة بالحجاز »، والشيخ المفيد كان من النقّاد الماهرين، ومن أهل النظر والتحقيق، وقد انتهت إليه الزعامة الدينية والرئاسة العامّة، ومثله ليس متساهلاً في النقل، ولا يطمئنّ لأيّ أحد، فيمكن أنّه حصل له العلم بمقتضى القرائن، واشتمال التوقيع على الملاحم والإخبار عن الغيب الذي لا يطّلع عليه إلّا الله وأولياؤه بإظهاره لهم، كما أفاد الآية السيّد محمّد مهدي بحر العلوم في [الفوائد الرجاليّة ج3 ص321]، واعتماد مثل الشيخ المفيد عليها، بل قاطبة العلماء على ما حكاه ابن بطريق، كافٍ في مثل المقام، وقد تقدّم كلام المحدّث النوريّ إذ يقول: بعدما نقل كلامي الطبرسيّ وابن بطريق: « فظاهر نصّ هذين الشيخين المعظمين أنّ هذين الكتابين كانا مشهورين ومقبولين عند الأصحاب، ولم يتأمّلوا في روايتهما، ولم يكن هذا إلّا أنّهم وجدوا علامة الصدق وشاهد القطع في المبلغ والموصل لهما، كما أنّ نفس ذلك الشخص الموصل قد وقف أيضاً على آية وعلامة بأنّهما منه (عليه السلام)، فكيف يمكن للأصحاب أن يتلقوهما ويقبلوهما بدون شواهد وآيات، وينسبوهما جازمين إليه (عليه السلام)؟ ».

 

النقطة الثالثة: لا تلازم بين السفارة والمكاتبة:

إنّ التوقيع الشريف: « وسيأتي من شيعتي مَن يدّعي المشاهدة، ألا فمَن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفيانيّ والصيحة فهو كذّاب مفترٍ » يدلّ على انتهاء أمد السفارة والنيابة الخاصّة بموت السفير الرابع علي بن محمّد السمريّ، فالسفارة والنيابة الخاصّة هي مقام التمثيل الرسميّ للإمام المهديّ (عجل الله فرجه)، فبوفاة السفير الرابع أُغلق هذا الباب وأُرجع الشيعة إلى الفقهاء العدول.

ومن الواضح أنّ ورود المكاتبة من الناحية المقدّسة للشيخ المفيد (رضوان الله عليه) لا يتنافى مع التوقيع الشريف المتقدّم ـ أعني: « ألا فمَن ادّعى المشاهدة قبل.. فهو كذّاب مفترٍ »؛ إذ لا تلازم بين المكاتبة والسفارة؛ فإنّ السفارة ـ كما تقدّم ـ هي مقام التمثيل الرسميّ عن الإمام (عجل الله فرجه)، ومكاتبة الإمام مع شخصٍ لا يعني أنّ ذاك الشخص سفيره ونائبه الخاص، وقد وردت مكاتبات عديدة لبعض الفقهاء والعلماء في زمان الغيبة بواسطة السفراء الأربعة، مع أنّهم لم يكونوا سفراء ولا نواباً خاصّين.

وقال المرجع السيّد محمّد صادق الروحانيّ ـ في جواب استفتاءٍ بهذا الخصوص ـ: « ما ورد من مكاتبات تدلّ على مكانة الشيخ المفيد (قدّس سرّه) الخاصّة، وعلى شموله برعاية صاحب الأمر، وفيها إجابات على عدد من الاسئلة، وليس فيها تكليف عامّ، فلا ربط لها بعنوان السفارة الذي هو تكليف عامّ، وهو منحصر بالسفراء الأربعة فقط ».

وقد ذكر المحدّث الميرزا النوريّ في الباب الثامن من كتابه النفيس [النجم الثاقب ج2 ص401] عدّة وجوه للجمع بين الحكايات والتشرّفات وهذه التوقيعات وبين التوقيع الصادر على يد السفير الرابع في تكذيب مدّعي المشاهدة له (صلوات الله عليه)، فمن شاء التفصيل فليراجع.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين.