لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلّا جلدته حدّ المفتري
السؤال: هل يصح ما يقوله المخالفون: من أن كتب الشيعة تروي أنّ علياً كان يقول على منبر الكوفة: « لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري»؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم – أيّدك الله – أنّ المخالفين رووا أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول على منبر الكوفة: «لا أوتى برجلٍ يفضّلني على أبي بكر وعمر إلّا جلدتُه حدَّ المفتري»، واختصّوا بروايتها، ولَـم يروِها علماء الشيعة (أعلى الله برهانهم) من طرقهم، فضلاً عن أن تكون روايتهم لها على وجه الاعتماد.
فما ورد في بعض كتب الإماميّة من ذكر هذه الرواية فإنّما نقلوها على لسان المخالفين كشبهةٍ توطئةً للردّ عليها، فهذه الرواية ذكرها العلماء في سياق الردّ عليها، لا في سياق تبنّي صدورها واعتمادها، ويدرك ذلك كلُّ مَن لديه دراية بمناهج المصنّفين؛ إذ الكتب الكلاميّة معقودة لمناقشة حجج المخالفين وإشكالاتهم للردّ عليها، وهذه الرواية نقلها علماؤنا في الكتب الكلاميّة في سياق ما يحتجّ به المخالفون من روايات.
وعليه، فما يروّج له المخالفون - من رواية علماء الشيعة لهذه الرواية وإيرادهم لها في كتبهم بما يوهم روايتهم لها واعتمادهمم عليها - فهو كذب واضح وتدليس فاضح، كما سيتّضح.
ثـمّ إنّ علماءنا لـمّا ذكروا وجوهاً في الجواب عن هذه الرواية التي يحتجّ بها المخالفون، نذكر منها:
الوجه الأول: إسناد الحديث غير صحيح:
ذكر الشيخ المفيد: (سُئل الفضل بن شاذان عمّا روته الناصبة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: « لا أوتى برجلٍ يفضّلني على أبي بكر وعمر إلّا جلدتُه جلد المفتري »، فقال: إنّما روى هذا الحديث سويد بن غفلة، وقد أجمع أهل الآثار على أنّه كان كثير الغلط) [الفصول المختارة ص١٦٧].
ويستفاد مـمّا رواه الشيخ الكشيّ – من مجيء جماعة من الرواة إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، وعرضهم عليه ما سمعوه وتحمّلوه من الحديث - وضوح كذبها على أمير المؤمنين (عليه السلام) [اختيار معرفة الرجال ج2 ص695].
الوجه الثاني: متن الحديث غير صحيح:
وذلك لأنّ ظاهر الحديث يدلّ على استحقاق مَن يفضّل أمير المؤمنين (عليه السلام) على الشيخين حدَّ المفتري، وهذا ينافي الأدلّة القطعيّة – من الآيات والروايات – الدالّة على أفضليّة أمير المؤمنين (عليه السلام) على سائر الأمّة؛ كآية المباهلة الدالّة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بمنزلة نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وآية التطهير الدالّة على العصمة، وحديث الثقلين الدالّ على كونه عدل القرآن الكريم، وحديث الطير الدالّ على أنّه أحبّ الخلق إلى الله تعالى، وحديث المنزلة الدالّ على أنّ منزلته من النبيّ بمنزلة هارون من موسى، ومَن أراد التفصيل فيمكنه الرجوع لأجوبة سابقة في موقع المركز.
إذن: أفضليّة أمير المؤمنين (عليه السلام) قضيّة ثابتة؛ لاستنادها إلى القرآن والسنّة، وليست افتراءً، فكيف يعقل أن يُنسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ القائل بقضيّة ثابتة بالقرآن والسنّة مستحقّ للحدّ؟! ولا يعقل ذلك إلّا أن يكون جائراً في حكمه، والحال أنّ الأمّة أجمعت على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عدلاً في قضاياه.
ذكر الشيخ المفيد: (سُئل الفضل بن شاذان عمّا روته الناصبة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: « لا أوتى برجلٍ يفضّلني على أبي بكر وعمر إلّا جلدتُه جلد المفتري »، فقال: إنّما روى هذا الحديث سويد بن غفلة، وقد أجمع أهل الآثار على أنّه كان كثير الغلط. وبعدُ، فإن نفس الحديث متناقضٌ؛ لأنّ الأمّة مجمعة على أنّ عليًاً (عليه السلام) كان عدلاً في قضيّته، وليس من العدل أن يجلِدَ حدَّ المفتري مَن لم يفترِ، هذا جورٌ على لسان الأمّة كلّها، وعليٌّ بن أبي طالب (عليه السلام) عندنا بريء من ذلك) [الفصول المختارة ص١٦٧].
وقال العلّامة البياضيّ: (كيف يُحدُّ مَن ليس بمفترٍ حدَّ المفتري) [الصراط المستقيم ج3 ص52].
ثـمّ يلزم بناءً على ما تقدّم: استحقاق النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) حدّ المفتري والعياذ بالله؛ وذلك لأنّه هو الذي فضّله على سائر الخلق، قال الشيخ المفيد: (مع أنّه لو كان هذا الحديث صحيحاً وتأويلُه على ما ظنّه القوم؛ لوجب أن يكون حدُّ المفتري واجباً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحاشا له من ذلك؛ لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد فضّل أمير المؤمنين (عليه السلام) على سائر الخلق، فآخى بينه وبين نفسه، وجعله بحكم الله في المباهلة نفسه، وسدّ أبواب القوم إلّا بابه، وردّ كبراء أصحابه عن إنكاحهم ابنته سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) وأنكحه، وقدّمه في الولايات كلّها ولم يؤخّره، وأخبر أنّه يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، وأنّه أحبّ الخلق إلى الله، وأنّه مولى مَن كان مولاه من الأنام، وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى بن عمران، وأنّه (عليه السلام) أفضل من سيّدي شباب أهل الجنّة، وأنّ حربه حربه وسلمه سلمه، وغير ذلك ممّا يطول شرحه إنْ ذكرناه) [الفصول المختارة ص168].
الوجه الثالث: متن الحديث له معنى صحيح:
إذا افترضنا جدلاً صحّة الحديث، فيمكن القول: إنّ الحديث يحمل معنىً صحيحاً، وذلك أنّ المفاضلة تتطلّب وجود أصل الفضل في الطرف المفضول غير أنّ الفاضل أفضل منه، وهذا باطل وافتراء؛ لأنّ الرجلين خرجا من الإيمان بغصب الخلافة، فالمفاضلة بينهما وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) يثبت لهما فضلاً في رتبة سابقة، وإثباتُ الفضل لهما افتراءٌ، فيكون المفتري مستحقّاً لحدّ الافتراء – أي التعزير -.
قال الشيخ المفيد (قدس سره): (إنّ هذا الحديث - إنْ صحّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولن يصحّ بأدلّةٍ أذكرها بعدُ - فإنّ الوجه فيه: أنّ المفاضِل بينه و بين الرجلين إنّما وجب عليه حدّ المفتري من حيث أوجب لهما بالمفاضلة ما لا يستحقّانه من الفضل؛ لأنّ المفاضلة لا تكون إلّا بين متقاربين في الفضل، وبعد أن يكون في المفضول فضلٌ، وإنْ كانت الدلائل على أنّ مَن لا طاعة معه لا فضل له في الدين، وأنّ المرتدّ عن الإسلام ليس فيه شيء من الفضل الدينيّ، وكان الرجلان بجحدهما النصّ قد خرجا عن الإيمان، بطل أن يكون لهما فضل في الإسلام، فكيف يحصل لهما من الفضل ما يقارب فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
ومتى فضّل إنسانٌ أمير المؤمنين (عليه السلام) عليهما فقد أوجب لهما فضلاً عظيماً في الدين، فإنّما استحقّ حدّ المفتري الذي هو كاذب دون المفتري الذي هو راجم بالقبيح؛ لأنّه افترى بالتفضيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) عليهما من حيث كذب في إثبات فضل لهما في الدين، ويجري في هذا الباب مجرى مَن فضّل المسلم البرّ التقيّ على الكافر المرتدّ الخارج عن الدين، ومجرى من فضّل جبرئيل (عليه السلام) على إبليس، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) على أبي جهل ابن هشام في أنّ المفاضلة بين ما ذكرناه توجِب لمن لا فضل له على وجهٍ فضلاً مقارباً لفضل العظماء عند الله سبحانه، وهذا بيّنٌ لمن تأمله) [الفصول المختارة ص١٦٧ـ168].
وقال العلّامة البياضيّ: (كيف يحدّ مَن ليس بمفترٍ حدّ المفتري. أو نقول: تفضيلُه عليهما ولا فضلَ لهما من أعظم الافتراء، وهذا كمَن فضّل البرّ التقيّ على الكافر الشقي، أو فضّل النبيّ على إبليس الغويّ، مع أنّ الرسول قد فضّله في المباهلة والمؤاخاة والطائر والموالاة والمصاهرة والمظاهرة وغير ذلك) [الصراط المستقيم ج3 ص52].
وقال السيد نور الله التستريّ: (وقد أشرنا سابقاً الى الجواب عنها، والحاصل: إنّا نقول بمضمونها، وإنّها لنا لا علينا؛ لأنّ تفضيل عليّ (عليه السلام) على أبي بكر وعمر متضمّنٌ لثبوت أصل الفضل لهما، وهو افتراء بلا امتراء، بل القول بأنّ عليّاً (عليه السلام) أفضل من أبي بكر وعمر يجرى مجرى أن يقال: إنّ فلاناً أفقه من الحمار، وأعلم من الجدار) [الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة ص277].
ويتحصّل من ذلك كلّه أمران:
أحدهما: أنّ علماءنا قد ذكروا هذا الحديث في كتبهم لبيان بطلانه وعدم صحّته، لا أنّهم ذكروه اعتقاداً منهم بصحّته وصدوره عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا الأمر واضح لمن يتسم بالإنصاف ويطلع عليها.
والآخر: أنّ المخالفين لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ينسبون هذا الحديث لبعض مصادر الإماميّة، فإنْ كانوا على دراية بكيفيّة ذكر علمائنا لهذا الحديث فهو يكشف عن تدليسهم وتلاعبهم ونواياهم السيئة، وإنْ كانوا غير مدركين لذلك فهو جهلٌ منهم وترديدٌ لِـما يمليه عليهم المدلّسون.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً
اترك تعليق