من أين جاء الله ومتى كان موجود ومتى وكيف اكتسب قدرته ؟

كنت أريد أن اسأل سماحتكم هل هناك كتب تناقش مسألة هامه في التوحيد الخالص ومعرفة الله وهي كنه الذات الالهيه او الكنه الإلهية بمعنى آخر استحالة معرفة الذات الإلهية وخواطر من أين جاء الله ومتى كان موجود ومتى وكيف اكتسب قدرته وهكذا.. كذلك ارجوا من سماحتكم بعض النصائح حول التغلب على بعض هذه الأفكار حيث انها في بعض الأحيان تنقلب الي وساوس فظيعه... شكرا لسماحتكم واسف على الإطالة

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : ما يرد على الذهن من أسئلة حول الذات الإلهية هو وسوسة شيطانية كما عبر السائل، والشيطان يستقل ضعف الإنسان في أمور العقيدة ليطرح عليه مجموعة من الأسئلة التي تقوده للتشكيك في الله تعالى، فوظيفة الشيطان هي حرف مسار الإنسان وابعاده عن الله تعالى، ومن أجل الوصول لذلك يستهدف عوامل الضعف عند كل إنسان، ويبدو أن السائل يعاني من نقص وعدم وضوح رؤية فيما يتعلق بمعرفة الله تعالى، ولذا لا ننصحه بإهمال تلك الأسئلة وتجاهلها لأن التهرب منها يمنحها قيمة لا تستحقها، بل ننصحه بمواجهتها من خلال بناء معرفة حقيقية بالله تعالى، وحينها سوف يرى بنفسه مدى سخافة تلك الأسئلة التي كانت تسبب له قلق وحيرة.المسألة التي وجب التأكيد عليها هي أن معرفة الإنسان بالله تعالى تختلف عن معرفة الإنسان بما هو موجود في عالم الخلق والوجود، فالإنسان يتعرف على أشياء الوجود عبر توسط الحواس، أي أن العقل يطل على الواقع الخارجي عبر نوافذ الحواس، ومن دون هذه الحواس لا يمكن للعقل أن يدرك أي شيء، ولذا قيل إذا فقد الإنسان حاسة فقد معها باباً من أبواب المعرفة، ومن فقد جميع الحواس اصبح كالميت الذي لا يمكنه أن يدرك شيئاً، وبالتالي الحواس هي الوسيط بين الأشياء وبين عقل الإنسان، وعندما يمتلك العقل الصور الكافية التي تنقلها الحواس يمكنه أن يحقق تصوراً كاملاً عن الشيء، وعليه فإن معرفة كنه الأشياء وما هيتها من الحجم والابعاد والشكل وغير ذلك لا يتم إلا عبر توسط الحواس، ويستحيل على العقل بدون تلك الصور الحسية أن يكون مفاهيم ذهنية، وعندما يكون العقل خالي من تلك المفاهيم الذهنية يستحيل عليه أيضاً التفكير والاستنتاج، حيث تتعطل قدرته على ذلك رأساً، إذا كيف يفكر وهو خالي تماماً عن أي معطى يفكر فيه؟ وإذا ثبت كل ذلك وهو ثابت تأكد الإنسان بأن معرفته بالله يجب أن تكون من باب آخر غير باب المفاهيم والصور الحسية؛ والسبب في ذلك أن الله خارج عن حدود الحواس الإنسانية، ولا يمكن تصوره بأي شكل من أشكال التصور، وإذا حاول الإنسان تصوره فإنه في الواقع سيتصور غير الله تعالى، أو كما يقول الإمام الباقر (عليه السلام): (كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم)، ولذلك نهت النصوص الدينية عن التفكر في ذات الله واعتبرت ذلك نوعاً من الكفر والزندقة، والسبب في ذلك أن الإنسان عندما يتفكر في ذات الله هو في الواقع يتفكر في شيء آخر وهو يظن أنه الله، وبذلك يكون قد اعتقد بغير الله فيقع حتماً في الوثنية والزندقة، فكل ما لا يتصور هو الله وكل ما يتصور هو غيره تعالى، أي أن كل صورة ذهنية يعتقد صحابها أنها لله تعالى يكون قد اعتقد بوثن، ولذا صرحت النصوص بالقول (من تفكر في ذات الله فقد تزندق) أي وقع حتماً في الزندقة.وقد نقل العلامة المجلسي في بحاره عن الشيخ البهائي قوله: (المراد بمعرفة الله تعالى الاطلاع على نعوته وصفاته الجلالية والجمالية، بقدر الطاقة البشرية، وأما الاطلاع على حقيقة الذات المقدسة فمما لا مطمع فيه للملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين فضلا عن غيرهم، وكفى في ذلك قول سيد البشر "ما عرفناك حق معرفتك" وفي الحديث "إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الابصار، وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم "فلا تلتفت إلى من يزعم أنه قد وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة، بل أحث التراب في فيه، فقد ضل وغوى، وكذب وافترى فان الامر أرفع وأظهر من أن يتلوث بخواطر البشر) وعليه فإن كل تلك الأسئلة والوساوس هي من سنخ المعرفة التصورية، وإذا أمتنعت تلك المعرفة في حق الله تعالى تمتنع تبعاً لها تلك الأسئلة، فمن يغلق باب المعرفة التصورية يغلق معه باب الوساوس الشيطانية، وقد اشارت كثير من النصوص الشريفة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلى نفي المعرفة الحسية، فعن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: (وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار عن الإحاطة به؟ جل عما وصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون) وعن الإمام الحسين (عليه السلام) قال: (يا ابن الأزرق! أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس)، وعن أبي عبد الله (عليه ‌السلام) أنه كان يقول: (الحمد لله الذي لا يحس، ولا يجس، ولا يمس، ولا يدرك بالحواس الخمس، ولا يقع عليه الوهم، ولا تصفه الألسن).فمن قاس معرفته بالله بمعرفته ببقية الأشياء لا بد أن يصطدم بمثل تلك الأسئلة الشيطانية؛ فطبيعة معرفة الإنسان بالأشياء قائمة على طرح مجموعة من الأسئلة، مثل السؤال عن كنه الشيء وحقيقته وحجمه وابعاده وشكله وغير ذلك من الأمور التي تستوجب الإحاطة بالشيء، وحينها من الطبيعي يقع الإنسان في حيرة عندما ينقل تلك الأسئلة إلى باب معرفة الله تعالى، إذ كيف يحيط علماً بما هو خارج عن حدود الإحاطة والتصور؟ ومن هنا وجب على الإنسان أن يصحح اعتقاده بالله، وبدون ذلك لا يكون موحداً؛ لأن التوحيد ليس شيء أخر غير المعرفة التي تنزه الله تعالى عن مشابهة خلقه في أي صفة من صفاتهم، فكل ما يقع على المخلوق لا يقع على الله تعالى.فالله أقدس من أن تنالَه العقول أو تدركَه خطرات الظنون، ففي الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام): (هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: لا، قلت: فهل كُلِّفوا المعرفة؟ قال: لا، إن على الله البيان، لا يكلف الله العباد إلا وسعها، ولا يكلف نفساً إلا ما آتاها)، وقد أكد الإمام (عليه السلام) إلى أن تكليفهم بالمعرفة تكليف بالمحال، لقوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها﴾، و﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها﴾. وعن الصادق (عليه السلام) قال: (ليس لله على الخلق أن يعرفوا قبل أن يُعرِّفَهم، وللخلق على الله أن يُعرِّفَهم، ولله على الخلق إذا عرَّفهم أن يَقبَلوا)والمعرفة الفطرية هي معرفة بسيطة تثبت الله وتخرجه عن الحدين حد التعطيل وحد التشبيه، وهي معرفة تتقدس عن المفهومية والتصورية، فهناك حقائق يجدها الإنسان ويسلم بها، من غير أن تكون مُتصوَّرةً أو محاطةً بالعقول، فالعقل نفسه كيف يدركه الإنسان؟ فإذا كان العقل (وهو مخلوق نوراني) يتقدس من أن يكون معلوماً أو مُتصوَّراً؛ لأنه دالٌّ على ذاته بذاته، فكيف يجوز للمخلوق أن يتصور خالقه بالعقول، فكما أن الإنسان يكون واجداً للعقل من غير تصور أو توهم، كذلك أيضاً يمكن وجدان معرفة بالله تخرجه من حد التصور والتوهم.قال سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) في دعاء عرفة: كيف يُستدَلُّ عليك بما هو في وجوده مُفتقرٌ إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهرُ لك، متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عينٌ لا تراك و لا تزال عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً). وقال أيضا: تعرفتَ لكل شيءٍ، فما جهلك شيءٌ).فتعريفُ شيءٍ بشيءٍ يقتضي أن يكون المعرِّفُ أكثرَ ظهوراً ووضوحاً من المعرَّف، وفي مقام معرفة الله تعالى لا نجد ما يمكن أن يكون معرِّفاً له؛ لأن كل شيء مفتقرٌ في وجوده إلى الله، فمعرفة الله متقدمةٌ على معرفته، وهي أكثرُ ظهوراً من ذلك الشيء، وهو قول الإمام (عليه السلام): (أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المُظهر لك؟).  بل معرفة الله هي الطريق إلى معرفة كل شيء، وليس العكس، لأنها البصيرة التي تكشف حقائق الأشياء، وضمن هذا الفهم، لا يكون الأمر بالتدبر في آيات الكون، أمراً راجعاً إلى أن آياتِ الكون مُعرِّفاتٌ عن الله، وإنما منبِّهةٌ ومُذكِّرةٌ بتلك المعرفة التي فطر الله العباد عليها، وهي مقام تعريف الله تعالى نفسه للعباد، فعندما يتأمل الإنسان في مظاهر الخلق، يستنطق فطرته التي حجبتها الغفلة، فيرى اللهَ ظاهراً بذاته ومُعرِّفاً عن نفسه، كما يجد الإنسانُ تلك المعرفة واضحةً عند الشدائد والمحن، فحينئذ تنقشع كل تلك الحجب ليرى الإنسان ربه، قال رجل للصادق (عليه السلام): يا بن رسول الله، دُلَّني على الله ما هو؟ فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيَّروني، فقال له: يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال: فهل كُسِرَ بك حيث لا سفينةُ تنجيك، ولا سباحةُ تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلَّقَ قلبُك- هنالك- أن شيئاً من الأشياء، قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ فقال: نعم، قال الصادق عليه السلام: فذلك الشيءُ هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث).كذلك الأسماء الحسنى، لا تكون مُعِّرفاتٍ وحاكياتٍ عنه تعالى؛ لأن معرفة هذه الأسماء، في مرتبة متأخرة عن مرتبة تعريف الله تعالى نفسه للعباد، فلا يكون مَحكِيّاً ومُتصوَّراً بهذه الأسماء، وإنما تكون الأسماء معروفة بالله وليس العكس؛ فالله أعز من أن يكون هناك من هو دونه ويكون أكثر ظهوراً ومعرفةً منه، وبالتالي لا يجوز التوجه بالعبادة لهذه الأسماء كما لا يجوز جعلها مُعرِّفاتٍ وحاكياتٍ عن الله، لأن حينها يكون الله غائب مجهول لا يعرف إلا بالإحالة إليه عبر هذه الأسماء.وعليه فإن أساس التوحيد هو تمييزه عن خلقه، بحيث يكون بايناً عنهم بينونة في الصفة لا في العزلة، فلا شيء يجمع بين الله وبين خلقه، فهو المتفرد في وحدانيته، لا يشبهه شيء من خلقه بأي وجه من الوجوه، فهو ممتاز عن خلقه وباين عنهم بينونة حقيقية في جميع شؤونه، يقول الإمام على (عليه السلام): (دليله آياته.. ووجوده إثباته.. ومعرفته توحيده.. وتوحيده تميزه من خلقه.. وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة.. إنه رب خالق غير مربوب مخلوق، كلُّ ما تُصُوِّرَ فهو بخلافه). ويقول الإمام الرضا (عليه السلام): (مباينتُه إيّاهم مفارقتُه إنيّتَهم.. كنهه تفريق بينه وبين خلقه.. مباين لا بمسافة، فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكل ما يمكن فيه يمتنع عن صانعه). وعن الإمام الصادق عليه السلام: (إن الله تبارك وتعالى خلوٌ من خَلقِه، وخَلقُه خلوٌ منه).وما يمكن أن ننصح به السائل في هذا الأمر هو الرجوع إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) فهم محال معرفة الله ومساكن ذكر الله بهم يعرف الله وبهم يوحد، وقد قدم علماء الطائفة الاجلاء شروحاً مفصلة لروايات العقائد والأصول.