هل لحالِ الإنسانِ في الدّنيا ارتباطٌ بما اختارَه في عالمِ الذرّ؟
يُولد الكثير من الناس في أحوال شقاء ظاهراً .. بحيث يبدو أنها تساعدهم على الكفر او الفساد. وعلى العكس لأُناسٍ آخرين يولدون في أجواء إيمانية تساعدهم على بلوغ درجات من الورع والايمان والعمل الصالح. هل كانت هذه القسمة مبنية على ما اختاروا في نشأتهم السابقة في عالم الذر فتفاوتوا بعدها هنا في الدنيا ؟ أم إن الله عز وجل اختار لهم ذلك من دون اختيارهم هم ويحاسبهم بعد هذا في القيامة على قدر ما آتاهم ؟ أم الاثنان معاً ؟ أم غير ذلك ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : ما يشيرُ إليهِ السائلُ حقيقةٌ لها واقعٌ منظورٌ في حياتِنا الاجتماعيّة، فالبعضُ قد تهيّئَت له الظروفُ التي تُمكّنُه مِن اختيارِ طريقِ الإيمانِ والاستقامةِ والبعضُ الآخرُ على خلافِه تماماً، وقد اهتمَّ علماءُ القانونِ والاجتماعِ والنفسِ بالظروفِ والبيئةِ المُحيطةِ بالإنسانِ بوصفِها مؤثّرةً في خياراتِه الحياتيّة، فمثلاً تفشّي الجريمةِ في مُجتمعٍ دونَ مُجتمعٍ آخر لها علاقةٌ مُباشرةٌ بالوضعِ السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ وغيرِ ذلك، وهناكَ بعضُ النظريّاتِ المُتطرّفةِ التي جعلَت تلكَ الظروفَ ذاتَ تأثيرٍ حتميٍّ على خياراتِ الإنسان، أي أنَّ الإنسانَ منزوعُ الإرادةِ بالمُطلقِ أو أنّهُ مُضطرٌّ لخياراتٍ يمليها عليهِ الواقعُ الحياتيُّ الذي يعيشُ فيه، ومثالُ ذلكَ الحتميّةُ الاجتماعيّةُ كما نظّرَ لها عالمُ الاجتماعِ دوركايم الذي يقول: (حينَما يتكلّمُ ضميرُنا فإنَّ المُجتمعَ هوَ الذي يتكلّمُ فينا) فالإنسانُ ضمنَ هذا التصوّرِ لا يمتلكُ خياراتِه الخاصّةَ وإنّما المجتمعُ هو الذي يُحدّدُ له خياراته، وكذلكَ الحالُ في الحتميّةِ النفسيّةِ التي نظّرَ لها فرويد، حيثُ يخضعُ الإنسانُ بحسبِ تلكَ النظريّةِ لعالمٍ نفسيٍّ لا شعوريّ مِن رغباتٍ وشهواتٍ ومكبوتات، فكلُّ تصرّفٍ يقومُ به الإنسانُ هوَ بسببِ اللاشعورِ الذي يتحكّمُ في الإنسان، وكذلكَ الحتميّاتُ الطبيعيّةُ مثل تأثيرِ الجيناتِ والأعصابِ على نوعِ الحياةِ التي يعيشُها الإنسانُ، وهذهِ النظريّاتُ معَ أنّها تمتلكُ الكثيرَ منَ الشواهدِ إلّا أنّه لا يمكنُ التسليمُ بتأثيرِها الحتميّ على قراراتِ الإنسان، فمثلاً ما يُوجدُه المُجتمعُ مِن ضغوطاتٍ على الأفرادِ وإن كانَ ظاهِراً ملموساً، إلّا أنّه لا يصلُ إلى مستوى ينعدمُ معَه شعورُ الإنسانِ بذاتِه، وإنّما يبقى الفردُ يشعرُ باستقلالِه في نفسِ الوقتِ الذي يشعرُ فيه بالانتماءِ لمُجتمعِه، والتفكيرُ المنطقيُّ هو الذي يقودُنا إلى ضرورةِ فهمِ الإنسانِ في ذاتِه، وفهمِ الإنسانِ كفردٍ اجتماعيّ، دونَ إهمالِ أيّ واحدٍ مِنهُما أو تضخيمِه على حسابِ الآخر، فعندَما نتعرّفُ على الإنسانِ بوصفِه كائناً عاقلاً ومُريداً، سوفَ نتساءلُ عن تأثيرِه على المُجتمعِ وتأثيرِ المُجتمعِ فيه، وبهذهِ الطريقةِ نحافظُ على شخصيّةِ الإنسانِ وفي نفسِ الوقتِ لا نُهملُ المؤثّراتِ الخارجيّة، فنحنُ نُسلّم بتأثيرِ كلِّ تلكَ العوامل، ولكِن لا نؤمنُ بالحتميّة، فبإمكانِ الإنسانِ أن يُساهمَ بمحضِ إرادتِه في بناءِ شخصيّتِه بالشكلِ الذي يراه، ولذلكَ لم نرَ مَن يُعفي المُجرمَ عن جريمتِه بسببِ التأثيرِ الاجتماعيّ أو النفسيّ أو الجيني، فالموقفُ الذي عليهِ جميعُ العُقلاء هوَ مسؤوليّةُ الإنسانِ عن خياراتِه، الأمرُ الذي يؤكّدُ على أنَّ الإنسانَ يظلُّ حُرّاً مهما كانَت الظروفُ المُحيطةُ به. وعليهِ فإنَّ المُسلّمةَ التي ننطلقُ منها هيَ كونُ الإنسانِ مسؤولاً عمّا يختارُه في الحياة، وهذا ما عليهِ جميعُ القوانينِ والأنظمةِ التي رافقَت الإنسانَ في طوالِ تاريخِه، ولا تتوقّفُ هذه المسؤوليّةُ عندَ حدودِ الحياةِ الدنيا، وإنّما يكونُ الإنسانُ مسؤولاً أيضاً عن أفعالِه يومَ القيامة، والفرقُ بينَ الدنيا والآخرة هوَ أنَّ أحكامَ الدّنيا قد لا تكونُ عادلةً، بينَما حكمُ الآخرةِ قائمٌ على العدالةِ المُطلقة، أي أنَّ الإنسانَ لا يُحكمُ عليهِ في الآخرةِ إلّا بما كانَ مُستحقّاً له، ممّا يعني بالضرورةِ مُراعاةَ الظروفِ التي كانَ عليها عندَ ارتكابِه للذنب، فاللهُ تعالى وحدَه هوَ العالمُ بالأحوال، ولذلكَ سيكونُ حُكمُه عادلاً لا يُظلمُ فيهِ أحدٌ، قالَ تعالى: (وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، فكلُّ ما يفعلُه الإنسانُ في الدّنيا يجدُه حاضِراً يومَ القيامة، وسوفَ تتمُّ مُحاسبةُ الإنسانِ من دونِ أن يلحقَ بهِ أيُّ ظُلمٍ، حيثُ ختمتَ الآيةُ بقولِه: (وَلَا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، وبما أنَّ الظروفَ متفاوتةٌ بينَ الناسِ فإنَّ عدمَ الظلمِ يعني مراعاةَ ذلك. وبعدَ هذهِ المُقدّمةِ إذا رجَعنا للسؤالِ، نجدُ أنَّ السائلَ يبحثُ عن سببِ التباينِ في الظروفِ الحياتيّةِ بينَ البشر، فالبعضُ ظروفُهم تساعدُ على الإيمانِ والبعضُ الآخرُ تساعدُ ظروفُهم على الانحرافِ والضّلال، ثمَّ وضعنا السائلُ بينَ خيارين، الأوّلُ: يعودُ ذلكَ لِما اختارَه الإنسانُ في عالمِ الذرِّ، والثاني: أنَّ اللهَ خلقَهم على هذا النحوِ منَ التباينِ ثمَّ يحاسبُ كلُّ إنسانٍ بحسبِ ما أعطاهُ مِن قُدرات.بالنسبةِ لعالمِ الذرِّ هناكَ الكثيرُ منَ الرواياتِ التي تحدّثَت عن نشأةِ الإنسانِ في عالمٍ قبلَ عالمِ الدنيا، وقد وردَت بعضُها في تفسيرِ قولِه تعالى: (وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آَدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ)، وقد أشَرنا في إجابةٍ سابقةٍ بأنَّ هناكَ اختلافاً بينَ العلماءِ حولَ قبولِ ورفضِ هذا العالم، وقد حكمَ الشريفُ المُرتضى بضعفِ أسانيدِ تلكَ الرواياتِ وحكمَ بكونِها غيرَ صالحةٍ لتفسيرِ الآية، ثمَّ أوردَ اعتراضاتٍ على معقوليّةِ هذا العالمِ المُسمّى بعالمِ الذرِّ، وهناكَ جدلٌ واسعٌ بينَ المؤيّدينَ والمُعارضين لهذا العالم، ويبدو أنَّ عدمَ القُدرةِ على تفهّمِ ما حدثَ في عالمِ الذرِّ وما يطرحُ حوله مِن إشكالاتٍ يعودُ إلى عدمِ قُدرةِ الإنسانِ على تذكّرِ ما جرى عليهِ في ذلكَ العالم، فلا يمكنُ حينَها مقاربةُ الأمرِ عقليّاً لافتقادِ العقلِ للمعلوماتِ الكافيةِ عن ذلكَ الحدث، فمَن اعتقدَ بهِ تسليماً لهذهِ الرواياتِ وأوكلَ علمَ ما فيها لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) أجزاهُ ذلك، ومَن شكّكَ في حدوثِه بسببِ تعذّرِ فهمِه أو بسببِ ورودِ بعضِ الإشكالاتِ كانَ معذوراً، فهوَ ليسَ مِن أصولِ الاعتقادِ التي يجبُ الإيمانُ بها، وعليهِ لا يمكنُ أن نبنيَ على عالمِ الذرِّ في فهمِ ما يقعُ على الإنسانِ في هذهِ الحياة؛ لأنَّ ذلكَ قد يقودُ بشكلٍ مُباشرٍ أو غيرِ مُباشر إلى القولِ بالجبر، وهذا مُخالفٌ لِما هوَ ثابتٌ منَ الدينِ بالضرورة. أمّا القولُ الثاني وهوَ أنَّ اللهَ اختارَ لهم هذا التباينَ والاختلافَ، فهوَ قولٌ مرفوضٌ إذا كانَ بمعنى الإجبارِ ومُصادرةِ حُرّيّةِ الإنسان، أمّا إذا كانَ بمعنى أنَّ اللهَ أجرى الأمورَ طِبقاً لقانونِ السّببِ والمُسبّب، وأنَّ الإنسانيّةَ في مُجملِها هيَ المسؤولةُ عن كلِّ التبايناتِ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ وغيرِ ذلكَ مِن ظروفِ الحياة، فهوَ معنىً صحيحٌ وتدلُّ عليهِ النصوصُ الدينيّةُ ويجمعُ على صحّتِه جميعُ العُقلاء. وعليهِ فإنَّ طبيعةَ الحياةِ الإنسانيّةِ قائمةٌ على حُرّيّةِ الاختيارِ والإرادة، وإنَّ الإنسانَ قادرٌ على اختيارِ ما هو صحيحٌ في أيّ ظرفٍ كانَ طالما لم يتسبَّب هذا الظرفُ في مُصادرةِ إرادةِ الإنسان، فكلُّ ما يصدرُ عن الإنسانِ بسببِ الجبرِ والإكراهِ غيرُ مُحاسبٍ عليه، وتأثيرُ الظروفِ الخارجيّةِ مهما كانَ قويّاً يظلُّ معَه الإنسانُ قادراً على التصرّفِ بمُطلقِ الحُرّيّةِ، وعليهِ فإنَّ المُسلّمةَ التي ننطلقُ مِنها هيَ مسؤوليّةُ الإنسانِ عمّا يفعل، أمّا جزاءُ الإنسانِ ومُحاسبتُه على فعلِه فقد تختلفُ مِن إنسانٍ إلى إنسانٍ آخر بحسبِ الظرفِ الذي هوَ عليه، فمثلاً قد يكونُ جزاءُ مَن يتصدّقُ بألفِ دينارٍ مساوياً لجزاءِ مَن يتصدّقُ بدينارٍ واحد، وكذلكَ الحالُ في المعاصي فمثلاً مَن يسرقُ وهوَ محتاجٌ لا يُحاسَبُ كمَن يسرقُ وهوَ غيرُ مُحتاج، فاللهُ قد يغفرُ لعبدٍ مِن عبادِه كلَّ ذنوبِه بينَما يحاسبُ الآخرَ حساباً عسيراً، فهناكَ مُسلّمةٌ أخرى يجبُ الارتكازُ عليها لفهمِ هذه القضيّةِ وهيَ أنَّ اللهَ عادلٌ لا يُظلَمُ عندَه أحد، بل إنَّ رحمتَه سابقةٌ لعدلِه، فاللهُ أكثرُ حِرصاً على الإنسانِ منَ الإنسانِ على نفسِه، وبما أنَّ حياةَ العبدِ في الدنيا قائمةٌ على توفيقِ اللهِ ورحمتِه كذلكَ حالُ العبدِ في الآخرةِ يقومُ على فضلِ اللهِ ورحمتِه، فحتّى لو سلّمنا بتأثيرِ الظروفِ على خياراتِ الإنسانِ فيجبُ أن نُسلّمَ أيضاً بأنَّ ذلكَ لن يقودَ أبداً إلى الظلمِ بينَ العبادِ يومَ القيامةِ، فقد تتساوى درجاتُهم في الدّنيا حتّى لو كانَ بعضُهم أكثرَ عملاً مِن عملِ البعضِ الآخر.
اترك تعليق