إشكالٌ على قضيّةِ وجوبِ حجابِ المرأة
ذكر البعض إشكالاً على قضية وجوب حجاب المرأة وهو: الكتب الفقهية تتناول حجاب الجارية فتقول ان الجارية التي تباع وتشترى ليس واجبها ان ترتدي حجابا يستر نفس ما يستر الحرة، بل يكفيها ستر العورة كما هو مفروض على الرجل، حتى في صلاتها.وكانت الجواري تعرض في سوق العبيد شبه عاريات، وما كان احد يجد في ذلك حرجا، وأئمة الشيعة أجازو في أحاديث كثيرة النظر وتفحص الجارية التي يراد شرائها. المسلمون اليوم تارة يقولون بان الحجاب أمن للمجتمع، وهو ما يخالف صريحا هذه الفتاوى التي تجيز للنساء الوجود بشكل غير متستر امام عامة الناس. وتارة اخرى يقولون بأن الحجاب "اعلاء من شأن المراة وكرامتها وحفظها"، وهو مظهر من مظاهر العنصرية في الدين حيث تم اسقاط مفهوم "الحفظ والكرامة" عن الجارية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : لم نقِف على كثيرٍ ممّا أشارَ إليهِ السّائل، فقد أرسلَ بعضَ الأمورِ إرسالَ المُسلّماتِ مِن غيرِ أن يُبيّنَ مصدرَها ومدى صحّتِها، وكلُّ ما هوَ موجودٌ أنَّ هناكَ بعضَ الأحاديثِ التي رخّصَت للجاريةِ كشفَ رأسِها أثناءَ الصّلاة، أمّا في غيرِ الصّلاةِ فلا يجوزُ لها ذلكَ أمامَ الناظرِ الأجنبي، بل الواجبُ هوَ سترُ جميعِ بدنِها ما عدا الوجهِ والكفّين حالُها في ذلكَ حالُ الحُرّة، والظاهرُ أنَّ حُكمَ عدمِ تغطيةِ الجاريةِ لرأسِها مُرتبِطٌ بصلاتِها في بيتِ سيّدِها وليسَ أمامَ عامّةِ الناس. وقد أوردَ الحرُّ العامليّ هذهِ الأحاديثَ في وسائلِه تحتَ بابِ (عدمِ وجوبِ تغطيةِ الأمةِ رأسها في الصّلاة)، ففي الحديثِ رقم 5554 عن أبي جعفرٍ (عليهِ السلام) قالَ: قلتُ: الأمةُ تُغطّي رأسَها إذا صلّت؟ فقالَ: ليسَ على الأمةِ قناعٌ). وفي الحديثِ 5555 عن أبي الحسنِ (عليهِ السلام) قالَ: ليسَ على الإماءِ أن يتقنّعنَ في الصلاة)، والذي يدلّلُ على أن ذلكَ كانَ على نحوِ الرُّخصةِ ما جاءَ عن أبي خالدٍ القمّاط قالَ: سألتُ أبا عبدِ الله (عليهِ السلام) عن الأمةِ أيقنّعُ رأسُها؟ قالَ: إن شاءَت فعلَت، وإن شاءَت لم تفعَل) وكذلكَ ما جاءَ عن أبي بصيرٍ، عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) أنّه قال: على الصّبيّ إذا احتلمَ الصيامُ، وعلى الجاريةِ إذا حاضَت الصّيامُ والخِمارُ إلّا أن تكونَ مملوكةً فإنّه ليسَ عليها خمارٌ إلّا أن تُحبَّ أن تختمرَ وعليها الصّيام)، وعليهِ فإنَّ جوازَ كشفِ الجاريةِ رأسَها حُكمٌ خاصٌّ بالصّلاةِ وليسَ مُطلقاً، وبالتالي لا يجوزُ لها كشفُه في غيرِ الصّلاة. وقد أشَرنا في إجابةٍ سابقةٍ بأنَّ الأحكامَ الخاصّةَ بالجواري لا علاقةَ لها بالواقعِ الذي يعيشُه المُسلِمُ المُعاصر، ومِن هُنا قد يكونُ منَ الصّعبِ على المُسلمِ المُعاصر تفهّمُ تلكَ الاستثناءات؛ وذلكَ لوجودِ تباينٍ ثقافيّ واجتماعيٍّ كبيرٍ بينَ المرحلتين، فقد تكونُ الحِكمةُ مِن ذلكَ التشريعِ واضحةً في تلكَ الفترةِ التاريخيّةِ إلّا أنّها غامضةٌ بالنسبةِ لهذا العصر، ولذلكَ لا يمكنُنا الجزمُ بحِكمةِ عدمِ وجوبِ تغطيةِ الجاريةِ لرأسِها في الصّلاةِ معَ تسليمِنا بحِكمةِ الشارعِ في جميعِ أحكامِه. وفي المُحصّلةِ فإنَّ الأَمَةَ كالحُرّةِ فيما يتعلّقُ بسترِ العورةِ ووجوبِ تغطيةِ جميعِ بدنِها إلّا الوجهَ والكفّين، وهذا ما أكّدَته الآياتُ القُرآنيّةُ مثلَ قولِه تعالى: (وَقُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنهَا ۖ وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ..) ووجوبُ الحجابِ في هذهِ الآيةِ مُطلقٌ لا يمكنُ تخصيصُه بالحُرّةِ دونَ الأمة. ومِن ذلكَ يتّضحُ أنَّ السّائلَ بنى إشكالاتِه على أمورٍ لا نُسلّمُ بصحّتِها، فلم نجِد في كتبِ الفقهِ قولَه: (إنَّ الجاريةَ التي تُباعُ وتُشترى ليسَ واجبُها أن ترتدي حِجاباً يسترُ نفسَ ما يسترُ الحُرّة، بل يكفيها سترُ العورةِ كما هوَ مفروضٌ على الرجلِ، حتّى في صلاتِها)، وإن كانَ ذلكَ قد حصلَ بالفعلِ في التاريخِ الإسلاميّ إلّا أنّه لا يُعدُّ تشريعاً إسلاميّاً، فهناكَ الكثيرُ منَ الانحرافاتِ التي حدثَت في التاريخِ الإسلاميّ وبخاصّةٍ فيما يتعلّقُ بموضوعِ الرقيقِ والجواري ولا يمكنُ نسبةُ تلكَ الانحرافاتِ للإسلام كدينٍ وكتشريع. أمّا قولهُ: (وأئمّةُ الشيعةِ أجازوا في أحاديثَ كثيرةٍ النظرَ وتفحّصَ الجاريةِ التي يُرادُ شراؤها)، وهوَ بذلكَ يشيرُ إلى البحثِ الفقهي الذي تطرّقَ فيهِ الفقهاءُ للنّظرِ للجاريةِ التي يرادُ شراؤها، وإن هُم أجازوا ذلكَ إنّما أجازوهُ لخصوصِ المُشتري ولم يجوّزوا ذلكَ لوكيلِ المُشتري ممّا يدلُّ على أنَّ الأصلَ هو عدمُ جوازِ النظرِ للأجنبيّةِ حتّى وإن كانَت منَ الجواري، ولكي يتّضحَ ذلكَ ننقلُ ما ذكرَه السيّدُ الخوئي في هذا المبحَث: (وكذا يجوزُ النظرُ إلى جاريةٍ يريدُ شراءَها وإن كانَ بغيرِ إذنِ سيِّدها. والظاهرُ اختصاصُ ذلكَ بالمُشتري لنفسِه، فلا يشملُ الوكيلَ والوليَّ . استُدلَّ عليه: أوّلاً: بالتعليلِ المذكورِ في الرواياتِ الدالّةِ على جوازِ النظرِ إلى المرأةِ التي يريدُ تزويجَها، لأنّه «يشتريها بأغلى الثمن» فيجوزُ له النظرُ إليها. وفيهِ: أنَّ التعليلَ إنّما يختصُّ ببابِ الزّواج، بل بالزوجِ خاصّةً على ما عرفتَ، إذ الغُبنُ الذي لا يمكنُ تداركُه والضّررُ الذي لا يمكنُ تلافيه لا يُتصوّرُ إلّا في جانبِ الزوج، وليسَ حالُ المُشتري كحالِه. وعليهِ فلا وجهَ للقولِ بشمولِ التعليلِ له أيضاً. ثانياً: الرواياتُ الخاصّة. فمِنها: روايةُ أبي بصير، قالَ: سألتُ أبا عبدِ الله (عليهِ السلام) عن الرجلِ يعترضُ الأَمَةَ ليشتريها، قالَ: «لا بأس بأن ينظُرَ إلى محاسنِها ويمسّها ما لم ينظُر إلى ما لا ينبغي النظرُ إليه»إلّا أنّها ضعيفةٌ لوجودِ عليٍّ بنِ أبي حمزة البطائني الكذّاب المعروفِ في سندِها. ومِنها: روايةُ عمرانَ الجعفري عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام)، قالَ: «لا أحبُّ للرّجلِ أن يُقلّبَ إلّا جاريةً يريدُ شراءَها» ببيانِ أنّ لازمَ التقليبِ هوَ النظرُ إلى بدنِها عادةً. إلّا أنّها غيرُ تامّةٍ أيضاً، فإنّ عمرانَ الجعفري الذي يروي عنه الحارثُ هذه الروايةَ على ما في التهذيبِ والوسائلِ لم يرِد له أيُّ توثيقٍ، بل لم يُذكَر اسمُه في غيرِ هذهِ الروايةِ أصلاً.وصاحبُ الوافي وإن روى هذهِ الروايةَ عن الحارثِ بنِ عمرانَ الجعفري الذي وثّقَه النجاشيُّ إلّا أنّه لمكانِ اختلافِ النسخِ لم تثبُت صحّتُها فلا يمكنُ الاعتمادُ عليها. فالعُمدةُ في الاستدلالِ هو التمسّكُ بالسيرةِ القطعيّة، وعدمُ الخلافِ بينَ الأعلامِ في خصوصِ الوجهِ واليدين، فإنّهنَّ في عهدِهم (عليهم السلام) كُنَّ يخدمنَ في المجالسِ ومنَ الواضحِ أنَّ لازمَ ذلكَ وقوعُ نظرِ الرّجالِ عليهنَّ مِن دونِ أن يصدُرَ في ذلكَ أيُّ ردعٍ مِنهم (عليهم السلام). ثمَّ يقولُ في آخرِ البحث: وتدلُّ عليهِ الآيةُ الكريمة (قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أَبصارِهِم). فإنّها تدلُّ على لزومِ كفِّ النظرِ الذي هوَ بمعنى الانصرافِ عن الشيءِ تماماً فتدلُّ على حُرمةِ جميعِ أنواعِ الاستمتاعِ منَ المرأةِ ما عدا المملوكةِ والزوجة. وعليهِ فإذا ثبتَ منَ الخارجِ جوازُ النظرِ إلى بعضِ أعضاءِ المرأة، عُلمَ أنَّ المُرادَ مِن ذلكَ إنّما هوَ النظرُ البحتُ لا المشوبُ بنوعٍ منَ الاستمتاعِ والتلذّذ) ويتّضحُ مِن ذلكَ عدمُ وجودِ فتاوى بجوازِ النظرِ للمرأةِ وهيَ غيرُ مُستترةٍ كما يُشيرُ السائلُ بقولِه: (المسلمونَ اليومَ تارةً يقولونَ بأنَّ الحجابَ أمنٌ للمُجتمع، وهوَ ما يُخالفُ صريحاً هذهِ الفتاوى التي تُجيزُ للنساءِ الوجودَ بشكلٍ غيرِ مُتستّرٍ أمامَ عامّةِ الناسِ)، وعليهِ يظلُّ الحِجابُ ضامناً لأمنِ المُجتمعِ منَ الانحرافاتِ الأخلاقيّة، ولا يمكنُ التشكيكُ في ذلكَ لمُجرّدِ وجودِ مُمارساتٍ خاطئةٍ حصلَت في تاريخِ المُسلمين. فالإسلامُ لم يُفرّق في وجوبِ السترِ والحجابِ بينَ الحُرّةِ والجاريةِ وإنّما أوجبَ ذلكَ على الجميع، وبالتالي ليسَ هناكَ عُنصريّةٌ كما يشيرُ السائلُ وإنّما حافظَ الإسلامُ على كرامةِ المرأةِ بسترِها وحجابِها سواءً كانَت حُرّةً أو جارية.
اترك تعليق