هل هناكَ خالقٌ غيرُ اللهِ و هل فعلاً أنَّ اللهَ خلقَ مُحمّداً وآلَ مُحمّدٍ وتركَ الخلقَ لغيرِه ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : إذا عرَفنا معنى الخلقِ لُغةً، وما اصطلحَ عليهِ أهلُ العلمِ واستعملوهُ في تفاسيرِهم معَ تأييدِ ذلكَ بما وردَ عن أئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام، فحينَها سيبينُ لنا المرادُ مِن قولِه تعالى (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخَالِقِينَ ﴾. ففي معنى الخلقِ نقول: قالَ ابنُ الأنباري : الخَلقُ في كلامِ العربِ على وجهَينِ : أحدُهما الإنشاءُ على مِثالٍ أَبدَعَه ، والآخرُ التقديرُ ، وقولهُ تعالى : ﴿ ... فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخَالِقِينَ ﴾ معناهُ : أحسنُ المُقدِّرينَ ، وكذلكَ قولهُ تعالى : ﴿ ... وَتَخلُقُونَ إِفكًا ... ﴾ [العنكبوت: 17] أي تقدّرونَ كَذِباً. قالَ ابنُ سيّدِه : خَلَقَ اللّهُ الشيءَ يخلُقه خَلقاً : أحدثَه بعدَ أن لم يكُن. قالَ ابنُ منظور : والخَلقُ التقديرُ ، وخَلقَ الأَديمَ يَخلقُه خَلقاً : قدّرَه لِما يُريدُ قبلَ القطعِ، وقاسَه ليَقطعَ منهُ مَزادةً أو قِربةً أو خُفّاً ، قالَ زهيرٌ بنُ أبي أسلمي يَمدحُ رجلاً : ولأَنتَ تَفري ما خَلقتَ وبعضُ *** القومِ يَخلقُ ثُمّ لا يفري. يعني: أنتَ إذا قدّرتَ أمراً قطعتَه وأَمضَيتَه ، وغيرُك يقدّرُ وليسَ بماضي العزم. [ينظر: لسانُ العربِ: مادّةُ خلق]. ولمزيدٍ منَ التفصيلِ والبيانِ يُرجى مراجعةُ كتابِ (شبهاتٌ وردودٌ حولَ القرآنِ الكريمِ للأستاذِ مُحمّد هادي عرفة، ص282). هذا وإنَّ الخَلقَ بمعنى الإبداعِ وإيجادِ الصورةِ بالتركيبِ الصناعيّ أمرٌ يَعمُّ ، فقد حكى اللُّه عزّ وجلّ عن المسيحِ : ﴿ ... أَنِّي أَخلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيرًا بِإِذنِ اللّهِ ... ﴾ [آلُ عمران: 49]، وقولهُ : ﴿ ... وَإِذ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ بِإِذنِي ... ﴾ [المائدة: 110]، والخَلقُ ـ في كلامِ العربِ ـ ابتداعُ الشيء ، وإنّما يخصُّه تعالى إذا كانَ إنشاءً لا على مِثالٍ سَبَقَه ، وكلُّ شيءٍ خَلقَه اللّهُ فهو مٌبتَدِؤه على غيرِ مِثالٍ سَبَقَ إليه ، ﴿ ... أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ ... ﴾ [الأعرافُ: 54]. ثُمَّ إنَّ ما وردَ عن الإمامِ أبي الحسنِ (عليهِ السلام) مِـمّا يُجلي حقيقةَ هذا الأمر، ففي كتابِ التوحيدِ للشيخِ الصّدوق (ره) بإسنادِه إلى فتحٍ بنِ يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسنِ عليهِ السلام قالَ : قلتُ له : جُعلتُ فداكَ وغيرُ الخالقِ الجليلِ خالقٌ ؟ قالَ : إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى يقولُ : " تباركَ اللهُ أحسنُ الخالقين " فقد أخبرَ أنَّ في عبادِه خالقينَ وغيرَ خالقين ، مِنهم عيسى عليهِ السلام خلقَ منَ الطينِ كهيئةِ الطيرِ بإذنِ اللهِ فنفخَ فيه فصارَ طائراً بإذنِ الله ، والسامريُّ خلقَ لهم عِجلاً جسداً له خوار. [بحارُ الأنوارِ للعلّامةِ المجلسي، (ج ١٤، ص ٢٥٣)]. وفي تفسيرِ الميزان: ١٥ / ٢٢: وَصفُهُ تعالى بأحسنِ الخالقينَ يدلُّ على عدمِ اختصاصِ الخلقِ به، وهوَ كذلك، لِما تقدّمَ أنَّ معناهُ التقدير، وقياسُ الشيءِ منَ الشيءِ لا يختصُّ به تعالى، وفي كلامِه تعالى منَ الخلقِ المنسوبِ إلى غيرِه قوله: * (وإذ تخلقُ منَ الطينِ كهيئةِ الطيرِ) * المائدةُ: 110 وقولهُ: (وتخلقونَ إفكاً) (العنكبوتُ: 17). ومِـمّا تقدّم، يتبيّنُ لكَ صحّةُ وصفِ غيرِ اللهِ جلَّ وعلا بالخالق، وذلكَ لأنَّ معنى لفظِ الخالقِ لُغةً وعُرفًا هوَ مُطلَقُ مَن يصنعُ شيئاً عن تقديرٍ، فهوَ بالإضافةِ إلى ذلكَ الشيءِ خالقٌ، وذلكَ الشيءُ مخلوقٌ له. فالنجَّارُ حينَما يصنعُ سريراً يتصوَّرُ هيئتَه في ذهنِه ويتصوّرُ ما يحتاجُه مِن أدواتٍ وموادّ مِن أجلِ إيجادِه خارجًا -وهذا هوَ معنى التقدير- هذا النجّارُ يصحُّ توصيفُه بخالقِ السرير، وهكذا حينَما ينحتُ أحدُهم حجرًا فيشكِّلُ مِنها صورةَ أسدٍ مثلاً فإنَّه يكونُ خالِقًا لهذهِ الصورة، ذلكَ لأنّه قد تصوّرَها في ذهنِه وخطَّطَ لها قبلَ أن يشرعَ في العملِ على إيجادِها خارِجًا. فهوَ خالقٌ لتلكَ الصورةِ وذلكَ المُجسَّمِ ولا محذورَ في وصفِه بذلك، ولهذا أسندَ القرآنُ الكريمُ الخلقَ لهيئةِ الطيرِ إلى عيسى بنِ مريم (ع) فقالَ تعالى: ﴿وَإِذ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ بِإِذنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيرًا بِإِذنِي﴾ وقالَ تعالى: ﴿أَنِّي قَد جِئتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُم أَنِّي أَخلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيرًا بِإِذنِ اللّهِ﴾. فإسنادُ الخلقِ لهيئةِ الطيرِ إلى عيسى (ع) دليلٌ على صحّةِ وصفِ غيرِ اللهِ جلَّ وعلا بالخالق.وبذلكَ يتَّضحُ أنَّ مُقتضى قولِه تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخَالِقِينَ﴾ هوَ أنَّ ثمّةَ مَن يصحُّ وصفُه بالخالقِ غيرَ اللهِ تعالى إلّا أنَّ اللهَ تعالى هوَ أحسنُ الخالقينَ، فمساقُ هذا الوصفِ هوَ مساقُ ما وصفَ اللهُ تعالى بهِ نفسَه بقولِه: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَولاَهُمُ الحَقِّ أَلاَ لَهُ الحُكمُ وَهُوَ أَسرَعُ الحَاسِبِينَ﴾ وبقولِه تعالى: ﴿فَاللّهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. وقد وردَ وصفُه تعالى في رواياتِ أهلِ البيتِ (ع) بأنَّه أبصرُ الناظرينَ وأسمعُ السامعينَ وأحكمُ الحاكِمين.فلا محذورَ في أن يُوصفَ غيرُ اللهِ تعالى بالراحمِ والحاكمِ والباصرِ والناظرِ ذلكَ لأنَّ الاتّصافَ بهذهِ النعوتِ له مراتبُ متفاوتةٌ ومُتباعِدة، فمَن كانَ واجِداً لأضعفِ مرتبةٍ مِنها يصحُّ وصفُه بها ولا يُنافي ذلكَ وصفُ مَن كانَ واجداً لمرتبةٍ أعلى مِنها بذاتِ الوصفِ، وكذلكَ فإنَّ وصفَ اللهِ جلَّ وعلا بنفسِ تلكَ الصفةِ لا ينافيهِ اتّصافُ مَن هوَ دونَه بها، ولهذا نجدُ القرآنَ الكريمَ قد أسندَ العزّةَ للرسولِ (ص) وللمؤمنينَ وفي ذاتِ الوقتِ أسندَها للهِ جلَّ وعلا ﴿وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ﴾. ومعنى ذلكَ أنَّه كما يصحُّ وصفُ الجليلِ جلَّ وعلا بالعزيزِ كذلكَ يصحُّ وصفُ الرسولِ (ص) بالعزيزِ، وكذلكَ يصحُّ وصفُ المؤمنِ بالعزيزِ رغمَ التفاوتِ البيِّنِ بينَ عزّةِ الرسولِ (ص) والعزّةِ الثابتةِ لسائرِ المؤمنينَ والتفاوتِ الذي لا يرقى إليهِ وهمٌ بينَ عزّةِ الله ِجلَّ وعلا وسائرِ عبادِه المؤمنين. فالعزّةُ الثابتةُ للهِ عزّةٌ مُطلَقةٌ لا ترقى إليها عزّةٌ مهما تعاظمَت، فهيَ العزّةُ غيرُ المُتناهيةِ قالَ اللهُ تعالى: ﴿فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا﴾ وقالَ جلَّ وعلا ﴿سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾. وهكذا الحالُ في كلِّ نعتٍ ووصفٍ يليقُ بشأنِه تعالى فإنَّه يكونُ واجِداً لأكملِ ذلكَ الوصفِ وأتمِّه، ويكونُ معنى اتّصافِ غيرِه به هوَ أنَّهُ واجدٌ لمرتبةٍ مِنه وإن كانَت دانيةً، على أنَّ اتّصافَ غيرِ اللهِ بذلكَ الوصفِ يكونُ بتحويلٍ منَ اللهِ جلَّ وعلا فهوَ تعالى وحدُه الذي يمنحُ محاسنَ الصفاتِ وسجايا الخيرِ لعبادهِ وليسَ لأحدِهم أن يتأهّلَ لشيءٍ مِنها بذاته. وهذا هوَ معنى قولهِ تعالى: ﴿وَإِذ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ بِإِذنِي﴾ فهوَ خالقٌ لهيئةِ الطيرِ ولكِن بإذنِ اللهِ وتأهيلِه، وغيرُه مالكٌ لِما تحتَ يدِه ولكنَّ اللهَ تعالى هوَ مَن ملّكَه ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ﴾. وأمّا الجوابُ عن الشقِّ الثاني منَ السؤال، فاعلَم أنّ خالقَ الإنسانِ - نبيّاً كاَن أو وصيّاً أو شخصاً عاديّاً هوَ اللهُ سبحانَه وليسَ غيرُه، فهوَ القائلُ في صريحِ كتابِه: {وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ مِن صَلصَالٍ مِن حَمَإٍ مَسنُونٍ} [الحجرُ : 26]. وقولهُ: {وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِن طِينٍ} [المؤمنونَ : 12]. ومَن يقولُ غيرَ ذلكَ فهوَ منَ المُفوّضةِ المذمومةِ على لسانِ أئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام. ويؤيّدُ ذلكَ ما رويَ عن زُرارةَ قالَ : قلتُ للصّادقِ عليهِ السّلام : إنَّ رجلاً مِن ولدِ عبدِ اللّهِ بنِ سبأ يقولُ بالتفويضِ قالَ : وما التفويضُ ؟ قلتُ : يقولونَ : إنَّ اللّهَ عزَّ وجلَّ خلقَ مُحمّداً وعليّاً ثمَّ فوّضَ الأمرَ إليهما فخلقا ورزقا وأحييا وأماتا ، فقالَ عليهِ السّلام كذبَ عدوّ اللّهِ إذا رجعتَ إليه فاقرأ عليهِ الآيةَ التي في سورةِ الرّعد : أَم جَعَلُوا لِلَّه شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلقِه فَتَشابَه الخَلق عَلَيهِم قُل اللَّه خالِق كُل شَيءٍ وهُوَ الواحِدُ القَهَّارُ. فانصرفتُ إلى الرّجلِ فأخبرتُه بما قالَ الصّادقُ عليهِ السّلام فكأنّما ألقمتَه حجراً وقالَ كأنّما خرسَ. [إثباتُ الهُداةِ بالنصوصِ والمُعجزات، ج ٥، الحرُّ العاملي، ص ٣٨٧]. وكانَ الرّضا عليهِ السلام يقولُ في دعائِه : اللهمَّ إنّي بريءٌ منَ الحولِ والقوّةِ ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا بك ، اللهمَّ إنّي أعوذُ بكَ وأبرأ إليكَ منَ الذينَ ادّعوا لنا ما ليسَ لنا بحقٍّ اللهمَّ إنّي أبرأ إليكَ منَ الذينَ قالوا فينا ما لم نقُله في أنفسِنا ، اللهمَّ لكَ الخلقُ ومِنكَ الرزقُ وإيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين ، اللهمَّ أنتَ خالقُنا وخالقُ آبائِنا الأوّلين وآبائِنا الآخرينَ اللهمَّ لا تليقُ الربوبيّةُ إلّا بكَ ولا تصلحُ الإلهيّةُ إلّا لك ، فالعَن النّصارى الذينَ صغّروا عظمتَك والعَن المُضاهئينَ لقولِهم مِن بريّتِك . اللهمَّ إنّا عبيدُك وأبناءُ عبيدِك لا نملكُ لأنفسِنا نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، اللهمَّ مَن زعمَ أنّا أربابٌ فنحنُ منهُ براء، ومَن زعمَ أنَّ إلينا الخلقَ وعلينا الرزقُ ، فنحنُ براءٌ منهُ كبراءةِ عيسى بنِ مريم عليهِ السلام منَ النصارى ، اللهمَّ إنّا لم ندعُهم إلى ما يزعمونَ ، فلا تؤاخِذنا بما يقولونَ ، واغفِر لنا ما يدّعونَ ولا تدَع على الأرضِ مِنهم ديّاراً ( 5 ) إنّكَ إن تذَرهم يضلّوا عبادَك ولا يلدوا إلّا فاجِراً كفّاراً .[ بحارُ الأنوار، ج ٢٥، العلّامةُ المجلسي، ص ٣٤٥]. وهذا المذكورُ عن الإمامِ الرّضا (ع) هو ما تعتقدُ بهِ الشيعةُ الإماميّةُ خلفاً عن سلفٍ، كما أثبتَ ذلكَ الشيخُ الصّدوقُ (ره) في كتابِه الاعتقاداتُ (ص545). ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق