هل للهِ تعالى نفسٌ؟
في قولِه تعالى مِن سورةِ المائدة {تَعلَمُ مَا فِي نَفسِي وَلاَ أَعلَمُ مَا فِي نَفسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ}. فهل للهِ تعالى نفسٌ؟
الجواب :
السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،
إنَّ معرفةَ وتوضيحَ المقصودِ بالنفسِ الواردِ في هذهِ الآيةِ الكريمةِ مُتوقّفٌ على فهمِ موضوعٍ مُهمٍّ مِن موضوعاتِ علمِ البلاغةِ في قسمِ البديعِ بابِ المُشاكلة، إذ بيّنَ عُلماءُ البلاغةِ أنَّ المرادَ بالمُشَاكَلةِ في اللغة: المشابهةُ والمُماثلة. وفي الاصطلاحِ : هيَ أن يُذكَرَ الشيءُ بِلَفظِ غَيرِهِ، لِوُقُوعِهِ في صُحبَتِهِ .
أي: نذكرُ كلمةً ولا نريدُ معناها الحقيقي، وإنّما ذكرناها لوقوعِها في مُصاحبةِ لفظةٍ تُشبِهُها. فمثلاً
1- قولهُ تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثلُهَا} [الشورى : 40]. فجزاءُ السيّئةِ لا يُسمّى سيّئةً، ولكن لـمّا ذُكرَت كلمةُ السيئةِ أوّلاً ذُكرَت كلمةُ السيّئةِ ثانياً مِن بابِ المُشاكلة.
2- ومثلهُ قولهُ تعالى : {فَمَنِ اعتَدَى عَلَيكُم فَاعتَدُوا عَلَيهِ بِمِثلِ مَا اعتَدَى عَلَيكُم} [البقرة :194]. فمُقابلةُ الاعتداءِ بمثلِه لا يُسَمَّى في الأصلِ اعتداءً، ولكن سَوَّغَ هذا الإِطلاقُ داعِي المُشاكلَةِ، ولِيُعطيَ اللَّفظُ معنى المُماثلةِ في تطبيقِ العُقُوبَةِ دونَ زيادةٍ، لأنّ معنى كلمةِ "اعتدى" في الأصلِ تجاوزُ حُدُودِ الحقّ، ومنَ العدلِ أن يُقَابَلَ التجاوزُ بمُماثل له.
3- وهاكَ مثالاً آخرَ يحكي قصّةً وقعَت لبعضِ العرب، فقد حُكيَ عن أبي الرقعمق: أنَّ أصحاباً له أرسلوا يدعونَهُ إلى الإفطارِ في يومٍ باردٍ، ويقولونَ لهُ: ماذا تريدُ أن نصنعَ لكَ طعاماً؟ وكانَ فقيراً، ليسَ له ثيابٌ تَحمِيه البردَ، فكتبَ إليهم يقولُ:
قَالُوا: اقتَرِح شَيئاً نُجِد لَكَ طَبخَهُ قُلتُ: اطبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا
فلاحِظ أنّه طلبَ طَبخَ جُبَّةٍ وقميصٍ على سبيلِ المُشاكلة، لطلبِهم أن يطبخوا له شيئاً يأكلُه، ودلَّ بكلامِه هذا على أنّه بحاجةٍ إلى ما يَلبَسُه.
أي: خَيِّطوا لي جبّةً وقميصاً، فأبدلَ الخياطةَ بلفظِ الطَّبخِ لوقوعِها في سياقِ طبخِ الطعامِ على سبيلِ المُشاكلةِ والمُقابلة. [ينظر: البلاغةُ للدّكتور حسن عبّاس ج2/ص294].
فإذا عرفتَ ذلكَ فقد آنَ الأوانُ أن نُبيّنَ المرادَ مِن قولِه تعالى: {تَعلَمُ مَا فِي نَفسِي وَلاَ أَعلَمُ مَا فِي نَفسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ} [المائدة: 116]. إذ بيّنَ المُفسّرونَ المُرادَ بهذهِ الآيةِ حينَ عرضوا لها، فقالوا ما حاصلُه:
قولهُ: {تَعلَمُ مَا في نَفسِى}: أي تعلمُ غيبي وسرّي، لأنّ علمكَ مُحيطٌ بكلِّ معلوم.
وقولهُ: {وَلاَ أَعلَمُ مَا في نَفسِكَ} أي لا أطّلعُ على غيبِك وسرّك إلّا بقدرِ ما تُعَرِّفُني بإعلامك. {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ} الذي لا يخرجُ معلومٌ عن علمِك، ولا مقدورٌ عن حُكمِك.
وإنّما ذُكرَت النفسُ في هذه الآيةِ ثانياً بعدَما ذُكرَت أوّلاً على جهةِ المُقابلةِ والمُشاكلة، وإلّا فاللهُ مُنزّهٌ عن أن يكونَ له نفسٌ أو قلبٌ تحلُّ فيه المعاني. [ينظر: مجمعُ البيان ٣: ٢٦٨ و ٢٦٩]. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق