ما هي نظرة الشيعة إلى الصوفية؟

اسئلة الموقع الفرنسي: ما هي نظرة الشيعة إلى الصوفية عندما نعلم ، على سبيل المثال ، أن شيعة غرب إفريقيا لديهم مقاربة جيدة للتصوف والتي تتعارض قليلاً مع التشيع في الأفق الآخر.

الجواب :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

لم يُبيّن السائلُ طبيعةَ النظرةِ التي يتبنّاها شيعةُ غرِب أفريقيا للتصوّفِ حتّى يتمَّ مناقشتُها، ولذلكَ منَ الصعبِ مناقشةُ ما لا نعرفُ حقيقتَه وتفاصيلَه، أمّا إذا كانَ السائلُ يقصدُ نظرةَ الشيعةِ بشكلٍ عامٍّ لصوفيّةِ غربِ أفريقيا، فحينَها يجبُ أن نُحدّدَ الزاويةَ التي يطلبُ السائلُ تقييمَها، فهناكَ أكثرُ مِن زاويةٍ يمكنُ النظرُ مِن خلالِها إلى صوفيّةِ غربِ أفريقيا، فهناكَ التقييمُ المَذهبيّ الذي يحاكمُ التصوّفَ عقائديّاً وسلوكيّاً، وهناكَ التقييمُ الحضاريُّ الذي يحاكمُ الدورَ التاريخيَّ والاجتماعيَّ والسياسيّ لصوفيّةِ غربِ أفريقيا، وهناكَ زاويةٌ ثالثةٌ أشارَ لها بعضُ الدارسينَ وهيَ نظرةُ الشيعةِ للتصوّفِ كحليفٍ استراتيجيّ لنشرِ التشيّعِ في أفريقيا، وسوفَ نعملُ على اختصارِ الإجابةِ في شكلِ إشاراتٍ عامّة لكلِّ واحدٍ مِن هذه الزوايا الثلاثة. 

أوّلاً التقييمُ المذهبيُّ للتصوّفِ: ليسَ للشيعةِ نظرةٌ خاصّةٌ بصوفيّةِ غربِ أفريقيا، وإنّما لهُم نظرةٌ عامّة تشملُ التصوّفَ في أيّ زمانٍ وفي أيّ مكانٍ وُجِد، فالتصوّفُ في نظرِ الشيعةِ واحدٌ منَ التيّاراتِ الإسلاميّة التي تنتمي مذهبيّاً إلى أهلِ السنّةِ والجماعة، ومنَ الطبيعيّ أن يكونَ هناكَ اختلافٌ بينَ الشيعةِ والصوفيّةِ بسببِ الاختلافِ بينَ الرؤيةِ الشيعيّةِ للإسلام والرؤيةِ السنيّةِ، فالصوفيّةُ في الأغلبِ ينتمونَ عقائديّاً لأبي الحسنِ الأشعريّ وفقهيّاً ينتمونَ للمذاهبِ الأربعة، والنقاشُ معَ التصوّفِ مِن هذهِ الزاويةِ لا يختلفُ عن النقاشِ الذي يُثارُ بينَ الشيعةِ والسنّة.

 أمّا فيما يخصُّ الجانبَ السلوكيَّ والعِبادي فإنَّ التصوّفَ يمتازُ على بقيّةِ أهلِ السنّةِ بأنَّ له رؤيةً خاصّةً حولَ العِرفانِ والسلوك، والخلافُ بينَ الشيعةِ والصوفيّةِ في هذا الجانبِ شبيهٌ لحدٍّ كبيرٍ للخلافِ بينَ الصوفيّةِ وبقيّةِ أهلِ السنّةِ والجماعة، ولذا نجدُ كُلّاً منَ الشيعةِ والسنّةِ صَنّفوا كُتباً في الردِّ على الصوفيّة، وعليهِ يمكنُنا القولُ أنَّ الموقفَ العامَّ لمُعظمِ علماءِ الشيعةِ هوَ الموقفُ السلبيُّ منَ التصوّف، حيثُ يرونَ أنَّ التصوّفَ في بُعدِه العرفانيّ والسلوكيّ يتصادمُ معَ ظواهرِ النصوص، ومِن هُنا يعتمدُ التصوّفُ على التأويلاتِ البعيدةِ والتفسيراتِ الرمزيّةِ والإشاريّةِ لدعمِ اتّجاهِهم الديني، وممّا يجبُ الإشارةُ إليه وجودُ بعضِ الاتّجاهاتِ الشيعيّةِ التي تتبنّى الخيارَ الصوفيَّ كتجربةٍ سلوكيّةٍ للوصولِ للهِ تعالى، ويبدو أنَّ القاسمَ المُشتركَ بينَ جميعِ الاتّجاهاتِ العرفانيّةِ هوَ الإيمانُ بوحدةِ الوجودِ حتّى وإن كانَت ضمنَ سياقاتٍ ومُقارباتٍ مُختلفة، حيثُ يقومُ العرفانُ أساساً على نفي الإثنينيّةِ والإيمانِ بالحقيقةِ الواحدة، وقد قدّمَ العرفانُ النظريُّ مُقارباتٍ مُتعدّدةً لتصويرِ كيفَ تكونُ الحقيقةُ واحدةً معَ وجودِ هذهِ الكثرة، وبعيداً عن هذهِ المُقارباتِ فالنتيجةُ هيَ أنَّ العارفَ (الصوفيَّ) في تكاملِه المَعنوي يقصدُ الفناءَ في اللهِ تعالى، وقد عُبّرَ عَن ذلكَ في العرفانِ الإسلاميّ بقوسِ الصّعود، حيثُ يعودُ العارفُ ضمنَ مراحلَ ودرجاتٍ عرفانيّةٍ إلى مصدرِ الوجود، والعرفانُ في هذهِ المرحلةِ يعدُّ خياراً عمليّاً وسلوكيّاً، أي أنَّ العارفَ وضمنَ رياضاتٍ روحيّةٍ وعبرَ وسيطٍ روحيّ يجتازُ هذهِ المراحلَ ليعودَ إلى مصدرِ الوجود، أمّا مرحلةُ الخلقِ والإيجاد فيعبّرُ عَنها بقوسِ النزولِ حيثُ فيه يتنزّلُ الخالقُ أو يتجلّى في خلقِه، وعليهِ فإنَّ نظامَ الوجودِ في التصوّرِ العرفانيّ يشبهُ الدائرةَ التي تنقسمُ إلى نِصفين، يمثّلُ النصفُ الأوّلُ قوسَ النزولِ والنصفُ الثاني قوسَ الصعود، والعرفانُ في مرحلةِ قوسِ النزولِ يعدُّ بحثاً أنطولوجيّاً يتكفّلُ به العرفانُ النظري، أمّا قوسُ الصعودِ فهوَ مِن اختصاصاتِ العرفانِ العَمليّ والسلوكي، وفي المُحصّلةِ لا يستقيمُ أيُّ معنىً للعرفانِ إلّا بالإيمانِ بوحدةِ الحقيقةِ ونفي أيّ نوعٍ مِن أنواعِ الاثنينيّةِ في الوجود، وهُنا يلتقي التصوّفُ السنّيُّ معَ العرفانِ الشيعي، إلّا أنَّ ذلكَ لا يُمثّلُ موقفاً لعامّةِ عُلماءِ الشيعة.

ثانياً الدورُ الحضاريُّ لصوفيّةِ غربِ أفريقيا: منَ المُؤكّدِ أنَّ الفضلَ في دخولِ الإسلامِ لأفريقيا يعودُ بشكلٍ كبيرٍ للصوفيّة، ومِن هُنا لا يمكنُ إهمالُ التصوّفِ عندَ دراسةِ المُجتمعاتِ الإسلاميّةِ في أفريقيا، والناظرُ لتاريخِ الطرقِ الصوفيّةِ في غربِ أفريقيا يجدُ مُساهماتِها الكُبرى في الشأنِ الاجتماعيّ والسياسي، فمُضافاً لمُساهمةِ الطرقِ الصوفيّةِ في طردِ المُستعمرِ الأجنبيّ نجدُ أنَّ بعضَ مشايخِ الصوفيّةِ تمكّنوا مِن تأسيسِ دولٍ استمرَّت فترةً منَ الزمن، فمثلاً أسّسَ الشيخُ عُثمان دان فودي إمارةً إسلاميّةً في سوكوتو بشمالِ نيجيريا، واستمرَّ حُكمُها لِما يقاربُ قرناً منَ الزمان، كما أسّسَ شيخو أحمد دولةَ ماسينا الإسلاميّةِ في مالي سنةَ 1818م، واستمرَّ حُكمُها في نجلِه وحفيدِه، وفي منطقةِ فوتا في السنغال قادَ الحاجُّ عُمر تال الفوتي (1796-1864) الفوتيّينَ لإقامةِ دولةٍ إسلاميّة في إفريقيا الغربيّة، إلّا أنَّ جيشَه هُزمَ وتراجعَ مشروعُه السياسي، وبتأثيرٍ منَ الحاجِّ عُمر سعيد الفوتي قادَ تلميذُه ومريدُه الشابُّ بمباه جاخو (ت 1867)، الأهاليَ في منطقةِ ريب (Rip) المُتاخمةِ للحدودِ السنغاليّةِ الغامبيّةِ لتأسيسِ دولةٍ في تلكَ المناطق.

والشواهدُ كثيرةٌ على الأدوارِ التي قامَت بها الطرقُ الصوفيّةُ في غربِ أفريقيا، وقد أصدرَ مركزُ الجزيرةِ للدّراساتِ في هذهِ السنة 2022م كتاباً تحتَ عنوان (الطرقُ الصوفيّةُ في غربِ إفريقيا: السياقاتُ الاجتماعيّةُ والأدوارُ السياسيّة) حيثُ سعى هذا الكتابُ لتحقيقِ جُملةٍ منَ الأهدافِ مِن أبرزِها: الوقوفُ على تشكّلِ المساراتِ الصوفيّة، طُرقاً وأشياخاً ومُريدين، في سياقِها التاريخيّ والجُغرافيّ والسياسيّ في إفريقيا الغربيّة وتفاعلِها معَ جوارِها المغاربي، وكذلكَ معرفةُ ملامحِ تفاعلِ الطرقِ الصوفيّةِ معَ دينامياتِ التغيّراتِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ بهذهِ المنطقة.

وقد خلصَ الكتابُ -بعدَ استعراضِه لمُختلفِ نواحي حياةِ الطّرقِ الصوفيّةِ في بلادِ المغربِ وغربِ إفريقيا- أنّها نُظمٌ لها ارتباطٌ قويٌّ بتاريخِ البلادِ وتقاليدِها، ولها تأثيرٌ حاسمٌ في حياةِ السكّان؛ حيثُ أسهمَت في التربيةِ والتعليمِ والتنميةِ الاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ والثقافيّة، كما ظلَّت تقومُ بدورِ وساطةٍ في الحياةِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ رغمَ ما يواجهُها مِن تحدّيات.

ومنَ المؤكّدِ أنَّ الشيعةَ ليسَ لهُم رؤيةٌ خاصّةٌ فيما يتعلّقُ بهذا الجانب.

ثالثاً التصوّفُ كحليفٍ استراتيجيّ لنشرِ التشيّعِ في أفريقيا: ممّا لا شكَّ فيه أنَّ الشيعةَ تنظرُ للتصوّفِ بشكلٍ إيجابي في هذا الجانب، ليسَ لكونِ التصوّفِ حلقةً ضعيفةً يمكنُ اختراقُها - فقد أثبتَت التجاربُ صعوبةَ العملِ التبليغيّ وسطَ الصوفيّة - وإنّما لوجودِ قاسمٍ مُشترَكٍ يجمعُ بينَهما وهوَ محبّةُ أهلِ البيتِ المُتأصّلةُ بينَ الطرفين، فالدعوةُ لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) والالتفافُ حولَهم يُمثّلُ قاعدةً مُشتركةً لأيّ تعاونٍ وتكاملٍ بينَ الطرفين، وقد يكفي لإنشاءِ حلفٍ بينَ الطرفين كونهُما مُستهدَفَينِ معاً مِن قِبلِ الجماعاتِ السلفيّةِ المُتشدّدة، فالشيعةُ والسنّةُ في نظرِ تلكَ الجماعاتِ هُما وجهانِ لعُملةٍ واحدة، فالوهابيّةُ لا تُفرّقُ كثيراً بينَ الصوفيّةِ والشيعةِ وتعتبرُهما عدوّاً مُشتركاً، ومؤخّراً شكّلَ ظهورُ السلفيّةِ وما يُسمّى بتيّاراتِ الإسلامِ السياسيّ في أفريقيا تحدّياً وجوديّاً للتصوّف، ومِن هُنا كانَ التعاونُ بينَ الشيعةِ والصوفيّةِ أمراً مُتوقّعاً وبخاصّةٍ أنَّ الشيعةَ لهُم قُدرةٌ علميّةٌ كبيرةٌ في ردِّ شبهاتِ وإشكالاتِ الوهابيّة، وقد أثبتَ الواقعُ العمليُّ تعايشاً طيّباً بينَ الشيعةِ والصوفيّةِ في أفريقيا عامّةً وفي غربِ أفريقيا خاصّة، ونرجو أن لا يتمكّنَ السلفيّةُ مِن زعزعةِ هذا الحلفِ الاستراتيجيّ فهوَ بالتأكيدِ في مصلحةِ الإنسانِ الأفريقي.