وقفة مع رواية : (كلّ النّاس أولاد بغايا ، ما خلا شيعتنا)!!!

روى الكُلينيّ بإسنادهِ عن عليٍّ بنِ محمّد ، عن عليٍّ بنِ العبّاس ، عن الحسنِ بنِ عبدِ الرّحمن ، عن عاصمٍ بنِ حميد ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفرٍ عليهِ السلام قال: قلتُ له: إنَّ بعضَ أصحابِنا يفترونَ ويقذفونَ مَن خالفَهم؟!. فقالَ لي عليهِ السلام: «الكفُّ عَنهم أجمل». ثمَّ قال : «و اللهِ يا أبا حمزة ، إنَّ النّاسَ كلّهم أولادُ بغايا، ما خلا شيعتنا». قلتُ : كيفَ لي بالمخرجِ مِن هذا؟!. فقالَ لي عليهِ السلام : «يا أبا حمزة كتابُ اللهِ المُنزَل يدلُّ عليه ، إنَّ اللهَ تباركَ و تعالى جعلَ لنا أهلَ البيتِ سهاماً ثلاثةً في جميعِ الفيء ثمَّ قالَ عزَّ و جل : وَاعلَمُوا أَنَّمَا غَنِمتُمْ مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابنِ السَّبِيلِ فنحنُ أصحابُ الخُمس... . والفيءُ ، وقد حرّمناهُ على جميعِ النّاس ، ما خلا شيعتنا ؛ واللهِ يا أبا حمزة ، ما مِن أرضٍ تفتحُ ، ولا خُمسٍ يخمّسُ فيضربُ على شيءٍ منه، إلاّ كانَ حراماً على مَن يصيبُه فُرجاً كانَ أو مالاً... ( 1 ). هل هذا المنطقُ ينسجمُ مع أخلاقِ وفكرِ أهلٓ البيت (ع) أن تُرمى طائفةٌ بأكملِها بأنّهم أولادُ بغايا؟

: الشيخ باسم الحلي

الجوابُ:

قُلنا : هذا الخبرُ فيه نظرٌ شديد، مِن وجوه :

الأوّلُ : إسنادُه ضعيفٌ جدّاً ، الحسنُ بنُ عبدِ الرّحمانِ الحماني ، كما وردَ في موضعٍ آخرَ منَ الكافي ، مجهولُ الحالِ أو مُهمَل ، وعليُّ بنُ العبّاسِ الجراذينيّ الرّازي : رُميَ بالغلوّ ، وغمزَ عليه، ضعيفٌ جدّاً. قالَه النجاشيُّ رضيَ اللهُ عنه .

الزّبدةُ : الحديثُ ساقطٌ مِن جهةِ الإسناد .

الثاني : ليسَ لِما يتوهّمُ مِن ظاهرِه ، وهوَ أنَّ كلَّ الناسِ أولادُ زنا إلاّ الشيعة ، شاهدٌ في أصولِنا المُعتبرة ، بل هوَ مُعارَضٌ بالأخبارِ القطعيّةِ سنداً ودلالةً ، الصريحةِ أنَّ لكلِّ قومٍ نِكاح ، مِمّا يتناولُ حتّى المجوسيّ ، فكيفَ بالسّنّيّ وهوَ مُسلمٌ ينطقُ الشهادتين ؟! وسيأتي الكلامُ في الوجهِ الخامس .

وأيضاً فالحديثُ ، معَ الإغماضِ عن ضعفِ إسنادِه ، وردَ لبيانِ أنَّ الناسَ توالدوا بمالٍ حرام ، وهوَ الخُمسُ المغصوبُ مِن أهلِ البيتِ عليهم السلام ، وكونُ أمّهاتِهم بغايا ، لا يعني أنّهنَّ عواهرُ زانيات والعياذُ بالله ، على ما سيتّضحُ جليّاً في الوجهِ الرّابعِ الآتي .

الثالثُ : تعيُّنُ حملِ لفظِ النّاس، على العهديّة.

أي: خصوصُ النواصبِ ، أو خصوصُ الجاحدينَ حقَّ أهلِ البيت عليهم السّلام ، وقولهُ عليه : (النّاسُ كلّهم أولادُ بغايا) أي: كلُّ مَن جحدَ حقّنا في الخُمسِ عَن علمٍ وبيان ، وأكثرُ أهلِ السنّة ، سيّما عوامُّهم ، ليسوا كذلكَ وجداناً ، فلا يتناولُهم الخِطاب ؛ تخصّصاً.

وهذا مُتعيّنٌ ، وإلّا انهارَ أكبرُ قواعدِ العقيدةِ المعلومةِ ضرورةً عندَنا ، وهيَ في التفريقِ بينَ القاصرِ والمُقصّر ، والأخبارُ في التفريقِ كثيرةٌ مقطوعةُ الصّدور .

يشهدُ له ما أخرجَهُ الصّدوقُ في العِلل ، بإسنادٍ صحيحٍ دونَ كلام ، عن زُرارةَ ومحمّدٍ بنِ مُسلم وأبي بصيرٍ عن أبي جعفرٍ عليهِ السلام قال: قالَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السلام : «هلكَ النّاسُ في بطونِهم وفروجِهم ؛ لأنّهم لا يؤدّونَ إلينا حقّنا، ألا وأنَّ شيعتَنا مِن ذلكَ وأبناءهم في حلّ» ( 2 ).

فقولهُ عليهِ السلام: (هلكَ الناس) بضميمةِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولًا يُحمَلُ على العهديّة ، أي: كلُّ مَن صدقَ عليهِ غصبُ الخُمس، وهو العالمُ العامدُ الجاحدُ المُقصّر ، لا الجاهلُ القاصر.

والقرينةُ الداخليّةُ هي قوله عليهِ السلام : (لأنّهم لا يؤدّونَ إلينا حقنا) وفيها ظهورٌ في العالمِ بالغصبِ الجاحِد ، وإلاّ لزمَ التكليفُ بالمحال ، أو بغيرِ المَقدور ، أو بما لا يُطاق ، ولا نقولُ به إجماعاً وقولاً واحداً.

الرابعُ : البغايا يعني الإماءُ المُشتراةُ بمالِ الخُمس .

يمكنُ حملُ لفظِ : (أولادِ البغايا) على معنىً آخرَ غيرِ الزنا ؛ فلفظُ البغي ، عندَ أئمّةِ اللغةِ، مشتركٌ لفظيّ، بينَ الزّانيةِ ، وبينَ: الأمة وإنْ كانَت عفيفةً ليسَت بزانية .

قالَ إمامُ اللغةِ الفيومي في المِصباحِ المُنير: بغَت المرأة : فجرَت ، فهيَ بغيٌّ ، والجمعُ بغايا...، والبغيُ : القينة (=الأمَة) ، وإن كانَت عفيفةً ( 3 ).اهـ.

قالَ الإمامُ الجوهريّ في الصِّحاح : والأَمَةُ يقالُ لها: بَغِيٌّ، وجمعُها البَغايا، ولا يرادُ به الشَتم، وإنْ سُمِّينَ بذلكَ في الأصلِ لفُجورهنَّ ( 4 ) ( 5 ).اهـ.

وقالَ ابنُ منظور في اللسان : وقيلَ: البغيُّ الأمةُ، فاجرةً كانَت أو غيرَ فاجرة...، وعمَّ ثعلبُ (إمامُ لغة) بالبغاءِ فقالَ: بغَت المرأة، فلم يخصَّ أمةً ولا حرّةً ( 6 ).اهـ.

قالَ الإمامُ ابنُ السُّكيت، يعقوبُ بنُ إسحاق في كتابِ الألفاظ (244هـ) : وقالَ الأصمعيّ: البغيُّ: الأمة. يقالُ: قامت على رؤوسِهم البغايا، أي: الإماء ( 7 ).اهـ.

فيمكنُ حملُ لفظِ البغايا ، على معنى الخدمِ والإماء ، حتّى لو كنَّ عفيفات ، لا البغايا على معنى الزانياتِ العاهِرات ؛ فلا يُقصَدُ منهُ الشتيمةُ والقذفُ مِن هذهِ الجهة، وإنّما التعريضُ بكونهنَّ اشترينَ ، ووُطِئنَ ، وأولدنَ الأولاد ، مِن خُمسِنا المَغصوب ، والغالبُ على أهلِ ذلكَ الزمانِ الإيلادُ منَ الإماءِ وأمّهاتِ الأولاد ، لأنّ أسعارهنَّ زهيدةٌ جدّاً قياساً بمهورِ الحرائِر ..

فيكونُ معنى الحديث : أنَّ أبا حمزةَ توهّمَ مِن قولِ الإمامِ عليهِ السلام : (أولادُ البغايا) أولادُ الزّانياتِ العاهرات ، لكنَّ الإمامَ عليهِ السلام ، صحّحَ له هذا التوهّمً ، بأنّهم أولادُ إماء ، ووجهُ الذمِّ فيه أنّهنَّ أولدنَهم بخُمسِنا المَغصوب، والقرينةُ عليه ، قولهُ عليهِ السلام : (ولا خُمسَ يُخمّس ، فيُضربُ على شيءٍ منه ، إلاّ كانَ حراماً على مَن يصيبُه ، فُرجاً أو مالاً ) .

لكن هل هذا يعمُّ كلَّ البغايا الإماء؟!.

قُلنا: أجمعَ أصحابُنا الشيعةُ ، بل عُلمَ ضرورةً ، أنَّ هذا مُختصٌّ بالمُقصّر ، العالمُ بالغصبِ الجاحدِ المُعاند ، أمّا القاصرُ فكلّا ، وكثيرٌ مِن أهلِ السنّةِ ، وربّما الأكثرُ ، قاصرونَ ، فلا يتناولُهم الخِطاب ، لِما مرَّ في الوجهِ الثالِث ، مِن أنَّ الألفَ واللامَ في : (النّاسِ) على العهديّة ، أي: خصوصُ الجاحدِ العالمِ بالغَصب، وإلّا انهارَت قواعدُ العقيدةِ المُفرّقة بينَ القاصرِ والمُقصّر .

الخامسُ : المعارضةُ بما هوَ أصحُّ سنداً ، وأكثرُ طُرقاً ، وأوضحُ دلالةً .

وهيَ الأخبارُ المُعتبرةُ الكثيرة ، المُعتضدةُ بالشّهرةِ العظيمةِ ، أنَّ لكلِّ قومٍ نكاح ، وهذا ينزّهُهم عن أن يكونوا أولادَ زنا وسِفاح؛ فهيَ مُقدّمةٌ قطعاً على ظاهرِ روايةِ أبي حمزةَ في التعارض .

فمِن ذلكَ ما رواهُ الشيخُ الطوسي في التهذيبِ بإسنادِه عن محمّدِ بنِ الحسنِ الصفّار ، عن محمّدِ بنِ الحُسين ، عن وهبٍ بنِ حفص ، عن أبي بصير قالَ: «سمعتُ أبا عبدِ الله عليهِ السلام يقول: نهى رسولُ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله أن يُقالَ للإماء : يا بنتَ كذا وكذا ، وقالَ: لكلِّ قومٍ نكاح».

قلتُ: إسنادُه مُوثّقٌ صحيحٌ دونَ كلام.

وقد فهمَ منهُ أساطينُ أصحابنا دونَ نكير ، حُرمةَ قذفِ غيرِ المُسلِم بأنّه ابنُ الزنا ؛ ضرورةَ أنَّ لكلِّ قومٍ نكاح ، ينزّهُهم عن الزّنا والسّفاح ، فكيفَ بمَن شهدَ الشهادتين مِن بقيّةِ المُسلمين .

وروى الطوسيُّ في التهذيبِ بإسنادِه عن اسحاقَ بنِ عمّار قال: قالَ ابو عبدِ الله عليهِ السلام : «لا تسبّوا أهلَ الشّرك ، فإنَّ لكلِّ قومٍ نكاحاً».

قلتُ: حديثٌ مقبولٌ مُعتبرٌ بينَ الأساطين . أي لا تقذفوا أمّهاتِ أهلِ الشركِ بالزنا ؛ فكيفَ بأمّهاتِ مَن نطقَ الشهادتين ؟!.

وروى الكُلينيّ عن عليٍّ ، عن أبيه ، عن ابنِ أبي عُمير ، عن أبي الحسنِ الحذّاء قال: كنتُ عندَ أبي عبدِ الله عليهِ السلام فسألني رجلٌ ما فعلَ غريمُك؟!.

قلتُ : ذاكَ ابنُ الفاعلة ، فنظرَ إليَّ أبو عبدِ الله عليهِ السلام نظراً شديداً، قالَ: فقلتُ جُعلتُ فِداك: إنّه مجوسيّ..؛ أمّهُ أختُه؟!. فقالَ عليهِ السلام : «أو ليسَ ذلكَ في دينِهم نكاحاً»؟!.

قلتُ: إسنادُه صحيحٌ على الأظهر ، فابنُ أبي عُمير مِن أصحابِ الإجماع ، لا يروي إلاّ عن ثقةٍ ، كما هوَ مبنى جماعةٍ كصاحبِ الرياضِ والمجلسيّان والحرِّ وغيرِهم رضيَ اللهُ عنهم.

وروى الكُلينيّ عن عمرو بنِ نعمان الجُعفي قالَ: كانَ لأبي عبدِ الله عليهِ السلام صديقٌ لا يكادُ يُفارقه إذا ذهبَ مكانا ً، فبينَما هوَ يمشي معَه في الحذّاءين ، ومعَه غلامٌ له سِنديّ يمشي خلفَهما ، إذا التفتَ الرّجلُ يريدُ غلامَهُ ثلاثَ مرّات فلم يرَه ، فلمّا نظرَ في الرّابعة قالَ : يا ابنَ الفاعلةِ أينَ كُنت؟!.

قالَ : فرفعَ أبو عبدِ الله عليهِ السلام يدَه فصكَّ بها جبهةَ نفسِه ، ثمَّ قال : سبحانَ اللهِ تقذفُ أمَّه ، قد كنتُ أرى أنَّ لكَ ورعاً ، فإذا ليسَ لكَ ورع».

فقالَ : جُعلتُ فِداك إنَّ أمّهُ سنديّةٌ مُشركة؟!.

فقالَ : «أما علمتَ أنّ لكلِّ أمّةٍ نكاحاً ؛ تنحَّ عنّي». قالَ : فما رأيتُه يمشي معَه حتّى فرّقَ الموتُ بينَهما.

قالُ الكُليني : وفي روايةٍ أخرى «أنَّ لكلِّ أمّةٍ نكاحاً يحتجبونَ به منَ الزنا » ( 8 ).

الزّبدةُ : قولُ المعصوم : (لكلِّ قومٍ نكاح) ثابتٌ ، معتضدٌ بالشهرةِ العظيمةِ ، التي كادَت أن تكونَ إجماعاً ، ولا يعارضُه خبرُ أبي حمزةَ الضعيفِ إسناداً ، الواحدِ طريقاً ، المرجوحِ دلالةً ، هذا لو امتنعَ الجمعُ بينَهما ، أو حملهُ على معنىً معقول ؛ إذ يمكنُ حملهُ على البغيّ بمعنى الأمةِ المُشتراةِ بمالِ الخُمس المغصوب ، لا البغيّ بمعنى الزّانية .

الحاصلُ :

قولُ المعصوم : (النّاسُ كلّهم أولادُ بغايا) لو أغمَضنا عن إسنادِه الضعيف ، خاصٌّ ببابِ الخُمس، ليسَ بصددِ بيانِ الزّنا بمعناهُ الخاص ، وهوَ السّفاحُ المقابلُ للنّكاحِ ومُلكِ اليمين ؛ فإنّه يرادُ منه أنّهم توالدوا مِن طريقِ أمّهاتِهم الإماء ، إذن البغيُّ قد تعني الأمةَ العفيفةَ ، كما جزمَ أئمّةُ اللغة، وهوَ الظاهرُ منَ الحديث ، وإنّما توجّهَ لهُنَّ الذمُّ ؛ لكونهنَّ اشتُرينَ ووطئنَ وولدنَهم بمالٍ مغصوب ، وهوَ خُمسُ أهلِ البيتِ عليهم السلام .

.......

( 1 ) الكافي (ت: علي غفاري) 8: 285.

( 2 ) عللُ الشرائع 2: 377. الباب : 66. العلّةُ التي مِن أجلِها جُعلَت الشيعةُ في حلٍّ منَ الخُمس.

( 3 ) المصباحُ المُنير 1: 57.

( 4 ) قولُ الجوهري : (وإنْ سُمِّينَ بذلكَ في الأصلِ لفُجورهنَّ) يريدُ به أنَّ الأصلَ في استعمالِ لفظِ البغي في الجاهليّةِ يعني : العاهرةَ الفاجرة ، لكن شاعَ استعمالُه فيما بعدَ ذلكَ في الأمة ، حتّى لو كانَت عفيفةً ، وهذا هوَ الاشتراكُ اللفظي.

( 5 ) الصّحاحُ للجوهري 6: 2282.

( 6 ) لسانُ العرب 14: 77.

( 7 ) الألفاظُ لابنِ السكيت (ت: فخرُ الدين قباوة) : 347. مكتبةُ لبنان ناشرون. الطبعةُ الأولى 1998م.

( 8 ) الكافي (ت: عليً غفاري) 2: 324. بابُ البذاء .