هل في القرآنِ كلماتٌ عبريّةٌ وسريانيّة؟
لماذا أسماءُ الملائكةِ في القرآنِ عبرانيّةٌ أو سريانيّة؟ وتنتهي بمقطعِ ايل. وايل هوَ اللهُ كما يقالُ في اللغاتِ القديمة؟
الجواب:
القولُ بأنَّ هناكَ كلمةٌ في القرآنِ ذاتُ أصولٍ عبريّة أو سريانيّة يتوقّفُ على أسبقيّةِ هذهِ اللّغاتِ على اللّغةِ العربيّة، وهذا غيرُ مُسلّمٍ به عندَ المُحقّقينَ والباحثينَ المُهتمّينَ بنشوءِ اللغات.
فهناكَ الكثيرُ منَ البحوثِ المُفصّلةِ حولَ اللغاتِ الساميةِ (العربيّةِ، والعبريّة، والسريانيّة) وأيُّهما أقدمُ في الظهور.
وقد تبنّى الكثيرُ منَ الباحثينَ أسبقيّةَ اللغةِ العربيّةِ في الظهورِ على جميعِ اللغاتِ السامية، وسوفَ نشيرُ إلى بعضِهم في تفصيلِ الإجابة.
وعليهِ: إذا ثبتَ ذلكَ لا يبقى مُبرّرٌ للقولِ أنَّ القرآنَ استعانَ بلغاتٍ أخرى غيرِ العربيّة، بل حتّى في حالِ التردّدِ وعدمِ الجزمِ بأسبقيّةِ اللغةِ العربيّة يبقى بابُ الاحتمالِ مفتوحاً وحينَها لا يمكنُنا الجزمُ بأنَّ هذهِ الأسماءَ مِن أصولٍ غيرِ عربيّة.
تفصيلُ الجواب:
ليسَ منَ المُسلّمِ به عندَ جميعِ الباحثينَ أنَّ أسماءَ الملائكةِ في القرآنِ مأخوذةٌ منَ اللغةِ العبريّة.
بل يرى بعضُ الباحثينَ أنَّ العربيّةَ أقدمُ وأشملُ منَ العبريّة، فمعاجمُ الكلماتِ المتشابهةِ بينَ العربيّةِ والعبريّةِ كثيرة، ويصلُ بعضُها إلى 900 صفحة، وهذا ما تؤكّدُه المعاجمُ التي عُنيَت بهذا الشأن.
فمِنها: معجمُ الجذورِ والكلماتِ المُشتركةِ للُغتين- العربيّةِ والعبريّةِ للأستاذِ عادل غنايم، ويتألّفُ مِن مُجلّدين يبلغُ عددُ صفحاتِهما 900 صفحة.
وهناكَ معجمُ الوفاق– معجمُ الكلماتِ المتشابهةِ بالعربيّةِ والعبريّةِ للأستاذِ جريس طنوس، وتصلُ عددُ صفحاتِ هذا المُعجم إلى 400 صفحة.
بالإضافةِ إلى قاموسِ الكلماتِ المُتشابهةِ للدكتور محمود زحالقة.
الأمرُ الذي دفعَ بعضَ الدارسينَ إلى القولِ إنَّ العبريّةَ هيَ لهجةٌ عربيّة، وأنَّ العبريّةَ القديمةَ كانَت شبيهةً بالعربيّة.
أمّا العبريّةُ المعاصرةُ فقد تأثّرَت بالإنجليزيّةِ، والألمانيّة، وغيرها منَ اللغات.
ويؤكّدُ الباحثُ سلامة يوسف في دراسةٍ أعدّها بعنوان (العبريّةُ لهجةٌ عربيّةٌ عادية) أنَّ اللغتين العربيّةِ والعبريّة نشأتا في بيئةٍ واحدة وبينَهما عناصرُ مُشتركة، ويضيفُ في دراستِه: "أنَّ وجودَ طائفةٍ كبيرةٍ منَ الكلماتِ العبريّةِ اشتملَت عليها العربيّة، والعربيّةُ تحتوي على كمٍّ هائلٍ منَ الكلماتِ التي لها دلالاتٌ عميقةٌ وواسعةٌ تفوقُ العبريّة، كلُّ ذلكَ يقودُ إلى الاعتقادِ أنَّ العبريّةَ لا تعدو أن تكونَ لهجةً عربيّةً عاديّة".
ويضيفُ الباحثُ في دراستِه أنَّ هناكَ علماءَ لغةٍ مثلَ يهوشع بلاو يقولُ إنَّ: "العبريّةَ الحديثةَ لغةٌ كُتبَت بحروفٍ عبريّة لكنَّ الكلماتِ والمعاني عربيّةٌ محضة".
وبحسبِ الباحثِ فإنَّ العبريّةَ بدأت كلهجةٍ عربيّةٍ في شبهِ الجزيرةِ العربيّة وازدهرَت في بلادِ الأندلس، حيثُ عاشَ اليهودُ والعرب معاً في فترةٍ باتَت تُعرفُ بالفترةِ الذهبيّة، حيثُ تأثّرَ علماءُ اليهودِ بالعلماءِ المُسلمين ونقلوا الكثيرَ مِن علومِهم والمعارف.
وقد يختلفُ بعضُ عُلماءِ اللغةِ في أنَّ العبريّةَ لهجةٌ عربيّة، إلّا أنَّ أكثرَ العلماءِ يُجمعونَ أنَّ العبريّةَ والعربيّة مِن أصلٍ سامٍ واحدٍ، وهوَ ما أكّدَهُ الدكتور مُحمّد عقل، وأضافَ أنَّ مجمعَ اللغةِ العبريّةِ استقى كلماتٍ عربيّةً كثيرةً وعبرنَها لدرجةِ أنّه ظهرَ تيّارٌ مِن علماءِ اللغةِ اليهود ممَّن أخذوا منَ اللغةِ العربيّة، وهوَ ما تؤكّدُه الدراساتُ الإسرائيليّة نفسُها بأنَّ إليعيزر بنَ يهودا الذي ساهمَ في إحياءِ اللغةِ العبريّةِ بينَ القرنين التاسعِ عشر والعشرين أدخلَ الكثيرَ منَ الكلماتِ العربيّةِ للعبريّة.
والحالُ نفسُه بالنسبةِ للسريانيّةِ حيثُ أكّدَ باحثونَ أنَّ اللغةَ العربيّةَ أقدمُ في الظهورِ منَ السريانيّة، ولا يضرُّ ذلكَ كونُ العربيّةِ متأخّرةً عن السريانيّةِ في التدوين.
فالمؤكّدُ عندَ باحثي اللغاتِ أنَّ تقدّمَ اللغةِ في التدوين لا يعني تقدّمَها في الظهور.
وبالتالي ليسَ منَ الصّحيحِ إرجاعُ كلِّ كلمةٍ عربيّةٍ ذاتِ أصلٍ سامٍ إلى السريانيّة، وإلّا لجازَ أيضاً إرجاعُ كلِّ كلمةٍ سريانيّةٍ ذاتِ أصولٍ ساميّة إلى العبريّةِ باعتبارِها أقدمَ مِنها في التدوين، وكذلكَ إرجاعُ كلِّ كلمةٍ عبريّةٍ إلى اللغةِ الأوغاريتيّة لأنّها أسبقُ تدويناً منَ العبريّة.
يقولُ اللغويّ السريانيّ الأبُ أنستاس ماري الكرمليّ في كتابِه (نشوءُ اللغةِ العربيّةِ ونموّها واكتمالُها): "ولا تكونُ الكلمةُ العربيّةُ منَ العبريّةِ أو الآراميّة / السريانيّة إلّا إذا كانَت تلكَ الكلمةُ خاصّةً بشؤونِ بني إرم أو بني إسرائيل. أمّا الألفاظُ العامّةُ المُشتركةُ بينَ الساميّينَ جميعاً، فليسَ ثمّةَ فضلُ لغةٍ على لغة".
ويقولُ النحويّ السريانيّ أقليميس يوسف داود، مطرانُ دمشق على السريانِ في كتابِه (اللّمعةُ الشهيّة في نحوِ اللغةِ السريانيّة) الصادرِ سنةَ 1896م "وأشهرُ اللغاتِ الساميّةِ هيَ العربيّةُ والعبرانيّةُ والسريانيّةُ والحبشيّةُ بفروعهنَّ الكثيرة، وإنّما ذكَرنا العربيّةَ أوّلاً بينَ اللغاتِ الجزيريّةِ لأنَّ العربيّةَ وباعترافِ جميعِ المُحقّقينَ هيَ أشرفُ اللغاتِ الساميةِ مِن حيثُ هيَ لغةٌ وأقدمهنَّ وأغناهن"
ويضيفُ: "ثمَّ إنّنا لا نعتقدُ أنَّ الآراميّةَ هيَ أقدمُ اللغاتِ الساميةِ كما زعمَ قوم، وأقلُّ مِن ذلكَ أنّها أقدمُ لغاتِ العالمِ كما زعمَ غيرُهم بلا بيّنةٍ وبلا أساس، بل نثبتُ معَ العلماءِ والمُحقّقينَ أنَّ اللغةَ العربيّةَ هيَ التي تقرّبُ إلى أمِّ اللغاتِ الساميةِ أكثرَ مِن أخوتها"
وعلى ضوءِ ذلك يرى بعضُ الباحثينَ أنَّ أسماءَ الملائكةِ في القرآنِ تعودُ إلى لغةٍ عربيّةٍ قديمة.
ومثالٌ على ذلك يقولُ الدكتور هادي حسن حمودي: "أمّا الذي نراهُ فإنَّ هذهِ الكلماتِ قديمةٌ قدمَ اللغةِ الأولى التي لدينا براهينُ كافيةٌ للقولِ بأنّها اللغةُ العربيّةُ القديمة. وذكرَ القرآنُ مِنها جبريلُ، وميكالُ، وهاروتُ، وماروت... أمّا جبريلُ فاسمٌ معروفٌ تسمّى به عربٌ منذُ القديم. ونراهُ الأصلَ في جبرائيل، تماماً كما أنَّ ميكالَ هوَ الأصلُ في ميكائيل.
ويمكنُ القولُ إنَّ (جبريلَ) متكوّنٌ مِن قِسمين: (جَبر) و(إل). أمّا (جَبر) فدالٌّ على القوّةِ في الخيرِ والشرّ. فمنَ الخير: جبرتُ العظمَ الكسير: عالجتُه وأعدتُه إلى وضعِه الطبيعيّ. ومنه: يا جابرَ عثراتِ الكرام. ويأتي الجبرُ في عكسِ ذلك، كما في: (وَبَرًّا بِوَالِدَيهِ وَلَم يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا).
أمّا (إل) فهوَ اسمٌ دالٌّ على الله. ولكنَّ هذهِ الدلالةَ ليسَت مُطلقةً، بل هيَ في ألفاظٍ منحوتةٍ مِن لفظين، ثانيهما لفظُ (الله) حيثُ اكتفينا بأخذِ حرفين مِنه (إل). والنحتُ أن توشجَ كلمتان بحيثُ تفقدُ إحداهُما أو كلاهما بعضَ الحروف. ففي التسميةِ لكَ أن تُسمّي ابنَك: هبةَ الله أو عبدَ الله أو عطيّةَ الله. هذا علمٌ مركّبٌ وليسَ فيه حذفُ حروف.
أمّا تسميةُ جَبر الله، فغيرُ معهودةٍ، بسببِ سعةِ دلالاتِ الجذر (ج ب ر) فهوَ، كما ذكَرنا دالٌّ على القوّةِ سواءٌ كانَت في الخيرِ أم في الشرّ. فلا تليقُ التسميةُ بـ(جبرِ الله). لئلّا توحي بالتكبّرِ والتجبّرِ في الباطلِ والشرّ، وهل منَ اللائقِ أن يُسمّي أحدٌ ابنتَه لعنةَ الله، أو يسمّي ابنَه غضبَ الله؟
لذا أخذَ القرآنُ معنى القوّةِ منَ الجذر (ج ب ر) والحرفينِ الأوّلين مِن لفظِ الجلالة (إل)، فصاغَ جبرئل، واتّخذت معنىً جديداً يخلو مِن معنى (جبر الله). ومعلومٌ أنَّ الهمزةَ يمكنُ أن تحوّلَ إلى ياء، أو تحذفَ، لأسبابٍ صوتيّة، كما تقولُ مائةٌ، وماية. وهنيًّا مريًّا، وهنيئاً مريئاً. فتحوّلَت الهمزةُ، لهذا السّببِ الصوتيّ إلى ياء (جبريل). وفي غيرِ القرآنِ وردَ جبرئيلُ وجبرائيل وجبرائين.. وغيرُها.."
وفي المُحصّلةِ حتّى لو شكّكَ البعضُ في أسبقيّةِ اللغةِ العربيّة على اللغاتِ الساميةِ فعلى أقلِّ التقديرِ لا يمكنُنا الجزمُ بأنَّ القرآنَ استخدمَ كلماتٍ ليسَ لها وجودٌ في اللغةِ العربيّةِ القديمة.
اترك تعليق