زلزال تركيا

سؤال: بادئَ ذي بدء ، حدثَ أنّه لا يوجدُ نظامٌ في الكون ، وإلّا ، إذا كانَ العقابُ سيأتي فقَط على الذنوب ، فهل ارتكبَ الأتراكُ المعاصيَ فقط؟ الأمرُ الثاني: ما ذنبُ الأبرياء الذينَ دُفنوا تحتَ الأنقاض وما ذنبُ الفتيات والأطفالِ الأبرياء ، هل سيستمرُّ إذلالُهم طوالَ حياتهم؟ هل أخطأ آباؤهم وأصبحوا الآنَ معوقينَ مدى الحياة؟ هل يدركُ الناسُ أنَّ كلَّ فيضانٍ صغيرٍ لا ضررَ فيه قد أغضبَ الله ، وحتّى في الفيضانات الكبيرة حيثُ دمّرَ ملايينَ البشر في العالم ، غضبَ الله. ألا يستطيعُ اللهُ أن يُنقذَ هؤلاءِ الفتياتِ البريئاتِ اللواتي دُفنوا تحتَ الأنقاضِ أيّاماً كثيرة؟ أليسَ منَ القسوةِ تدريسُ الدروسِ للأتراكِ فقط لإخافةِ عوالمَ أخرى حتّى يخافَ الآخرون؟ تماماً مثلَ سياسةِ الولاياتِ المُتّحدة هيَ إلقاءُ قُنبلةٍ ذرّيّةٍ على بلدٍ لإخافةِ الآخرين وإحداثِ دمارٍ حتّى يخافوا. أنا مُسلمٌ ولكنَّ السؤالَ منَ المُلحدين

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجوابُ:

لا يمكنُ فهمُ فلسفةِ وجودِ الكونِ والنظامِ العادلِ الذي يحكمُه، ما لم نفهَم فلسفةَ وجودِ الإنسانِ أوّلاً، فمنَ الصعبِ تفسيرُ الكونِ وفهمُ فلسفةِ وجودِه بعيداً عن الإنسان؛ وذلكَ لأنَّ الإنسانَ هوَ الموجودُ الوحيدُ الذي يُعطي لوجودِ الكونِ معنى؛ بل الكلامُ عن معاني الأشياءِ لا يستقيمُ منَ الأساس إلّا بوجودِ الكائنِ العاقلِ الذي يفهمُ تلكَ المعاني.

ومِن هُنا كانَ الوقوفُ على فلسفةِ وجودِ الإنسانِ بمثابةِ المدخلِ الطبيعيّ لفهمِ النظامِ الذي يحكمُ الكون، والمعادلةُ البسيطةُ التي تقومُ عليها هذهِ الفكرةُ هيَ أنَّ الغايةَ مِن وجودِ الكونِ ليسَت شيئاً مُغايراً للغايةِ مِن وجودِ الإنسان، فالكونُ وما فيه مِن نظامٍ سُخّرَ مِن أجلِ الإنسان.

وعليهِ: منَ المستحيلِ فهمُ نظامِ الكون ما لم نفهَم النظامَ الذي يجبُ أن يحكمَ حياةَ الإنسان، ويبدو أنَّ السّائلَ لا يُخالفنا في أصلِ هذهِ الفكرة، والدليلُ على ذلكَ نجدُه بنى نفيَهُ للنّظامِ الكوني عندَما تصوّرَ تعارضَ ذلكَ النظامِ معَ مصلحةِ الإنسان، ويبدو أنَّ السببَ في حدوثِ هذا التعارضِ عندَ السائل هوَ عدمُ فهمِه للغايةِ مِن وجودِ الإنسان، فتوهّمَ وجودَ تعارضٍ بينَ النظامِ العادلِ للكون وبينَ الزلازلِ والأعاصيرِ وجميعِ الكوارثِ الطبيعيّة، ولرفعِ هذا التوهّمِ لا بدَّ مِن مُناقشةِ التصوّراتِ الخاطئةِ لفلسفةِ وجودِ الإنسانِ في هذهِ الحياة.

فهناكَ تصوّرٌ يعتقدُ بأنَّ اللهَ طالما خلقَ الإنسانَ فلابدَّ أن يكونَ هوَ المسؤولُ عن توفيرِ كلِّ ما يلزمُ حياتَه، كما يجبُ أن يدفعَ عنهُ كلَّ ما يعيقُ مسيرَهُ في هذهِ الحياة، وكأنَّ الإنسانَ في هذهِ الدّنيا ضيفٌ يجبُ أن تُقدّمَ له خدماتُ خمسةِ نجوم.

وبمعنىً آخر يتصوّرُ الدّنيا كأنّها الجنّةَ التي يجبُ أن لا يصيبَ الإنسانَ فيها أيُّ مكروهٍ أو عنَت، مثلَ ما وعدَ اللهُ آدمَ بقولِه: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظمَأُ فِيهَا وَلَا تَضحَىٰ)، فإذا انطلَقنا مِن هذا التصوّرِ كيفَ يمكنُ أن نفهمَ المصاعبَ والكوارثَ التي تُهدّدُ حياةَ الإنسان؟ فيجبُ أن لا تحدثَ زلازلُ منَ الأساس، وإذا حصلَت يجبُ أن لا تسقطَ المباني التي بناها الإنسانُ، وإذا أسقطَها يجبُ أن لا يصيبَ مكروهٌ مَن هوَ تحتها، وإذا أصابَهُ مكروهٌ يجبُ أن لا يصيبَ الأطفالَ وكبارَ السنِّ، وإن كانَ لا بدَّ منَ الضررِ يجبُ أن لا يشملَ الضررُ مَن لا ذنبَ له، وهكذا يجبُ على اللهِ أن يتكفّلَ بإدارةِ حياةِ الإنسان وينوبَ عنهُ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، وهذا بالتأكيدِ تصوّرٌ خاطئٌ لحقيقةِ الإنسان ولفلسفةِ وجودِه في هذهِ الحياة.

بينما التصوّرُ الحقيقيّ هوَ الذي يقودُنا إلى القولِ إنَّ اللهَ خلقَ الإنسانَ ومنحَهُ العقلَ والقدرةَ وهيّأ له كلَّ الطاقاتِ التي تمكّنُه مِن تسخيرِ الكونِ بنفسِه ووفقاً لإرادتِه، وفي هذهِ الحالةِ لا يجوزُ للإنسانِ أن يطالبَ ربَّه أن ينوبَ عنه في أداءِ وظيفتِه، أمّا إذا خلقَ اللهُ الإنسانَ مِن دون عقلٍ وصرفَ عنهُ القُدرةَ والإرادةَ فحينَها يجبُ أن يتكفّلَ برعايتِه كما يتكفّلُ الوالدانِ برعايةِ طفلِهما.

ومنَ المؤكّدِ أنَّ عظمةَ الإنسانِ هيَ في كونِه قادراً على التحدّي والكفاح مِن أجلِ إعمارِ الأرضِ وبناءِ حياةٍ سعيدة، وتقصيرُ الإنسانِ عن القيامِ بهذا الدورِ يعودُ عليه بالمشاكلِ والشرور، وبالتالي كلُّ ما يصيبُ الإنسانَ منَ الشرورِ وهوَ بما كسبَت يداه إمّا بشكلٍ مباشرٍ وإمّا لتقصيرِه في أمرٍ ما، فالحروبُ المُدمّرةُ يصنعُها الإنسانُ بشكلٍ مباشر، والأمراضُ والأوبئةُ والفقرُ تصيبُ الإنسانَ نتيجةً لتقصيرِه في حمايةِ البيئةِ وفي التوزيعِ العادلِ للثرواتِ أو غيرِ ذلك منَ الإفسادِ الذي يمارسُه الإنسانُ على الأرض.

والكوارثُ الطبيعيّةُ مِن زلازلَ وفيضاناتٍ وبراكين تُلحقُ الضررَ بالإنسانِ عندَما لا يُهيّئُ لنفسِه الظروفَ المُناسبةَ التي تحميهِ مِن ذلك، فمثلاً الزلزالُ الذي أصابَ تُركيا وسوريا والذي تجاوزَ عددُ القتلى فيهِ ثلاثين ألفاً لو حدثَ بنفسِ هذه القوّةِ في اليابانِ لَما كانَ فيه مثلُ هذه الخسائر.

ففي تُركيا وسوريا لم يكُن اللهُ هو المُقصّر وإنّما الإنسانُ هو الذي قصّرَ في ذلك، وبالتالي الجميعُ مسؤولٌ كلٌّ بقدرهِ عن الموتِ الذي حصل، ابتداءً منَ الدولةِ والأنظمةِ التي تعاقبَت على الحُكم وانتهاءً بأصغرِ عاملٍ أهملَ عملَهُ ولم يؤدّهِ بالطريقةِ المُثلى، والآنَ إذا لم يعمَل الأتراكُ على تفادي الأخطاءِ التي وقعوا فيها وإذا لم يُعيدوا البناءَ بالشكلِ الذي يحمي الناسَ منَ الزلازلِ فإنّهم سيتحمّلونَ مسؤوليّةَ الأجيالِ القادمة إذا أصابَها زلزال.

وعليهِ فإنَّ عدالةَ الله نراها واضحةً في كلِّ تفصيلٍ مِن تفاصيلِ الوجود، فقد أوجدَ اللهُ الكونَ بالشكلِ الذي يناسبُ الإنسانَ وسخّرَ له كلَّ شيءٍ حتّى يكونَ طائعاً بينَ يديه، كما خصَّ الإنسانَ بإمكاناتٍ مهولةٍ تمكّنُه منَ الاستفادةِ مِن كلِّ جزءٍ مِن أجزاءِ الوجود. فإذا أهملَ الإنسانُ تلكَ القُدرات وإذا تحكّمَت فيه المطامعُ والشهواتُ والأنانيّات فعندَها لا يلومُ غيرَ نفسِه، فالذنوبُ التي يرتكبُها الإنسانُ ليسَت فقط مخالفةَ أحكامِ الحلالِ والحرام وإنّما تشملُ التقصيرَ في جميعِ المسؤوليّاتِ التي يجبُ أن يؤدّيها الإنسان، فكلّكُم راعٍ وكلّكُم مسؤولٌ عن رعيّتِه كما جاءَ في الحديثِ الشريف.

ولو افترَضنا جدلاً أنَّ فلسفةَ الدين للحياةِ والوجودِ فلسفةٌ باطلة، فما هيَ الفلسفةُ البديلةُ التي يمكنُ أن يقدّمَها الكفرُ بالدينِ وباللهِ تعالى؟ وكيفَ يجيبُ هذا السائلُ عن تلكَ الأسئلةِ لو لم يكُن هناكَ إلهٌ نستمدُّ منه القيمَ الأخلاقيّةَ ونعرفُ منه معاني العدالةِ والرّحمة؟ بل منَ الأساسِ كيفَ يحقُّ للمُلحد أن يسألَ مثلَ هذه الأسئلةِ والحياةُ عندَه مُجرّدُ ظواهرَ مادّيّةٍ لا تحكمُها أيُّ قيمٍ أخلاقيّة؟ فلتُصِب الزلازلُ البشريّةَ كلَّ يوم، وليموتَ الأبرياءُ تحتَ الأنقاض، ما المانعُ مِن ذلكَ طالما ليسَ للحياةِ قيمةٌ وليسَ هناكَ حِكمةٌ مِن وجودِها.