زواج المسلمة من الكتابي وذبائح أهل الكتاب

هل هناكَ فرقٌ بينَ نصارى زمنِ الرّسولِ مُحمّد صلّى اللهُ عليهِ وآله واليهودِ آنذاك وبينَهم في زمنِنا مِن حيثُ الأحكام الشرعيّة المُتعلّقةِ بهم كالزّواجِ مِن نسائِهم والأكلِ مِن طعامِهم وإلخ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

الأحكامُ التي نصّت عليها الآياتُ والرواياتُ وأجمعَت عليها الأمّةُ تظلُّ ثابتةً لا تتغيّرُ بتغيّرِ الزمانِ والمكان، ففي الحديثِ عن عليّ بنِ إبراهيم، عن محمّدِ بنِ عيسى بنِ عبيد، عن يونس، عن حُريز، عن زُرارة، قال: سألتُ أبا عبدِ الله (عليهِ السلام) عن الحلالِ والحرام؟ فقال: «حلالُ مُحمّد حلالٌ أبداً إلى يومِ القيامة، وحرامُه حرامٌ أبداً إلى يومِ القيامة، لا يكونُ غيرُه ولا يجيءُ غيره».

ومِن تلكَ الأحكامِ حُرمةُ زواجِ المُسلمةِ مِن غيرِ المُسلم مُطلقاً بما فيهم اليهودُ والنصارى، قالَ تعالى: (وَلاَ تُنكِحُوا المُشرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا وَلَعَبدٌ مُؤمِنٌ خَيرٌ مِن مُشرِكٍ وَلَو أَعجَبَكُم أُولَئِكَ يَدعُونَ إِلَى النَّارِ)، وقد فسّرَ بعضُهم علّةَ ذلكَ بهيمنةِ الزوجِ على الزوجةِ بحُكمِ العادة، ولا يصحُّ أن يقعَ المُسلم تحتَ هيمنةِ الكافر، قالَ تعالى: (وَلَن يَجعَلَ اللَّهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤمِنِينَ سَبِيلاً) فقد يكونُ ذلكَ سبباً لصرفِها عن دينِها أو على الأقلِّ يتسبّبُ في ضعفِ التزامِها بالدين، ولذا جاءَ في الآيةِ قولهُ تعالى: (أُولَئِكَ يَدعُونَ إِلَى النَّارِ).

وكذلكَ أجمعَ فقهاءُ المُسلمين على حُرمةِ زواجِ المُسلم منَ الكافرِ والمُشرِك غيرِ الكتابي مثلَ عبدةِ الأصنامِ والأوثان، والبوذيّينَ والهندوس والملاحدةِ المُنكرينَ لوجودِ اللَّهِ تعالى وغيرِهم.

أمّا زواجُ المُسلمِ مِن أهلِ الكتاب فقد اتّفقَ فقهاءُ أهلِ السنّةِ على جوازِه معَ الكراهةِ كما هوَ عندَ الحنفيّةِ والشافعيّةِ والمالكيّة، أمّا الحنابلةُ فقالوا أنَّ زواجَ المُسلم منَ الكتابيّةِ خلافُ الأولى، وقد استندوا في حليّةِ زواجِ المُسلمِ للكتابيّةِ على قولِه تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُم وَطَعَامُكُم حِلٌّ لَهُم وَالمُحصَنَاتُ مِن المُؤمِنَاتِ وَالمُحصَنَاتُ مِن الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم إِذَا آتَيتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحصِنِينَ غَيرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخدَانٍ).

أمّا عندَ فقهاءِ الشيعةِ فقد حرّمَه بعضُ المُتقدّمينَ مِن أمثالِ السيّدِ المُرتضى، واستدلّوا برواياتٍ عن أئمّةِ أهلِ البيت (عليهم السلام) تفيدُ التحريمَ والمَنع، أمّا الآيةُ الكريمة (وَالمُحصَنَاتُ مِن الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم) فقد تمَّ تفسيرُها باللاتي أسلمنَ مِنهنَّ في مقابلِ المُحصناتِ منَ المؤمناتِ اللّاتي كنَّ في الأصلِ مؤمنات، وذلكَ أنَّ قوماً كانوا يتحرّجونَ منَ الزواجِ ممّن أسلمَت منَ اليهوديّاتِ والنصرانيّات فبيّنَ سبحانَه أنّه لا حرجَ في ذلك، فلهذا أفردهنَّ بالذّكر.

ويرى بعضُهم أنَّ الآيةَ (وَالمُحصَنَاتُ مِن الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ) منسوخةٌ بقولِه تعالى (وَلاَ تَنكِحُوا المُشرِكَاتِ حَتَّى يُؤمِنَّ)، وقولِه تعالى: (وَلاَ تُمسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ).

ويرى البعضُ الآخرُ مِن فُقهاءِ الشيعة جوازَ الزواجِ منَ الكتابيّةِ مُطلقاً، انطلاقاً منَ الآيةِ الكريمة (وَالمُحصَنَاتُ مِن الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم) ولوجودِ نصوصٍ مُستفيضةٍ أو متواترةٍ دالّةٍ على جوازِ نكاحِ الكتابيّة، حسبَ تعبيرِ صاحبِ الجواهر، وأغلبُ فُقهاءِ الشيعةِ المُعاصرين يذهبونَ إلى هذا الرّأي وأنَّ الزواجَ منَ الكتابيّةِ جائزٌ على كراهةٍ كما هوَ رأيُ أغلبِ فُقهاءِ أهلِ السنّة.

أمّا ذبيحةُ أهلِ الكتابِ فقد أجمعَ أهلُ السُنّةِ على حلّيّتِها انطلاقاً مِن قولِه تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُم) فالطعامُ عندَهم يشملُ ذبائحَ أهلِ الكتاب، بينَما خالفَهم الشيعةُ في ذلك حيثُ فسّروا الطعامَ في الآيةِ بالحبوبِ والألباِن وما شاكلَها، فلفظُ (الطعام) وإن كانَ في الأصلِ يشملُ كلَّ ما يأكلهُ الإنسان، إلّا أنَّ بعضَ اللّغويّينَ أفادَ بأنَّ الطعامَ في لغةِ أهلِ الحجازِ يختصُّ بالبرِّ وسائرِ الحبوب، ففي لسانِ العرب (تحتَ مادّةِ طعم) قالَ: وأهلُ الحجاز اذا أطلقوا اللفظَ بالطعامِ عَنوا به البرَّ خاصّةً، وذُكرَ عن الخليلِ أنّه قال: العالي في كلامِ العرب أنَّ الطعامَ هوَ البرُّ خاصّة، كما أنَّ ابنَ الأثير أشارَ في كتابِه النهاية إلى ذلك.

وقد فسّرَت رواياتُ أهلِ البيت (عليهم السلام) الطعامَ في الآيةِ بالحبوبِ دونَ الذبائح، كما تواترَت رواياتُهم التي تنهى عن أكلِ ذبائحِ أهلِ الكتاب، ولا يمكنُ معارضةُ ذلكَ بالقول إنَّ الذبائحَ في اللغةِ داخلةٌ تحتَ مُسمّى الطعام، فحتّى لو صحَّ ذلكَ لُغةً إلّا أنَّ الذبائحَ مُستثنيةٌ في قولِه تعالى: (وَلاَ تَأكلوا ممَّا لَم يذكَر اسم اللّه عَلَيه وَإنَّه لَفسقٌ وَإنَّ الشَّيَاطينَ لَيوحونَ إلَى أَوليَآئهم ليجَادلوكم وَإن أَطَعتموهم إنَّكم لَمشركونَ)، فالآيةُ نصٌّ في تحريمِ ما لم يُذكَر اسمُ اللهِ عليه، وقد وصفَهُ اللهُ في هذهِ الآية وفي آياتٍ أخرى بالفسقِ والرّجسِ والإثم، فما كانَ هذا وصفُه في القرآنِ كيفَ يمكنُ أن يكونَ داخلاً في قولِه تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُم)؟

وبذلكَ نفهمُ رواياتِ أهلِ البيت التي نهَت عن أكلِ ذبائحِ أهلِ الكتاب، فعن الإمامِ الصّادقِ عليهِ السلام قال: قالَ له رجل: أصلحكَ الله إنَّ لنا جاراً قصّاباً فيجيءُ يهوديٌّ فيذبحُ له حتّى يشتريَ منهُ اليهود؟ فقالَ عليه السلام: (لا تأكُل مِن ذبيحتِه ولا تشترِ منه)، وفي قولِه تعالى: (وطعامُهم حلٌّ لكم) قالَ الإمامُ الصّادق عليهِ السلام: (العدسُ والحُمّصُ وأشباهُ ذلك)، وغيرُ ذلكَ منَ النصوصِ الكثيرة.