هل الفكر الإسلامي نسبي بالمطلق؟
أحدُ العلمانيّينَ قالَ إنَّ الفكرَ الإسلاميّ بما فيهِ مِن علمِ كلامٍ و تفسيرٍ و فقهٍ و و ..إلخ ما هوَ إلّا نتاجُ مرحلةٍ زمنيّةٍ مُعيّنة ، إذ أنّ كلَّ فكرٍ ما هوَ إلّا نتاجُ مرحلةٍ ... و هوَ ما يُسمّى بتاريخيّةِ الفِكر ..فلا يمكنُ بالتالي تمديدُ فكرِ مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى .. و لا يمكنُ مُحاسبةُ و تقييمُ فكرٍ ما بأدواتِ مرحلةٍ مُختلفةٍ زمنيّاً و جغرافيّاً ...فلا يوجدُ ثوابتُ لا على ص عيدِ الفلسفةِ و لا المنطقِ و لا الأخلاق ..
#الجواب:
منَ الواضحِ أنَّ هذه الفكرةَ تعتمدُ بالكاملِ على مُخرجاتِ الاتّجاهِ الفِكري الذي يُصطلحُ عليه بـ(التاريخانيّة)، وهوَ الاتّجاهُ الذي يعتقدُ بمركزيّةِ التاريخِ في دراسةِ الظواهرِ المُختلفة، ومِن أهمِّ المبادئِ التي تأسّسَ عليها مفهومُ (التاريخانيّة) هوَ عدمُ الاعترافِ بوجودِ أيّ قيمٍ أبديّةٍ وثابتة، فجميعُ الأفكارِ والقيمِ مُرتبطةٌ بشكلٍ وثيق بالسياقِ الاجتماعيّ والتاريخيّ الذي وجدَت فيه، فيؤسّسُ بذلكَ للنسبيّةِ التي لا تعترفُ بأيّ معاييرَ عقليّةٍ وموضوعيّة.
ومنَ المؤكّدِ أنَّ الفكرَ الإسلاميّ بوصفِه نتاجاً لمُقارباتِ العقلِ الإنسانيّ لا يجادلُ في نسبيّةِ تلكَ المُقاربات؛ لأنَّ الأفكارَ المُرتبطةَ بموضوعاتِها الخارجيّة تظلُّ تابعةً لموضوعاتِها وجوداً وعدماً.
فملاكُ أيّ فكرةٍ في كونِها معبّرةً عن الحقيقة، وتلكَ الحقيقةُ إمّا أن تكونَ مُعبّرةً عن الموضوعِ ضمنَ المِصداقِ الزمانيّ والمكاني، وإمّا أن تكونَ مُعبّرةً عن الحقيقةِ بما هيَ بعيداً عمّا يجسّدُها مِن مصداقٍ خارجيّ.
فمثلاً: قد تتباينُ أفكارُ مجموعةٍ منَ الناسِ حولَ النظامِ السياسيّ الذي يُحقّقُ العدالةَ بينَ المواطنين، فيرى البعضُ مثلاً النظامَ العِلمانيّ، ويرى آخرونَ النظامَ الإسلاميّ، وهكذا تتباينُ الأفكارُ حولَ النظامِ الأنسبِ لتحقيقِ العدالة.
والمؤكّدُ أنَّ جميعَ تلكَ الأفكارِ والنظريّاتِ خاضعةٌ للتغيّراتِ التي يحدثُها الظرفُ الزماني، ولذلكَ لا نستبعدُ أبداً تبدّلَ موقفِ العلمانيّ أو الإسلامي، فمَن كانَ يُنادي بالعلمانيّةِ في وقتٍ منَ الأوقات قد يُنادي بالإسلاميّةِ في وقتٍ آخر، ومَن كانَ يُنادي بالإسلاميّةِ يُنادي بالعلمانيّة، وهكذا تتبدّلُ الأفكارُ والمواقفُ نتيجةَ عواملَ كثيرةٍ.
إلّا أنَّ الثابتَ الوحيدَ مِن بينِ ذلكَ هوَ الفكرةُ التي تقولُ بأنَّ العدلَ حسنٌ يجبُ تحقيقُه، فالعدلُ هُنا يمثّلُ القيمةَ المحوريّةَ والثابتةَ التي لا يمكنُ أن تتأثّرَ بأيّ ظرفٍ منَ الظروف.
وإذا نظَرنا لطبيعةِ التفكيرِ الإنسانيّ نجدُ أنّه يتحرّكُ في بُعدين:
الأوّل: هوَ ما يمثّلُ المعاييرَ العقليّةَ والثوابتَ القيميّة.
والثاني: هوَ ما يُمثّلُ فهمَ الواقعِ ومُقاربتَه انطلاقاً منَ الضوابطِ العقليّةِ والقيميّة.
وكما هوَ واضحٌ الأوّلُ ثابتٌ والثاني مُتغيّر.
وعليهِ: فإنَّ التاريخانيّةَ يمكنُ قبولُها في حدودِ تأثّرِ الأفكارِ والمعارفِ بالسياقِ التاريخيّ والاجتماعي، إلّا أنَّ ذلكَ التأثيرَ يظلُّ خاصّاً بالأفكارِ المُرتبطةِ بالموضوعاتِ الظرفيّة، أمّا الأفكارُ التي تعبّرُ عن الحقائقِ المُطلقة مثلَ المبادئِ العقليّة والمُرتكزاتِ العقائديّة والقيمِ الأخلاقيّة فإنّها تظلُّ خارجةً عن التأثّرِ والانفعالِ بالظرفِ الزّماني.
والفكرُ الإسلاميّ بوصفِه فِكراً إنسانيّاً لا يخرجُ عن هذهِ المُعادلة، فهناكَ ثوابتُ عابرةٌ للزّمانِ وهناكَ متغيّراتٌ خاضعةٌ للزّمان، وعليهِ فإنَّ التسلسلَ المنطقيَّ للثوابتِ يمكنُ تصويرُه بالشكلِ التالي:
أوّلاً: النظامُ المعرفيّ الذي يُشكّلُ التصوّرَ العقائديَّ والرؤيةَ الوجوديّةَ للإنسان.
ثانياً: ما ينعكسُ مِن ذلكَ التصوّرِ العقائديّ مِن قيم.
ثالثاً: ما ينعكسُ مِن تلكَ القيمِ مِن تصوّرٍ ثقافيّ يقومُ عليهِ السلوكُ الإراديُّ للإنسان.
وهناكَ ترابطٌ طبيعيّ بينَ هذه المستوياتِ الثلاثة، فإذا بدأنا منَ السلوكِ الإراديّ للإنسان نجدُه نتاجاً طبيعيّاً للرؤيةِ الثقافيّةِ التي يحملُها الإنسان، بحيثُ يستحيلُ تصوّرُ سلوكٍ إراديٍّ للإنسانِ لا تقفُ خلفَه رؤيةٌ ثقافيّةٌ مُحدّدة. وثقافةُ الإنسانِ بدورِها هيَ نتاجٌ طبيعيٌّ للقيمِ التي يحملُها الإنسانُ سواءٌ كانَت حقّاً أو باطلاً، المهمُّ أنَّ كلَّ رؤيةٍ ثقافيّةٍ يحملُها الإنسانُ هيَ نتاجٌ للقيمِ التي يؤمنُ بها.
والقيمُ بدورِها هيَ نتاجٌ للرؤيةِ المعرفيّة التي يتبنّاها الإنسان، حيثُ لا يمكنُ أن نتصوّرَ إيمانَ إنسانٍ بقيمةٍ لا يقفُ خلفَها تصوّرٌ فلسفيٌّ ورؤيةٌ معرفيّةٌ سواءٌ كانَت حقّاً أو باطلاً.
ومِن هُنا فإنَّ المعالجةَ على مُستوى السلوكِ لابدَّ أن تسبقَها معالجةٌ على مُستوى القيم، والمعالجةُ على مُستوى القيمِ لابدَّ أن تسبقَها معالجةٌ على مُستوى النظامِ المعرفيّ والاعتقاديّ، فالإصلاحُ الجذريُّ هوَ الإصلاحُ الذي يعملُ على إعادةِ الوعي العقائديّ للإنسان، وقد كانَت هذهِ هيَ مُهمّةُ الأنبياءِ والرّسلِ عندَما دعوا الناسَ لتوحيدِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ معرفةَ اللهِ هيَ البدايةُ الطبيعيّةُ لإصلاحِ الإنسانِ والمُجتمعات، قالَ أميرُ المؤمنينَ (أَوَّلُ الدِّينِ مَعرِفَتُهُ)، وهكذا تمثّلُ معرفةُ اللهِ حجرَ الزاويةِ في الفكرِ الإسلاميّ وعليها يستندُ كلُّ البناءِ المعرفي الذي أرادَه الإسلامُ للإنسان.
وبذلكَ يمكنُنا أن نعتبرَ أنَّ المُستوى الأوّلَ والثاني يمثّلُ الثابتَ الذي لا يتحوّل.
بينَما يُمثّلُ المُستوى الثالثُ المُتعلّقُ بسلوكِ الإنسانِ حالةَ التحوّل؛ وذلكَ لأنَّ ثقافةَ الإنسانِ وإن استمدَّت وعيَها منَ القيمِ الثابتةِ إلّا أنّها متأثّرةٌ بالتحوّلِ على مُستوى الواقعِ الخارجي، ومِن هُنا يحدثُ الاختلافُ والتباينُ في وجهاتِ النظرِ بسببِ الاختلافِ في تشخيصِ موضوعاتِ الواقعِ الخارجيّ، ويعودُ التباينُ في التشخيصِ إمّا لقصرِ الأدواتِ الموصلةِ إلى الموضوعاتِ الخارجيّةِ وإمّا لتدخّلِ النفسِ بما فيها مِن أهواءٍ وشهوات، ومِن هُنا نبّهَ القرآنُ إلى ضرورةِ تزكيةِ النفسِ وتهذيبِها.
والنتيجةُ التي يمكنُ الخلوصُ إليها هيَ أنَّ موضوعاتِ سلوكِ الإنسانِ متحوّلةٌ بطبيعةِ التحوّلِ الزمانيّ والمكانيّ كما أنّها مُتأثّرةٌ بالظروفِ والعناوينِ الطارئةِ عليها، وبناءً على ذلكَ فإنَّ الثابتَ الوحيدَ بالنّسبةِ للإنسانِ المُسلم هوَ تلكَ القيمُ وما يقفُ خلفَها مِن رؤيةٍ عقائديّة.
أمّا ما يتعلّقُ بتطبيقِ القيمِ وإنزالِها على الموضوعاتِ الخارجيّة فهيَ منَ الأمورِ القابلةِ للتحوّلِ بسببِ الموضوعاتِ المُتحوّلةِ بطبعِها.
وهذا بخلافِ موضوعاتِ العباداتِ لكونِها موضوعاتٍ شرعيّةً وليسَت موضوعاتٍ ظرفيّة، فتظلُّ ثابتةً بثباتِ الاعتبارِ الشرعيّ لموضوعاتِها، فمثلاً موضوعُ الصلاةِ هوَ نفسُ هيئةِ الصلاةِ ووجوبُها مُعلّقٌ بتلكَ الهيئةِ لا بهيئةٍ أخرى، ومِن هُنا لا يمكنُ التصرّفُ فيها بالزيادةِ أو النقصانِ أو التبديل. ومعَ هذا لا يمنعُ مِن وجودِ أحكامٍ اشتملَت عليها الرواياتُ بعضُها ثابتٌ والبعضُ الآخرُ على نحوِ القضيّةِ الخارجيّة، وللتمييز بينَها اشتغلَ الفقهاءُ بالبحثِ عن القرائنِ اللفظيّةِ والحاليّةِ وهوَ بحثٌ مُفصّلٌ في كتبِ الأصولِ والفقه.
اترك تعليق