هل نهضة العالم العربي والإسلامي بترك الدين كما فعلت أوربا؟

يقولُ العلمانيّونَ أنَّ نهضةَ أوروبا ما كانَت لتتمَّ لولا تحجيمُ رجالِ الدين وإبعادُهم عن الحياةِ السياسيّةِ والمدنيّةِ وحصرِ الدينِ ضمنَ جدرانِ الكنيسة، ولكي تنهضَ الشعوبُ العربيّةُ والإسلاميّةُ عليهم القيامُ بما قامَ به الغرب.. خاصّةً ما نراهُ اليومَ مِن تكفيرٍ وإهراقٍ للدّماءِ واستغلالِ الدينِ لتأجيجِ المشاعرِ وزرعِ الكراهيةِ بينَ شعوبِ الوطنِ الواحد.

: الشيخ معتصم السيد احمد

التعليقُ:

ممّا لا شكَّ فيهِ أنَّ الأوصافَ التي سيقَت لوصفِ الدينِ في عصرِ النهضةِ الأوروبيّةِ تنسجمُ معَ الجوّ الثقافيّ الذي كانَ سائداً في تلكَ الفترة، حيثُ ظلّت الشعوبُ الغربيّةُ تعيشُ حالةً منَ الكبتِ والحجرِ على الحرّيّاتِ لأكثرَ مِن ألفِ عامٍ تقريباً، وكانَت تلكَ الشعوبُ مطحونةً بينَ رجالِ الكنيسةِ وفسادِهم مِن جانبٍ، وطغيانِ الملوكِ والحُكّامِ وجبروتِهم مِن جانبٍ آخر، ومِن هُنا فإنَّ كلَّ المُقارباتِ الدينيّة التي تمَّت في تلكَ الفترةِ بحاجةٍ إلى مراجعةٍ جديدة، لكونِها تمّت في ظروفٍ غيرِ علميّةٍ كما أنّها كانَت مُتأثّرةً بتصوّرٍ واحدٍ للدّين وهوَ الدينُ الكنسيّ الذي كانَ سائداً في تلكَ الفترة.

فكلُّ مَن يقفُ على الأرضيّةِ التي كانَ يقفُ عليها علماءُ النهضةِ الأوربيّة سيتبنّى نفسَ موقفِهم منَ الدين، فمُحاربةُ الكنيسةِ للعلمِ والعلماءِ ووقوفُها أمامَ عجلةِ النهضةِ والتطوّرِ يستوجبُ كلَّ الأوصافِ السلبيّةِ التي وصفَت بها الكنيسةُ، وفي المقابلِ مَن يقفُ على الأرضيّةِ التي كانَ يقفُ عليها رجالُ الكنيسةِ سيتبنّى نفسَ موقفِها المُعادي للعلمِ والعُلماء؛ وذلكَ لأنَّ حركةَ النهضةِ العلميّةِ أصبحَت خطراً حقيقيّاً على المكانةِ التاريخيّةِ للكنيسة، ومُهدّداً قويّاً لزعامتِها السياسيّةِ والاجتماعيّة، فمنَ المتوقّعِ أن تقفَ الكنيسةُ هذا الموقفَ الحازمَ اتّجاهَ أيّ مشروعٍ ينازعُها تلكَ المكانة.

وعليهِ فإنَّ الظرفَ الذي تولّدَ فيهِ هذا النزاع، كانَ ظرفاً خاصّاً تشهدُ فيه أوروبا ولادةً جديدة، وموقفُ الكنيسةِ الذي كانَ مُناهضاً لهذا المشروع، ولّدَ تيّاراً مُعارضاً لها في أوساطِ العلماءِ والمُفكّرين، فمنَ الطبيعيّ أن لا تكونَ مُقارباتُهم للدّينِ إيجابيّةً في ظلِّ تعنّتِ وتحجّرِ الكنيسة، ولذا كانَ مشروعُ النهضةِ هوَ زعزعةُ الثقةِ في رجالِ الكنيسةِ وفي الدّينِ بشكلٍ عام، فالفصلُ بينَ الدينِ الكنسيّ المُتحجّرِ وبينَ العلمِ والعقلِ يُمثّلُ الخطوةَ الضروريّةَ التي تعبّرُ عن تلكَ المرحلة.

ومنَ الخطأ التأسيسُ على ذلكَ لخلقِ المُقايسةِ بينَ مشروعِ النهضةِ الأوروبيّةِ والنهضةِ العربيّة مِن جهةٍ وبينَ موقفِ الكنيسةِ وموقفِ الإسلامِ مِن جهةٍ أخرى، فليسَ هناكَ مشروعُ نهضةٍ عربيّة حتّى يتمَّ مقايستُها بالنهضةِ الأوربيّة، وليسَ هناكَ سلطةٌ لرجالِ الدينِ الإسلاميّ كما كانَت لرجالِ الكنيسة، فاختلافُ الظرفِ واختلافُ الدّينِ يُحفّزُ العقلَ للقيامِ بمُقارباتٍ جديدة، ولا يكتفي بمُقارباتٍ سابقةٍ لها ظرفُها الثقافيّ والنفسيّ الخاص، ولذلكَ ليسَ منَ العقلِ في شيءٍ تعميمُ مُقارباتِ عصرِ النّهضةِ للدّينِ على كلِّ الأديان، ومِن هُنا يمكنُنا أن نُشيرَ إلى الخطأ الذي وقعَ فيهِ بعضُ العربِ والمُسلمينَ حينما أسقطوا تلكَ النتائجَ على الدينِ الإسلاميّ، حيثُ ما زالَ البعضُ يُفكّرُ بعقليّةِ عصرِ التنويرِ وصراعِه معَ الكنيسة، فبدلَ أن يعملَ على تأسيسِ خطابِه الخاصِّ الذي يرتكزُ على رؤيتِه الخاصّة، كرّسَ كلَّ جهدِه لمُحاربةِ الإسلامِ بحُجّةِ كونِه مُخالفاً للعلم، معَ أنَّ موقفَ الإسلامِ منَ العلمِ والعلماءِ ليسَ مُشابهاً لموقفِ الكنيسةِ لا في المبدأ ولا في الواقعِ العَملي.

فعصرُ الأنوارِ كانَ مُنعطفاً مهمّاً في التاريخِ الإنسانيّ بشكلٍ عام، لِما كانَ يحملهُ مِن مشروعٍ حضاريّ علميٍّ هدفهُ تحكيمُ العلمِ في قبالِ جهلِ الكنيسةِ في ذلكَ الوقت، أمّا التيّاراتُ المُعارضةُ للدّينِ في العالمِ العربيّ والإسلام لم نشهَد لها ذلكَ التوجّهَ العلميّ والنهضويّ الذي تمَّ معارضتُه منَ الإسلامِ ورجالِه، فلا مشروعَ عندَهم ولا معوّقَ يقفُ أمامَ مشروعهم.

وعليهِ فإنَّ مشروعَ النهضةِ الغربيّةِ ما كانَ سيعارضُ الكنيسةَ ويعاديها لو لم تعارضْهُ الكنيسةُ وتعاديه هيَ أوّلاً، وهذا ما ليسَ له وجودٌ في عالمِنا العربيّ والإسلاميّ حتّى يتمَّ تعميمُ التجربةِ عليه، فليسَ هناكَ رجالُ علمٍ ونهضة وليسَ هناكَ مَن يعارضُهم إن كانَ لهُم وجودٌ في العالمِ العربيّ والإسلاميّ، وقد بيّنّا في أجوبةٍ سابقةٍ تشجيعَ الإسلامِ للعلمِ ودعمِه للتقدّمِ والتطوّر في كلِّ المجالاتِ الحياتيّة.

أمّا قولهُ: (خاصّةً ما نراهُ اليومَ مِن تكفيرٍ وإهراقٍ للدّماء واستغلالِ الدينِ لتأجيجِ المشاعرِ وزرعِ الكراهيةِ بينَ شعوبِ الوطنِ الواحد)، فقد قُلنا في إجابةٍ سابقةٍ أنَّ السلوكيّاتِ المُتطرّفةَ والعدائيّةَ تُعبّرُ عن شخصيّةِ الإنسانِ المُتطرّفة، والدّينُ غيرُ مسؤولٍ عن السلوكِ الذي لم يأمُر به، حتّى لو تحوّلَ هذا السلوكُ لفعلٍ جماعيّ تحتَ مظلّةِ الدين، وبالتالي إن جازَ الدفاعُ عن الدينِ بوصفِه قيماً ساميّةً وأخلاقاً نبيلةً، لا يجوزُ الدفاعُ عن السلوكِ اللّاأخلاقي مهمَا تستّرَ بستارِ الدين، فالإسلامُ يؤسّسُ لاجتماعٍ إنسانيّ يقومُ على التعارفِ والتعاونِ والتكامل، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، ويقولُ: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ)، بل الإسلامُ ارتقى بالإنسانِ إلى مُستوىً حرّمَ عليهِ السخريةَ والعنصريّةَ والتنابزَ بالألقابِ ناهيكَ عن القتلِ والاعتداء، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسخَر قَومٌ مِّن قَومٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيرًا مِّنهُم وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيرًا مِّنهُنَّ ۖ وَلَا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلقَابِ ۖ بِئسَ الِاسمُ الفُسُوقُ بَعدَ الإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّم يَتُب فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وغير ذلكَ منَ التعليمات.