هل القرآن معجز بفصاحته فقط؟
يقولُ ابنُ الرّاوندي في إبطالِ عقيدةِ إعجازِ القُرآن ما يلي: "إنّه لا يمتنعُ أن تكونَ قبيلةٌ منَ العربِ أفصحُ منَ القبائلِ كلّها، وتكونُ عِدّةٌ مِن تلكَ القبيلةِ أفصحُ مِن تلكَ القبيلة، ويكونُ واحدٌ مِن تلكَ العِدّةِ أفصحُ مِن تلكَ العِدّة. وهَب أن باعَ فصاحتهِ طالَت العربَ، فما حُكمُه على العجمِ الذينَ لا يعرفونَ اللّسانَ [العربي]؟ وما حُجّتُه عليهم؟"
الجواب:
أوّلاً: كونُ القرآنِ مُعجزاً ليسَ شيئاً آخرَ غيرَ عجزِ البشرِ عن مُجاراتِه والإتيانِ بمثلِه، فعندَما نتحدّثُ عن إعجازِ القرآنِ إنّما نتحدّثُ عن استحالةِ الإتيانِ بمثلِه حتّى لو اجتمعَ الإنسُ والجنُّ لذلكَ الغرض، وقد حدّدَ القرآنُ نفسُه هذا المعنى بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ في قولِه تعالى: (قل لَئِن اجتمعَت الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتون) وقالَ تعالى: (أَم يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُل فَأتُوا بِعَشرِ سُوَرٍ مِثلِهِ مُفتَرَيَاتٍ وَادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، فما لم تتمكَّن البشريّةُ مِن ذلكَ يظلُّ القرآنُ هوَ الكتاب الذي يعجزُ الجميعُ عن الإتيانِ بمثلِه.
ثانياً: كلامُ ابنُ الراونديّ قائمٌ على حصرِ الإعجازِ في الفصاحةِ والبلاغةِ فقط، وهذا ما لا يمكنُ قبولهُ أو التسليمُ به، فالتحدّي الذي أطلقَه القرآنُ لا يمكنُ حملهُ على الإتيانِ بنصٍّ فصيحٍ مثله، كأن تكونَ آياتُ التحدّي بمعنى (بأنَّ هذا القرآنَ كتابٌ فصيحٌ فلتأتوا بنصٍّ فصيحٍ مثله)، إذ كيفَ يكونُ ذلكَ أمراً مُعجِزاً؟ فالنصوصُ الفصيحةُ عندَ العربِ كثيرةٌ ولا يمكنُ رفضُها بمُجرّدِ الادّعاءِ أنّها ليسَت بفصيحةٍ طالما هيَ كذلكَ بإجماعِ العرب، وعليهِ سيكونُ ذلكَ مدخلاً كبيراً للمُناقضةِ والمُعارضة، حيثُ يمكنُ لمُشركي قريش أن يدّعوا أنَّ نصوصَهم أفصحُ منَ القرآن، وليسَ هناكَ معيارٌ للترجيحِ سوى شهادتهم هُم بذلك، ولذلكَ نجدُ علماءَ المُعتزلةِ وبعضَ الشيعةِ مثلَ الشريفِ الرّضيّ فسّروا إعجازَ القرآنِ بالصّرفة، وهيَ أنَّ اللهَ صرفَهم عن مُجاراتِه، ففي نظرِ القائلينَ بالصّرفةِ إنَّ النصَّ الفصيحَ المُجرّدَ مِن أيّ اعتباراتٍ أخرى ممكنٌ الإتيانُ بمثلِه، ولا يعني ذلكَ أنّهم يُشكّكونَ في فصاحةِ القرآنِ وبلاغتِه وإنّما يُشكّكونَ في كونِه السّببَ الوحيدَ الموجبَ للإعجاز، وعليهِ فإنَّ القرآنَ بكلِّ ما فيه حجّةٌ على العربِ والعجمِ بحيثُ لا يمكنُهم الإتيانُ بمثلِه، وفي ذلكَ دلالةٌ واضحةٌ على أنّه ليسَ مِن صُنعِ البشر.
ثالثاً: شبهةُ ابنُ الروانديّ منَ الشُّبهِ القديمةِ التي حظيَت بالكثيرِ منَ الرّدودِ والمُناقشاتِ وبخاصّةٍ مِن مُتقدّمي المُعتزلةِ مثلَما جاءَ في كتابِ إعجازِ القرآنِ للباقلانيّ، وإذا أرَدنا أن ننقلَ تلكَ الرّدودَ لاحتاجَ الأمرُ إلى مقالٍ طويلٍ أو كتابٍ كامل، ولذا سنكتفي بأحدِ الرّدودِ المُعاصرةِ لزكي نجيب محمود في كتابِه المعقول واللامعقول في تراثِنا الفِكري لجهةِ كونِه قريباً منَ الردِّ الذي قدّمناه، حيثُ جاءَ فيه: "إنَّ الكلامَ ألفاظٌ مُقدّرةٌ على معانٍ مُلائمةٍ لها، والكلامُ كالجسد، والمعنى فيهِ روحٌ، ومعلومٌ أنَّ الأجسادَ – مِن حيثُ كونِها أجساداً – لا تتفاوتُ تفاوتاً كثيراً.. وليسَ كذلكَ التفاوتُ مِن جهةِ النفوسِ التي هيَ المعاني.. والكلامُ في القرآنِ هوَ بمثابةِ الجسد، ومعناهُ روحُه الذي كنّى اللهُ سبحانَه عنه بالحِكمة، فلم يذكُره في موضعٍ منَ الكتابِ إلّا قرنَهُ بالحِكمة، وقد أقررتَ – أيّها الخصم – بكونِه مُعجِزاً مِن حيثُ لفظِه للعربِ الذينَ هُم أهلُ اللسانِ، ثمَّ أردفتَهُ بقولِك: فما الحُجّةُ على العجمِ الذينَ ليسوا منَ اللسانِ في شيء؟ فنقولُ: إنَّ في معناه المُكنّى عنه بالحِكمةِ التي قدّمنا ذكرَها ما يقومُ به الحُجّة.."
اترك تعليق