المعرفة الفطرية

يقالُ أنَّ الإيمانَ بالفطرة.. يعني يولدُ الإنسانُ وهوَ مؤمنٌ بالله.. لكن لو رأينا مثلاً بعضَ القبائلِ البدائيّة في العالمِ تجدُهم يؤمنونَ إمّا بالأصنامِ أو بظواهرِ الطبيعةِ ولا يكادُ يلتفتونَ للهِ إلّا عن طريقِ الاكتسابِ مِن رجلِ دينٍ أو غيرِه...هل الفطرةُ تحتاجُ لدليلٍ أو للبحثِ عنها؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجوابُ:

حتّى يتّضحَ الجوابُ لابدَّ منَ التفريقِ بينَ الهدايةِ التكوينيّةِ والهدايةِ التشريعيّة.

وبمعنىً آخر: إنَّ هناكَ هدايةً فطريّةً يشتركُ فيها جميعُ البشر، وهناكَ هدايةٌ خاصّةٌ يختارُها الإنسانُ بمحضِ إرادتِه، فالبشرُ على نحوِ التكوينِ مُهتدونَ جميعاً كما قالَ تعالى: (وَهَدَينَاهُ النَّجدَينِ) وقوله: (إِنَّا هَدَينَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) وقوله: (وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا) وقوله: (رَبُّنَا الَّذِي أَعطى كُلَّ شَيء خَلقَهُ ثُمَّ هَدى)، وغيرُ ذلكَ منَ الآياتِ التي تكشفُ عن الهدايةِ التكوينيّة لكلِّ البشر.

وهذه الهدايةُ هي الفطرةُ التي فطرَ الناسَ عليها، قالَ تعالى: (فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها).

ثمَّ تأتي بعدَ ذلكَ مرحلةُ الهدايةِ التشريعيّة عن طريقِ الأنبياءِ والرّسل، ومِن هُنا فإنَّ رسالاتِ الله هيَ التي تتكفّلُ ببيانِ ما يجبُ أن يكونَ عليه المُهتدي مِن أعمالٍ وأحكام، قالَ تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلاَمِ) فالإسلامُ هوَ نوعٌ منَ الهدايةِ التشريعيّة التي يتمُّ اكتسابُها عبرَ اتّباعِ النبيّ (ص) والتصديقِ بما جاءَ به مِن ربّه.

ويتّضحُ مِن ذلكَ أنَّ الهدايةَ التشريعيّة لا سبيلَ إليها غيرَ الرّسل ولذا قالَ تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولا).

وإذا جازَ لنا القولُ فإنَّ المعرفةَ الفطريّة تمثّلُ الأرضيّةَ التي تقومُ عليها تعاليمُ الأنبياءِ والرّسل، ولولا ذلكَ لاستحالَ على البشرِ معرفةُ الله أو اتّباعُ الرّسل، ففي الحديثِ قال: سألتُ أبا جعفرٍ (عليهِ السلام) عن قولِ الله عزَّ وجل: (فِطرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها) قالَ: فطرَهم على معرفةِ أنّه ربّهم، ولولا ذلكَ لم يعلموا إذا سُئلوا مَن ربّهم ولا مَن رازقُهم).

فمعَ كونِ المعرفةِ ثابتةً في واقعِ الفطرة، إلّا أنّها محجوبةٌ بحجبِ الغفلةِ والهوى، فلا تستقيمُ إلّا بالتنبيهِ والتذكير، فاللهُ صبغَ العبادَ بصبغتِه وفطرَهم على معرفتِه، فصاروا عارفينَ به عرفاناً بسيطاً، لا يعرفونَ أنّهم يعرفون، فلا يستغنونَ عن تذكرةِ المُذكّرين وتنبيهِ العارفين.

وبسببِ تلكَ الفطرة تأصّلَ الدينُ في العُنصرِ البشري، فلم يكُن الدينُ مُجرّدَ حالةٍ طارئةٍ أو ظاهرةٍ عابرة، وإنّما هوَ الحقيقةُ التي وجدَت معَ الإنسانِ وتستمرُّ بوجودِه أيضاً.

وهُنا لابدَّ أن نُفرّقَ بينَ الدينِ كمظهرٍ اجتماعيّ وبينَ المُبرّرِ الوجوديّ للدّين.

فالأوّلُ: له علاقةٌ بالشعائرِ الدينيّة والطقوسِ العباديّة، والثاني: له علاقةٌ بالدّافع الفطريّ الذي يحرّكُ الإنسانَ داخليّاً نحوَ المعبود.

واشتراكُ البشرِ في ذلكَ الإحساسِ الفِطريّ لا يعني بالضرورةِ اشتراكَهم في المظهرِ العِبادي والسلوكي؛ وذلكَ لأنَّ السلوكَ الإنسانيّ لا يتأثّرُ بالجانبِ الغريزيّ والفطريّ فحسب وإنّما يتأثّرُ بالعواملِ الخارجيّة بشكلٍ أكبر، فكلُّ إنسانٍ قد يُعبّرُ عن إحساسِه الداخليّ بشكلٍ مُختلفٍ عن الآخر حتّى وإن اشتركوا في ذلكَ الإحساس، ومِن هُنا فإنَّ الإحساسَ الفِطريّ الذي يجذبُ الإنسانَ نحوَ حقيقةٍ مُتعالية وإن كانَ واحداً عندَ الجميع إلّا أنّه لا يضمنُ مظهراً دينيّاً واحداً للجميع.

وبذلكَ نكتشفُ حجمَ الخطأ الذي يعملُ على نفي الحقيقةِ الفطريّة بسببِ وجودِ أديانٍ مُختلفةٍ بينَ البشر، بينَما الصحيحُ هوَ أنَّ وجودَ أديانٍ وإن كانَت مُختلفةً يدلُّ على وجودِ فطرةٍ حرّكَت الجميعَ نحوَ البحثِ عن الدين، وبذلكَ يمكنُ فهمُ قولِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): (ما مِن مولودٍ إلّا يولدُ على الفطرة، فأبواه يهوّدانِه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)، ففي الحديثِ إشارةٌ واضحةٌ إلى مدى تأثيرِ البيئةِ الاجتماعيّة على الفطرة، وبمعنىً آخر فإنَّ الإنسانَ بفطرتِه مُنجذبٌ إلى الحقِّ وإلى اللهِ تعالى إلّا أنَّ البيئةَ الاجتماعيّة هيَ التي تُحدّدُ له الشكلَ الذي يعبّرُ فيه عن حاجتِه الفطريّة.

وما نقصدُه بالإحساسِ الداخليّ ليسَ مُجرّدَ شعورٍ نفسي، وإنّما إحساسٌ وجوديّ يعبّرُ عن عُمقِ الحاجةِ الوجوديّةِ لدى الإنسان، فشعورُ الإنسانِ بوجودِه ليسَ شعوراً حقيقيّاً طالما لم يوجِد نفسَه ولا يملكُ لها البقاء، ومِن هُنا فإنَّ الإنسانَ في حالةٍ منَ الإحساسِ الدائمِ بحاجتِه لذلكَ المُوجدِ المالكِ لوجودِه، فمهما بلغَ الإنسانُ منَ الغرورِ لا يمكنُه الشعورُ أنّه أوجدَ نفسَه، أو أنّه مُمسكٌ بزمامِ وجودِه، فالفقرُ الذي يلازمُه، والحاجةُ التي ترهقُه، تجعلهُ مديناً في أصلِ وجودِه لمَن أوجدَه، بل حتّى كمالاتُه الوجوديّة مثلَ امتلاكِه للقُدرةِ، والعلمِ، والإرادةِ، والسمعِ، والبصر، وغيرها منَ الكمالات، والتي قد تكونُ سبباً في اعتدادِ الإنسانِ بذاتِه وفخرِه بنفسِه، هيَ ذاتُها وبالتأمّلِ فيها تجعلُ الإنسانَ في حالةٍ منَ العشقِ الأبديّ والامتنانِ السّرمدي لمَن أوجدَها فيه.

وفي المُحصّلة: إنَّ الدينَ حقيقةٌ أصيلةٌ مِن خلالِ الجذبِ الدّاخلي نحوَ المُقدّس، والتديّنُ هوَ سعيٌ إنسانيّ نحوَ ذلكَ المُقدّس، فكلُّ أشكالِ التديّنِ هيَ تعبيرٌ عن هذا الإحساسِ الباطنيّ المُشترك بينَ الجميع، فالتباينُ على مستوى الشعائرِ والسلوك، لا يعني التباينَ في أصلِ الإحساسِ بالمُقدّس والتوقَ إليه، فالإنسانُ وإن كانَ يتمتّعُ بخصوصيّةٍ فرديّةٍ إلّا أنّه غيرُ موجودٍ في الفراغ، وإنّما هوَ طبيعةٌ مُتفاعلةٌ مع المُحيط الذي وجدَ فيه، ومِن هُنا فإنَّ بعثَ الأنبياءِ والرّسل يمثّلُ ضرورةً حتميّةً لهدايةِ الناسِ إلى دينِ الحق، فلو لم يتدخّل الخالقُ لهدايةِ الناسِ لدينِه فإنَّ الناسَ ستجدُ نفسَها مُضطرّةً لتختارَ لنفسِها أدياناً.