هل الله خارج الكون؟
سؤال: هل يمكن اعتبارُ أنّ الإله خارج الكون فقط أم أنه خارج الزمان والمكان تماماً؟ وكيف يكون للشيء أن يكون في لا مكان ولا زمان؟
الجواب:
أولاً: كلّ ما هو كائن دون الله تعالى فهو مخلوق مربوب، وكلّ ما يتصوّرُ في حقّ المخلوق لا يمكن تصوّرهُ في حقّ الخالق، والسبب في ذلك أنّ الوجود إمّا أن يكون عين الذات وإمّا أن يكون مستمداً من الغير، وبحسب تعبير الفلاسفة إمّا أن يكون الوجود واجباً وإمّا أن يكون ممكناً، والزمان والمكان والكيف والجهة وغير ذلك من المقولات تعدّ لوازمَ للوجود الممكن.
وعليه: لا يصحّ السؤالُ عن مكان الله إلا بعد افتراض كونه تعالى ممكنَ الوجود، وهذا خلاف كونه واجباً للوجود، فلو كان ممكناً لوجب علينا البحث من جديد عن الواجب الذي منح الموجودات وجودها، ومتى ما توصلنا له واعترفنا بكونه واجباً لابد حينها أن نعترفَ أيضاً بأنه خارج عن الزمان والمكان والكيف والجهة؛ وذلك لأنّ هذه الأوصاف خاصة بالممكن ولا تجري على الواجب، وبحسب تعبير أمير المؤمنين عليه السلام: "أيّن الأين فلا أين له، وكيّف الكيف فلا كيف له". وقوله (عليه السلام): "ومتى لم يكن؟ حتى يقال: متى كان! كان ربي قبل القبل بلا قبل وبعد البعد بلا بعد، ولا غاية ولا منتهى لغايته، انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية"
وفي الكافي سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر عليه السلام فقال: "أخبرني عن الله متى كان؟ فقال: متى لم يكن حتى أخبرك متى كان؟ سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولدا".
وقد أشار الإمام بذلك إلى أن هذا السؤال يصحّ في حق الشيء الذي لم يكن ثم كان، ولا يصحّ في حق الموجود الأزلي الذي لم يكن مسبوقاً بعدم.
وفي الكافي أيضاً عن أبي بصير قال: جاء رجل إلى أبي جعفر عليه السلام فقال له: "أخبرني عن ربك متى كان؟ فقال: ويلك إنما يقال لشيء لم يكن: متى كان. إنّ ربي تبارك وتعالى كان ولم يزل حياً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كون، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع لمكانه مكاناً، ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء ولا كان ضعيفاً قبل أن يكوّن شيئاً، ولا كان مستوحشاً قبل أن يبتدع شيئاً، ولا يشبه شيئاً مذكوراً، ولا كان خلواً من الملك قبل إنشائه، ولا يكون منه خلواً بعد ذهابه، لم يزل حياً بلا حياة، وملكاً قادراً قبل أن ينشئ شيئاً، وملكاً جباراً بعد إنشائهِ للكون، فليس لكونه كيفٌ ولا له أين ولا له حدٌّ ولا يعرف بشيء يشبهه، ولا يهرم لطول البقاء، ولا يصعق لشيء، بل لخوفه تُصعق الأشياء كلها، كان حياً بلا حياة حادثة، ولا كون موصوف، ولا كيف محدود، ولا أين موقوف عليه، ولا مكان جاور شيئاً، بل حيٌّ يُعرف وملك لم يزل له القدرة والملك أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته، لا يُحدّ ولا يُبعض ولا يفنى، كان أولاً بلا كيف ويكون آخراً بلا أين وكلّ شيء هالك إلا وجهه، له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين، ويلك أيها السائل إنّ ربي لا تغشاه الأوهام ولا تنزل به الشبهات ولا يحار، ولا يجاوزه شيء ولا ينزل به الأحداث ولا يسأل عن شيء ولا يندم على شيء، ولا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى"
ثانياً: إذا قلنا بمكان لله فقد حدّدناه حتماً، وهذا خلاف كونه خالقاً لكلّ شيء، إذ كيف يكون واجباً للوجود وفي نفس الوقت هناك حدٌّ لوجوده؟ والمؤكّدُ أنّ المحدود مقيدٌ في وجوده بالضرورة؛ وذلك لأنّ وجوده لا يستقيم إلا بذلك الحد، وعندها ينتقل الكلام إلى ذلك الحد، لنسأل: هل هذا الحدّ واجب أم ممكن؟ فإن كان ممكناً فإنّ الممكن لا يمكن أن يكون حداً للواجب، وإن كان واجباً كيف يكون هذا الحد واجباً وهو محدودٌ أيضاً بالواجب الأول.
فثبت أنّ وجود الله ليس له نهاية وليس له حدٌ يحده، وحينها يمتنع السؤال عن الأين والمكان والجهة.
ويبدو أنّ هذا هو الاشتباه الذي وقع فيه صاحب السؤال حيث تصوّرَ وجود الله كما يتصوّرُ وجود الممكنات والمخلوقات، فإذا انتفت المقايسة والمشابهة بين الخالق والمخلوق تنتفي معها كلّ الأسئلة التي تصحّ في حقّ الممكن والمخلوق.
ثالثاً: القول بأنّ الله خارج عن المكان والزمان يستدعي القول بأنّ الله غير موجود!! لاستحالة تصوّر معنى له، فمادام غير موجود في أجزاء العالم المكانيّة وغير موجود خارجها فهو معدوم؟!! أو كما عبّر صاحب السؤال بقوله: (وكيف يكون للشيء أن يكون في لا مكان ولا زمان؟).
والمؤكد أنّ هذا النوع من التفكير ما زال يتحركُ في دائرة الممكن؛ وذلك لأنّ الموجود الممكن هو الذي لا يمكن تصوره خارج حدود الزمان والمكان، وإذا كان ذلك مستحيلاً في حقّ الممكن، فمن المستحيل أيضاً تصوّر الواجب داخل دائرة الزمان والمكان، فالله المقيد بالزمان والمكان لا يمكن أن نتصوّرَ له وجوداً، فكلّ موجود وقع وجوده في حدود الزمان والمكان يكون جوده ممكناً بالضرورة، وهذا خلاف إيماننا بكونه واجباً.
وعليه؛ إذا نفينا مكانه سبحانه وتعالى فسوف نقول بعدميّة وجوده المقيّد بالزمان والمكان، فالله المقيّد بالزمان والمكان غير موجود، وهذا غير عدمية وجوده المطلق؛ لأنّ نفي المقيّد لا يساوي نفي المطلق بالضرورة.
وإذا قلنا بأنّ الزمان والمكان مقولتان ذهنيتان يستخدمها الذهن لتصوّر الموجودات، يجب علينا أن نقول أيضاً يستحيل على الذهن تصوّر الله تعالى لكونه خارجاً عن حدود الزمان والمكان، والمفارقة التي لم يلتفت إليها السائل هي أنّ الله تعالى يستحيل تصوره، بل كلّ متصور هو دون الله تعالى.
فعن الإمام الباقر عليه السلام يقول: " كلما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم"، فالله الذي نؤمن به خارج حدود التصور والتوهّم وكلّ من يحاول تصوّر الله بصورة، أو يتوهّم وجوده بمكان وزمان فهو في الحقيقة يتصوّر المخلوق ولا يتصوّر الخالق، فمن عبد الله من واقع تلك الصور والمفاهيم فقد عبد غير الله بالضرورة.
وعليه: فإنّ الأمر بالتدبر في آيات الكون لا يفهم على أنه أمرٌ بالتفكر في ذات الله أو أنّ التفكر هو الذي يحقق معرفةً لم تكن موجودة من قبل في الفطرة، فآياتُ الكون ليست مُعرِّفاتٍ وكاشفاتٍ عن حقيقة مجهولة، وإنما هي بمثابة منبّهٍ ومذكر بتلك المعرفة التي فطر الله العباد عليها، وهي مقام تعريف الله تعالى نفسه للعباد، فعندما يتأمّلُ الإنسان في مظاهر الخلق، يستنطقُ فطرته التي حجبتها الغفلة، فيرى اللهَ ظاهراً بذاته ومُعرِّفاً عن نفسه، كما يجد الإنسانُ تلك المعرفة واضحةً عند الشدائد والمحن، فحينئذ تنقشع كلّ تلك الحجب ليرى الإنسان ربه.
ومن هنا كان دور العقل في معرفة الله هو الإقرار والإيمان والتصديق، بما عرَف من الحقّ المبين، وهي فريضة ذاتية يستقلّ بها العقل الضروري، وهو ملاك التكليف؛ لأنه بها تتم حجة الله على العباد، ويتحققُ الثواب والعقاب، فإذا امتثل الإنسان إلى أوامر الله، واجتنبَ وساوس الشيطان، يفتح الله له أبوابَ رحمته ويزيده في معرفته، أمّا الكافر الجاحد فيطبع الله على قلبه، ويخذله ويوكله إلى نفسه.
رابعاً: علاقة الله الخالق بالعالم المخلوق ليست كعلاقة شيء بشيء آخر، وإنما هي علاقة قائمة على تعلق المخلوق بالخالق، وإحاطة الخالق بالمخلوق، أي أنّ وجود المخلوق لا يمكن تصوره إلا في حال تعلقه بالخالق، ومن الواضح أنّ إحساس الإنسان بوجوده إحساسٌ فطري غير متوقف على التفكير، واللحظة التي يلتفت فيها الإنسان إلى كونه موجوداً هي ذاتها اللحظة التي يلتفت فيها إلى أنه حقيقة عارضة على الوجود وليست أصيلة فيه، الأمرُ الذي يجعل الاعتراف بالله هو بداية اعتراف الإنسان بنفسه وكيانه، وبذلك نفهم قول الإمام الصادق عليه السلام في رواية طويلة جاء فيها: "..تعرفه وتعلم علمه، وتعرف نفسك به، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم ما فيه له وبه".
فاعتراف الإنسان بكونه مخلوقاً هو اعتراف بخالقه وإنكار ذلك إنكار لحقيقته، يقول تعالى: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا). والإنسان غيرُ الملتفت إلى هذه الحقيقة لا يحتاج إلى أكثر من التذكير والتنبيه، كما هو الحال في لحظات الخوف والهلع حيث يعرف الإنسانُ حقيقته القائمة بالله، فبسقوط حجب الجهل والغفلة لا يرى الإنسان سوى ربه، ففي لحظة الشدة والضيق يتجلى الله في قلوب المضطرين، يقول تعالى: (إِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)، ويقول: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا)، ويقول: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
اترك تعليق