عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رض)

سؤال: هل عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولّاه على مصر – المنقول في نهج البلاغة - معتبر؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إنّ عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك بن الحارث الأشتر النخعيّ (رضوان الله عليه) حين ولّاه مصر، من أطول العهود التي كتبها (عليه السلام)، وأجمعها لمحاسن الآداب والسياسة، وهو معروف مشهور عند المسلمين، نقله علماء الشيعة وعلماء السنّة، بطرق عديدة، وبعضها معتبر، ومتنه أصدق شاهد على صحّته، وقد تلقاه الأصحاب القبول خلفاً عن سلف، واستدلّوا بفقرات منه في بعض المسائل الفقهيّة..

وسنتكلّم في المقام – بشكل مختصر – في مصادره وأسانيده وشروحه واعتباره:

أولاً: مصادر العهد:

نقل هذا العهد بتمامه أو مقاطع منه جمعٌ من علماء الشيعة والسنّة، نذكر منهم:

1ـ ابن شعبة الحرّاني – وهو من أعلام القرن الرابع الهجريّ –، في كتابه تحف العقول ص126.

2ـ القاضي نعمان المغربيّ – المتوفى سنة 363هـ -، في كتابه دعائم الإسلام ج1 ص350.

3ـ الشريف الرضي – المتوفى سنة 404هـ -، في كتابه نهج البلاغة ج3 ص82.

4ـ جار الله الزمخشريّ – المتوفى سنة 537هـ -، في كتابه ربيع الأبرار ج5 ص189.

5ـ ابن حمدون - المتوفى سنة 562 هـ -، في كتابه التذكرة الحمدونية ج1 ص315.

6ـ ورام بن أبي فراس المالكي الأشتري – المتوفى سنة 605هـ، وهو من ذرية مالك الاشتر -، في كتابه تنبيه الخواطر ج1 ص71.

7ـ شهاب الدين النويريّ – المتوفى سنة 732هـ - في كتابه نهاية الأرب في فنون الأدب ج6 ص19.

8ـ أحمد بن علي القلقشنديّ – المتوفى سنة 821هـ - في كتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشا ج10 ص9، وكتابه مآثر الإناقة في معالم الخلافة ج3 ص6.

وغيرهم كثيرون، وجملة من هؤلاء ليسوا من علماء الشيعة.

إذن: لم ينفرد الشريف الرضي (أعلى الله مقامه) بنقل هذا العهد العلويّ المبارك؛ إذ نقله غيره من العلماء، بل نقله مَن سبق الرضيّ كابن شعبة الحرانيّ والقاضي المغربيّ.

ثانياً: طرق العهد وأسانيده:

عثرنا – حسب استقرائنا – على رواية أربعة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لهذا العهد، وهم: عبد الله بن جعفر الطيّار، والأصبغ بن نباتة المجاشعيّ، وصعصعة بن صوحان العبديّ، ومهاجر بن شماس العامريّ.. وربّما تنكشف طرق أخرى مع مزيد من البحث والفحص.

الطريق الأوّل: عبد الله بن جعفر الطيّار عن أمير المؤمنين (عليه السلام):

قال الشيخ المفيد في [الاختصاص ص79-80]: (حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد العلويّ المحمّديّ وأحمد بن عليّ بن الحسين بن زنجويه جميعاً قالا: حدّثنا أبو القاسم حمزة بن القاسم العلويّ، قال: حدّثنا بكر بن عبد الله ابن حبيب، عن سمرة بن عليّ، عن أبي معاوية الضرير، عن مجالد، عن الشعبيّ، قال: حدّثنا عبد الله بن جعفر ذو الجناحين، قال: « لمّا جاء عليَّ بن أبي طالب - صلوات الله عليه - مصابُ محمّد بن أبي بكر حيث قتله معاوية بن خديج السكونيّ بمصر، جزع عليه جزعاً شديداً، وقال: ما أحلق مصر أن يذهب آخر الدهر فلوددت أنّي وجدت رجلاً يصلح لها فوجّهته إليها، فقلت: تجد، فقال: مَن؟ فقلت: الأشتر، قال: ادعه لي، فدعوتُه، فكتب له عهدَه، وكتب معه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عليّ بن أبي طالب إلى الملأ من المسلمين... إلى آخره).

الطريق الثاني: الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام):

قال الشيخ الطوسيّ في [الفهرست ص85 ت119]:

(الأصبغ بن نباتة – رحمه الله -: كان الأصبغ من خاصّة أمير المؤمنين – عليه السلام – وعمَّر بعده. روى عهد مالك الأشتر الذي عهده إليه أمير المؤمنين – عليه السلام – لمّا ولّاه مصر)، ثمّ قال: (أخبرنا بالعهد ابنُ أبي جيد، عن محمّد بن الحسن، عن الحميريّ، عن هارون بن مسلم والحسن بن طريف جميعاً، عن الحسين بن علوان الكلبيّ، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين – عليه السلام -).

وقال الشيخ النجاشيّ في [فهرست أسماء مصنّفي الشيعة ص8 ت5]:

(الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ: كان من خاصّة أمير المؤمنين - عليه السلام -، وعمّرَ بعده. روى عنه عهد الأشتر ووصيّته إلى محمّد ابنه. أخبرنا ابن الجندي، عن أبي علي ابن همام، عن الحميريّ، عن هارون بن مسلم، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بالعهد).

وهذا الطريق معتبر، رجاله ثقات، نصّ على ذلك جمعٌ من الأعلام: كالسيّد الخوئيّ والميرزا التبريزيّ والشيخ المنتظريّ وغيرهم كما سيأتي.

الطريق الثالث: صعصعة بن صوحان عن أمير المؤمنين (عليه السلام):

قال الشيخ النجاشيّ في [فهرست أسماء مصنّفي الشيعة ص203 ت542]:

(صعصعة بن صوحان العبديّ: روى عهد مالك بن الحارث الأشتر. قال ابن نوح: حدّثنا عليّ بن الحسين بن شقير الهمدانيّ، قال: حدّثنا عليّ بن أحمد بن عليّ بن حاتم التميميّ، قال: حدّثنا عبّاد بن يعقوب، قال: حدّثنا عمرو بن ثابت، عن جابر، قال: سمعت الشعبي ذكر ذلك عن صعصعة، قال: لمّا بعث عليّ - عليه السلام - مالكاً الأشتر، كتب إليهم: « من عبد الله أمير المؤمنين... إلى آخره »).

الطريق الرابع: مهاجر العامريّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام):

قال ابن عساكر في [تاريخ دمشق ج42 ص515-516]: (أخبرنا أبو القاسم العلويّ، أنا رشأ بن نظيف، نا الحسن بن إسماعيل، أنا أحمد بن مروان، نا محمّد بن غالب، نا أبو حذيفة، عن سفيان الثوريّ، عن زيد الياميّ، عن مهاجر العامريّ، قال: كتب عليّ بن أبي طالب عهداً لبعض أصحابه على بلد، فيه: « أمّا بعد، فلا تطولن حجابك على رعيّتك... »)، ونقل مقطعاً من عهده (عليه السلام) للأشتر، ونصّ المحقّق في الهامش أنّه من عهد الأشتر.

ونقله أيضاً ابن كثير في [البداية والنهاية ج8 ص9] عن سفيان الثوريّ بطريقه، والمتقي الهنديّ في [كنز العمال ج13 ص185] عن الدينوريّ وابن عساكر.

إذن: هذا العهد وإنْ نُقل مرفوعاً في كتاب نهج البلاغة – كغيره من منقولات النهج -، لكن له أسانيد نُقلت في كتب أخرى.

وقد كتب غير واحد من الأعلام رسائل وأبحاث في بيان ودراسة سند العهد العلويّ للأشتر، نذكر منهم:

1ـ العلّامة السيّد هبة الدين الشهرستانيّ، له رسالة في بيان عهد الإمام (عليه السلام) للأشتر وشرح متنه، ذكره العلّامة الطهرانيّ في [الذريعة ج15 ص363].

2ـ المرجع الشيخ المنتظري، له بحث حول سند عهد الأشتر في آخر كتابه: دراسات في ولاية الفقيه ج4 ص303.

3ـ العلّامة السيّد جعفر مرتضى العامليّ، له مقال في صحّة سند عهد الأشتر، منشور على موقعه الرسميّ.

4ـ المرجع السيّد كاظم الحائريّ، له بحث حول سند عهد الأشتر ضمن كتابه: القضاء في الفقه الإسلاميّ ص51.

ثالثاً: الأعمال العلميّة على العهد:

لقد اهتم العلماء كثيراً بهذا العهد المبارك، ولهم عليها أعمال كثيرة؛ ترجمةً، ونظماً، وشرحاً، ودراسةً، ولا يمكن حصرها واستقصاءها لكثرتها وتشتتها. ذكر جملةً منها العلّامةُ الطهرانيّ في [الذريعة ج4 ص118، ج13 ص373، ج14 ص144]، والسيد هبة الدين الشهرستانيّ في مقدّمة [الراعي والرعية ص10]، والسيد محمد حسين الجلاليّ في [دراسة حول نهج البلاغة ص156]، والسيد عبد الزهراء الخطيب في [مصادر نهج البلاغة ج3 ص415]، وغيرهم.

وقبل أن نذكر بعض تلك الأعمال، نشير إلى أنّ عامّة شرّاح (نهج البلاغة) من الفريقين، تعرّضوا لبيان هذا العهد، كلّ حسب طريقته في الشرح، ولو انتُزع ما كتبوه من تلك الشروح لكانت عدّة مجلّدات، وهاك بعض الأعمال:

1ـ التحفة السلطانيّة، في ترجمة عهد مالك الأشتر بالفارسيّة، للسيد ماجد بن محمد الحسينيّ البحرانيّ (ت بعد 1097هـ)، ألفه باسم شاه سليمان الصفويّ، الذي مات سنة 1106هـ، وقد طبع بإيران سنة 1301هـ. ذكره الطهرانيّ في [الذريعة ج3 ص441].

2ـ شرح عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، للعلامة المجلسيّ (ت1111هـ). ذكره الطهراني في [الذريعة ج13 ص373].

3ـ تحفة الولي، في شرح وترجمة عهد مالك الأشتر، للمولى محمد حسين بن أحمد اليزديّ، ألّفه بالمشهد الرضويّ سنة 1227هـ بأمر واليها شاهزاده محمد ولي ميرزا. رآه الطهرانيّ بكربلاء، وذكره في [الذريعة ج3 ص480].

4ـ شرح عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، للمولى محمد باقر بن محمد صالح القزوينيّ، رآه العلّامة الطهرانيّ بطهران وذكره في [الذريعة ج13 ص374].

5ـ آداب الملوك، بالفارسية في شرح العهد للأشتر، للسيّد رفيع الدين بن الميرزا علي أصغر الطباطبائيّ التبريزيّ (ت1326هـ)، وطبع الكتاب سنة 1320هـ. ذكره العلّامة الطهرانيّ في [الذريعة ج1 ص29].

6ـ شرح عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، للسيد حسن بن علي القزوينيّ (ت1358هـ)، وهو الجزء الثاني من كتابه تاريخ مصر قديماً. ذكره العلامة الطهراني في [الذريعة ج13 ص374].

7ـ شرح عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، للشيخ هادي بن محمد حسين القائينيّ البيرجنديّ، فارسي، ألّفه سنة 1333 هـ، وطبع مع ترجمته الأدب الكبير لابن المقفع في سنة 1315 هـ ش. ذكره السيّد الشهرستانيّ في مقدّمة [الراعي والرعيّة ص11].

8ـ السياسة العلويّة، في شرح عهد مالك الأشتر، للعلّامة الشيخ عبد الواحد المظفّر. ذكره العلامة الطهرانيّ في [الذريعة ج2 ص272].

9ـ شرح عهد الأشتر، للعلّامة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين، طبع غير مرّة في بيروت.

10ـ الراعي والرعية، للمحامي توفيق الفكيكي، يمتاز عن غيره من شروح العهد بكثير من النواحي، أهمّها تطبيقه تلك القواعد على نظم العصر الحاضر من القوانين الحديثة، وقد طبع أكثر من مرّة.

رابعاً: اعتبار العهد عند العلماء:

ذكر العلماء العديد من الوجوه في بيان اعتبار عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر:

الوجه الأوّل: صحّة إسناد العهد:

تقدّم ذكر أربعة طرق لهذا العهد الشريف، والطريق الثاني منها هو رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا الطريق – عند الشيخين الطوسيّ والنجاشي – معتبرٌ، صرّح بذلك جماعة من أكابر الأعلام، ولا يسع المجال بيان حال رجال إسناده، ونكتفي بذكر تصريح بعض العلماء:

1ـ المرجع السيّد أبو القاسم الخوئيّ: فإنّه صرّح باعتبار الإسناد في غير واحدٍ من كتبه وأبحاثه، قال في [مباني تكملة المنهاج ج1 ص5]: (وطريقُ الشيخ إلى عهده – عليه السلام – إلى مالك الأشتر معتبرٌ). وقال في ترجمة الأصبغ بن نباتة في [معجم رجال الحديث ج4 ص134]: (وطريق الشيخ بالنسبة إلى عهد مالك الأشتر صحيحٌ). وجاء في تقرير الشيخ الجواهريّ لبحثه الشريف في [القضاء ج1 ص20]: (ويدلّنا على ما ذكرنا أيضاً: ما كتبه أمير المؤمنين – عليه السلام – من عهده لمالك الأشتر، والطريق صحيح..).

2ـ المرجع الميرزا جواد التبريزيّ: فإنّه صرّح بكون الإسناد معتبراً في أكثر من موضع، قال في [دروس في مسائل علم الأصول ج6 ص427]: (وأمّا ما في العهد المعروف إلى مالك الأشتر... فهو وإن كان معتبراً من حيث السند حيث إنّ الشيخ - قدس سره - ذكر له طريقاً معتبراً). وقال – في جواب سؤال عن إسناد العهد، كما في [صراط النجاة ج1 ص553] -: (سنده معتبر، فإنّ طريق الشيخ – رحمه الله – إليه صحيح، والله العالم). وقال – في ضمن جوابه عن سؤال حول موثوقيّة نهج البلاغة، كما في [صراط النجاة ج6 ص396]: (كتاب نهج البلاغة بخطبة وغيرها من كلمات الإمام - عليه السّلام -، صدوره من الإمام - عليه السّلام - معلومٌ إجمالاً، وبعضُ ما ورد فيه من الخطب موجودةٌ في كتب قبل تأليف الشريف الرضيّ، وبعض الخطب مرويّ بطريق صحيح؛ مثل عهده - عليه السّلام - لمالك الأشتر - رضي الله عنه -، وقد أُلّفت كتب متعدّدة مرتبطة بهذا الكتاب، يمكنكم مراجعتها).

3ـ المرجع الشيخ المنتظريّ: كتب بحثاً حول إسناد العهد في [دراسات في ولاية الفقيه ج4 ص303ـ305]، وقال في محصّلتها – بعد دراسة سندي الطوسيّ والنجاشيّ -: (فالظاهر أنّ السند لا بأس به).

الوجه الثاني: استفاضة طرق العهد واشتهاره:

إنّ هذا العهد الشريف مشهور عند المسلمين، نقله علماء الإماميّة والإسماعيلية والزيدية والسنّة، ورواه أربعة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) – كما تقدّم -، فهو مشهور عند المسلمين، ومستفيض الطرق، ويمكن تحصيل الوثوق بصدوره بانضمامها لبعضها البعض.

وقد صرّح غير واحد من الأعلام باشتهاره ومعروفيّته، نذكر منهم:

1ـ الفقيه الميرزا محمّد حسن الآشتيانيّ: فإنّه قال في [كتاب القضاء ص26]: (في المكاتبة المشهورة من أمير المؤمنين – عليه السلام – إلى الأشتر...).

2ـ المرجع السيّد روح االله الخمينيّ: فقد صرّح في [كتاب البيع ج3 ص604] باشتهاره.

3ـ المرجع الميرزا جواد التبريزيّ: فإنّه يعبّر عنه بـ(العهد المعروف) في مواضع كثيرة، منها: ما جاء في [أسس القضاء والشهادة ص42]: (وقد ورد في العهد المعروف إلى مالك الأشتر...).

4ـ المرجع الشيخ المنتظري: فقد صرّح باشتهار العهد في [دراسات في ولاية الفقيه ج4 ص305].

الوجه الثالث: دلالة متنه على صدوره:

إنّ متن هذا العهد الشريف خير شاهد على صدوره عن معدن الحكمة والعصمة، وقد صرّح الكثير من العلماء بانبهارهم به، وهذه بعض كلمات المخالفين:

قال ابن أبي الحديد المعتزليّ في [شرح نهج البلاغة ج17 ص118] – بعد شرحه العهد الشريف -: (وينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب أوصوا بها أولادهم ورهطهم ، فيها آداب حسان ، وكلام فصيح وهي مناسبة لعهد أمير المؤمنين - عليه السلام - هذا، ووصاياه المودعة فيه، وإن كان كلام أمير المؤمنين - عليه السلام - أجلّ وأعلى من أن يناسبه كلام؛ لأنّه قبس من نور الكلام الإلهيّ، وفرع من دوحة المنطق النبويّ).

وقال ابن حمدون في [التذكرة الحمدونية ج1 ص315-316]: (كتب عليّ - عليه السلام - عهداً لمالك الأشتر النخعيّ حين ولّاه مصر، جمع فيه بين حاشيتي التقوى والسياسة على بُعد أقطارهما، وجدتُه يغني عن كثير من كلام الحكماء والقدماء، وهو مع فرط الإطالة مأمون الملالة؛ لجمعه بين البلاغة البارعة والمعاني الرائعة، ولولا رغبة الناس في تغاير الكلام وميل النفوس إلى التنقّل في الألفاظ، لاكتفيت بإيراد هذا العهد عن غيره؛ إذ كان حاوياً لأشتات الآداب والسياسات، جامعاً للأسباب التي تلزم الملوك والولاة...).

وقال أحمد بن علي القلقشنديّ في [صبح الأعشى في صناعة الإنشا ج10 ص9-10، ومآثر الإناقة في معالم الخلافة ج3 ص6]: (هو من العهود البليغة، جمع فيه بين معالم التّقوى وسياسة الملك).

قال شهاب الدين النويريّ في [نهاية الأرب في فنون الأدب ج6 ص19]: (ولم أرَ فيما طالعته من هذا المعنى أجمع للوصايا، ولا أشمل من عهد كتبه عليّ بن أبي طالب - رضى الله عنه - إلى مالك بن الحارث الأشتر حين ولَّاه مصر، فأحببتُ أن أورده على طوله، وآتي على جملته وتفصيله؛ لأنّ مثل هذا العهد لا يُهمل، وسبيل فضله لا يُجهل).

وقد صرّح جمعٌ من أكابر علماء الطائفة المحقّة (أعلى الله كلمتها) بظهور عبارات العهد على صدوره عن معدن الحكمة والعصمة (عليه السلام)، نذكر منهم:

1ـ المرجع السيّد أبو القاسم الخوئيّ: فإنّه قال في [التنقيح في شرح العروة ج1 ص431]: (..عباراته ظاهرة الصدور عنه – عليه السلام -..). وقال في [مصباح الفقاهة ج1 ص422]: (..آثار الصدق منه لائحة، كما لا يخفى للناظر إليه).

2ـ المرجع السيد المرعشيّ النجفيّ: فإنّه قال في [القول الرشيد ج1 ص188]: (ومتنه أصدق شاهد على صحّته، فإنّه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، وإنّه كلام الإمام وإمام الكلام، فمَن يمكنه أن يتفوّه بذلك لولا أبو الحسن أمير المؤمنين أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب - عليه السّلام -).

3ـ المرجع السيّد روح الله الخمينيّ: فإنّه قال في [كتاب البيع ج3 ص604]: (وهذا الكتاب - مع اشتهاره - متنه يدلّ على صدقه).

4ـ المرجع الشيخ المنتظري: فإنّه قال في [دراسات في ولاية الفقيه ج4 ص303]: (ونفس مضامين العهد الشريف ومحتوياته تكون أقوى شاهد صدق على صدوره إجمالاً عن منبع العلم الإلهي ومعدنه، فقد يحسّ القارئ البصير على كلّ فقرة منه مسحة من العلم الإلهيّ، وعبقة من الكلام النبويّ - كما قال الشريف الرضي – رحمه الله - في أوّل نهج البلاغة). وقال في [دراسات في المكاسب المحرّمة ج3 ص188]: (مضافاً إلى أنّ نفس مضامين العهد الشريف ومحتوياته أقوى شاهد على صدوره إجمالاً عن منبع العلم الإلهي ومعدنه).

الوجه الرابع: تلقّي الأصحاب له بالقبول:

إنّ نقلَ علماء المسلمين لهذا العهد الشريف، وكثرةَ أعمالهم العلميّة عليه شرحاً وتعليقاً وترجمةً، واستفاضةَ الطرق له واشتهارَه، واعتبارَ بعض الأسانيد، وشهادةَ متنه الفخم الذي لا يصدر إلّا عن منبع العلم الإلهيّ، إضافة لما سيأتي من استدلال الفقهاء بفقرات منه في الفقه، كلّ ذلك يدلّ على تلقّي الأصحاب له بالقبول. وقد صرّح بهذا بعض الأعلام، نذكر منهم:

1ـ المرجع السيّد المرعشيّ النجفيّ: فإنّه قال في [القول الرشيد ج1 ص188]: (هذا العهد بالخصوص ممّا تلقّاه الأصحاب بالقبول خلفاً عن سلف، وقد شرحوه بشروح كثيرة ومصنّفات قيّمة).

2ـ المرجع الشيخ المنتظريّ: فقد قال في [دراسات في ولاية الفقيه ج4 ص305] – بعد بحث سندي الطوسيّ والنجاشيّ -: (مضافاً إلى شهرة العهد وتلقّي الأصحاب له بالقبول).

خامساً: الاستدلال بالعهد في الفقه:

يتضمّن العهد العلويّ الشريف على الكثير من الفقرات التي يمكن الاستدلال بها في المسائل الفقهيّة، ولم يغب ذلك عن أذهان الفقهاء الأبرار (رضوان الله عليهم)، فإنّهم ذكروا بعضَ بنود وفقرات هذا العهد في البحث الفقهيّ الاستدلاليّ، وهذا يكشف عن اعتبارها عندهم وصلاحيّتها للاستدلال الفقهيّ. وهذه بعض المسائل التي استدلّ فيها الفقهاء واستشهدوا بفقرات من هذا العهد:

1ـ تقديم الأحسن ذكراً بين الناس في إمامة الجماعة:

استشهد الفقهاء في هذه المسألة بهذه الفقرة من العهد: « وإنّما يُستدلّ على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده ».

ينظر: ذكرى الشيعة ج4 ص419، روضة المتقين ج2 ص489، ذخيرة المعاد ج1 ق2 ص391، مصابيح الظلام ج8 ص404، مفتاح الكرامة ج10 ص265، وغيرها.

2ـ أن يصلي الإمام بصلاة أضعف المأمومين:

استشهد الفقهاء بهذه الفقرة من العهد: « وإذا قمت في صلاتك فلا تكن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة ».

ينظر: الحدائق الناضرة ج11 ص172، مستند الشيعة ج8 ص117، وغيرها.

3ـ حرمة الاحتكار:

استشهد الفقهاء بهذه الفقرة من العهد: « فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – منع منه.. فمَن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل وعاقب في غير إسراف ».

ينظر: الحدائق الناضرة ج18 ص60، الأنوار اللوامع ج11 ص96، سداد العباد ص501، مفتاح الكرامة ج12 ص353، مستند الشيعة ج14 ص46، جواهر الكلام ج22 ص479، كتاب المكاسب ج4 ص365، جامع المدارك ج3 ص141، كتاب البيع للخمينيّ ج3 ص603، مصباح الفقاهة ج3 ص814، مهذّب الأحكام ج16 ص31.

4ـ سعر الطعام المحتكَر:

استشهد الفقهاء بهذه الفقرة من العهد: « وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدلٍ وأسعارٍ لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ».

ينظر: النور الساطع ج1 ص567، جامع المدارك ج3 ص142، اقتصادنا ص692,

5ـ تعيّن قضاء الأعلم:

استشهد الفقهاء بهذه الفقرة من العهد: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ».

ينظر: القضاء والشهادات للأنصاري ص54، كتاب القضاء للكلبايكانيّ ج1 ص60، التنقيح في شرح العروة ج1 ص430، القضاء والشهادات للخوئيّ ج1 ص28، الاجتهاد والتقليد للصدر ص386، وغيرها.

6ـ ارتزاق القاضي من بيت المال:

استشهد الفقهاء بهذه الفقرة من العهد: « وافسح له [أي للقاضي] في البذل ما يزيح علّته وتقلّ معه حاجته إلى الناس ».

ينظر: كتاب المكاسب ج1 ص245، كتاب القضاء للآشتيانيّ ص26، جامع المدارك ج3 ص42، مباني تكملة المنهاج ج1 ص5، مهذب الأحكام ج27 ص27، وغيرها.

7ـ لزوم تقليد الأعلم:

استشهد الفقهاء بهذه الفقرة من العهد: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ».

ينظر: النور الساطع ج2 ص473، القضاء والشهادات للأنصاري ص54، شرح العروة الوثقى للحائريّ ج1 ص75، القول الرشيد ج1 ص187، التنقيح في شرح العروة ج1 ص145، وغيرها.

والحمد لله رب العالمين