هل علم الرجال مأخوذ من أبناء العامّة

سؤال: يقال إن الشيعة او بالأخص الأصوليّة اخذت علم الرجال من العامة ولم يكن آنذاك من عادتهم ولكن بعد فترة بدأ الشيعة بلم الرجال وتوثيق اصحاب الائمة بدون دليل قاطع وان علم الرجال ساقط بالأصل والدليل عن أبي بصير، عن أحدهما عليهما السلام قال: سمعته يقول: لا تكذب بحديث أتاكم به مرجئي ولا قدري ولا خارجي نسبه إلينا. فإنكم لا تدرون لعله شيء من الحق فتكذبون الله عز وجل فوق عرشه . بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ٢١٢ وعلى ما اعتقد ان الحديث مشهور فهل هنالك جواب؟

: السيد رعد المرسومي

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

اعلم أخي السائل أنّ علم الرجال هو علمٌ من العلوم المعروفة والمشهورة بين الطائفة قديماُ وحديثاً، وهو كباقي العلوم له أُصوله وأدلّته التي انطلق منها علماؤنا في تشخيص الرواة مدحاً وذمّاً وقدحاً وتعديلاً، فمن تلك الأدلّة:

ما ورد في كتاب الكافي لثقة الإسلام الكلينيّ (ج1/ص64)، وفي كتاب الخصال للصدوق (ص255) بإسنادهما إلى سليم بن قيس الهلاليّ، قال : قلت لأمير المؤمنين عليه السلام : إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وآله غير ما في أيدي الناس ، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وآله أنتم تخالفونهم فيها ، وتزعمون أن ذلك كله باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين ، ويفسرون القرآن بآرائهم ؟ قال : فأقبل علي فقال : قد سألت فافهم الجواب . إن في أيدي الناس حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعاما وخاصا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده حتى قام خطيبا فقال : أيها الناس قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ثم كذب عليه من بعده ، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس : رجل منافق يظهر الإيمان ، متصنّع بالإسلام ، لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدا ، فلو علم الناس أنه منافق كذاب ، لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله صلى الله عليه وآله ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه ، وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عز وجل : " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم " ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة . ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ، ولم يتعمد كذبا فهو في يده ، يقول به ويعمل به ويرويه فيقول : أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ولو علم هو أنه وهم لرفضه . ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولم علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه . وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ، مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله ، لم ينسه ، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإنّ أمر النبي صلى الله عليه وآله مثل القرآن ناسخ ومنسوخ [ وخاص وعام ] ومحكم ومتشابه قد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام له وجهان : كلام عام وكلام خاص مثل القرآن وقال الله عز وجل في كتابه : " ما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا " فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله صلى الله عليه وآله وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسأله عن الشيء فيفهم وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجيئ الأعرابي والطاري فيسأل رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يسمعوا.

وقد كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله صلى الله عليه وآله أكثر ذلك في بيتي وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نسائه . فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني ، وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصها وعامها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها ، وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه علي وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفا واحدا ، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملا قلبي علما وفهما وحكما ونورا ، فقلت : يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شئ لم أكتبه أفتتخوف عليَّ النسيان فيما بعد ؟ فقال : لا، لست أتخوّف عليك النسيان والجهل.

وكذلك ما رواه الكشيّ بإسناده إلى الإمام الصادق (ع) أنّه قال: إنّا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس. [اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي )، ج ١، الشيخ الطوسي، ص ٣٦٤].

وغيرها من الأخبار والنصوص الصريحة التي تُبيّن أنّ الذين ينقلون الأحاديث عن المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) فيهم الصادقون والكاذبون والواهمون والجاهلون، فلا بُدّ - إذنْ - من تمييز حالهم لبيان مرتبتهم التي يستحقّون أن يوصفوا بها.

ومن هنا بدأ نقّاد الحديث من علماء الطائفة بتمييز أحوال نقلة الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وكيفيّة التعامل مع مرويّاتهم كما صرّح بذلك شيخ الطائفة الطوسيّ (قدس) في كتابه عدة الأصول، لـمّا قال: إنا وجدنا الطائفة ميّزت الرّجال الناقلة لهذه الأخبار ، ووثقت الثقات منهم ، وضعفت الضعفاء ، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم وذموا المذموم ، وقالوا فلان متهم في حديثه ، وفلان كذاب ، وفلان مخلط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي ، وفلان فطحي ، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها ، وصنفوا في ذلك الكتب ، واستثنوا الرّجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم ، حتى إن واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في إسناده وضعفه برواته. هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم ، فلو لا أن العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائز ، لما كان بينه وبين غيره فرق ، وكان يكون خبره مطروحا مثل خبر غيره ، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق وترجيح الأخبار بعضها على بعض ، وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترنا. [كتاب العدة في أصول الفقه ج1، الشيخ الطوسي، ص ٢٤١].

فلاحظ أخي السائل أنّ ديدن الطائفة في نقل الأخبار جارٍ على تمييز حال الناقلين والتفريق بين مراتبهم، فلا يجعلون تعاملهم مع الرواة وكأنهم بمرتبة واحدة في نقل الأخبار.

فإذا تقرّر هذا الأمر، فقد آن الأوان أنْ نبيّن أنّ هذا الخبر (لا تكذب بحديث أتاكم به مرجئي ولا قدري ولا خارجي نسبه إلينا) يحمل على قضيّةٍ خارجيّة مهمّة، شاع انتشارها في زمن الصادقين (عليهم السلام)، حين أصبح معيار قبول الحديث من الناقل للخبر على أساس العقيدة الموافقة، ومعيار ردّه على أساس العقيدة المخالفة، كما كان يفعل ذلك قسم كبير من رواة العامّة، إذْ كانوا يقبلون أحاديث رواة مذهبهم، ويرفضون أحاديث القدريّة والمرجئة والخوارج، وكذلك الشيعة حين كانوا يتّهمونهم بالرفض والكذب والتشنيع عليهم، لمجرّد أنّهم على خلاف مذهبهم ومسلكهم، كما هو مذكور في تراجم كثيرٍ من رواة العامة، ككتاب تهذيب الكمال للمزّيّ أو كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانيّ وغيرهما، مستندين في ذلك إلى بعض الأحاديث الواردة في هذا المقام ، وإلى أقوال علمائهم، فمن ذلك: الحديث المروي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (ص): صنفان من أمتي لا يردا عليَّ الحوض ولا يدخلان الجنة ، القدرية والمرجئة . [مجمع الزوائد ج 7 ص 207].

وعن معاذ بن جبل قال قال رسول الله (ص): ما بعث الله نبياً قط إلا وفي أمته قدرية ومرجئة يشوشون عليه أمر أمته . ألا وإن الله قد لعن القدرية. مجمع الزوائد ج 7 ص 203.

وقال إمام المالكيّة مالك بن أنس: ((لا يصلى خلف القدرية ، ولا يحمل عنهم الحديث )). [الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، ص ١٥٢].

وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: سَمِعْتُ أَبِيَ يَقُولُ : « لَا يُصَلَّى خَلْفَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ ». [كتاب السنة، عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، ص ٣٨٤]. وغيرها من الأقوال الذامّة لهذه الفرق.

فأراد الإمام عليه السلام بهذا الخبر أنْ لا يتأثّر أصحابه بهذا المسلك الخطير في التعامل مع الأحاديث المنقولة عنهم بواسطة المخالفين لهم في العقيدة، إذْ لو فعلوا ذلك لأصبحوا سبباً رئيساً في فقدان بعض الأخبار التي يمكن أنْ تصدر عنهم، وإنّما عليهم - في مثل هذه الحالة - التبيّن والتثبّت من الخبر الواصل إليهم، فإنْ علموا بأنّه صادرٌ عنهم أخذوا به ، وإن لم يعلموا بمعناه ولا دلالته لعدم إدراك عقولهم له، فعليهم التريّث وأنْ يردّوا علمه إليهم فيما بعد.

فكأنّ الإمام عليه السلام بهذا الخبر أراد أن يخالف ذلك المسلك الخطير الذي درج عليه كثيرٌ من رواة العامّة، حتّى تبقى حلقة الوصل متّصلة فيما بين الشيعة وغيرهم من المخالفين، فكأنّه بذلك يؤلّف قلوب المخالفين على الشيعة حتّى يجعلهم قريبين منهم، ليتعاملوا معهم بالمثل، فيسمعوا منهم أيضاً ما ينقلونه من أخبار وحقائق عن أئمّتهم عليهم السلام، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة.

ودمتم سالمين.