سيرة مالك الاشتر النخعي (ت 37 هـ)

السؤال: هل يمكن أن تذكروا لنا سيرة مالك الأشتر النخعيّ؟ وهل هو من الصحابة أم التابعين؟

: الشيخ مروان خليفات

الجواب:

مالك بن الحارث الأشتر النخعيّ، من عظماء شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) القائلين بإمامته، وأنّه وصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لازم عليّاً (عليه السلام) ونصره، ولم يخذله أبداً.

جاء في نهج البلاغة: (ومن كتاب له - عليه السلام - إلى أميرين من أمراء جيشه: « وقد أمّرتُ عليكما وعلى مَن في حيّزكما مالكَ بن الحارث الأشتر، فاسمعا له وأطيعا، واجعلاه درعاً ومجناً، فإنّه ممّن لا يخاف وهنه ولا سقطته ولا بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلى ما البطؤ عنه أمثل ») [نهج البلاغة ج3 ص14].

قال العلّامة الحليّ: (مالك الأشتر - قدّس الله روحه، ورضي الله عنه -: جليل القدر، عظيم المنزلة، كان اختصاصه بعليّ - عليه السلام - أظهر من أن يخفى، وتأسّف أمير المؤمنين - عليه السلام – بموته، وقال: « لقد كان لي كما كنتُ لرسول الله - صلى الله عليه وآله -) [خلاصة الأقوال ص276-277].

وقال السيّد الخوئيّ: (مالك بن الحارث الأشتر النخعيّ: من أصحاب عليّ - عليه السلام -، رجال الشيخ. وعدّه البرقيّ في أصحاب عليّ - عليه السلام - من اليمن، قائلاً: « مالك بن الحارث الأشتر النخعيّ »، وعدّه ابن شهر آشوب في المناقب: الجزء2، في (فصل في المسابقة بالإسلام) من وجوه الصحابة وخيار التابعين، وتقدّم في ترجمة جندب بن زهير: عدّ الأشتر من التابعين الكبار، ورؤسائهم وزهادهم) [معجم رجال الحديث ج15 ص167ـ168].

وقال رحمه الله : (إنّ جلالة مالك واختصاصه بأمير المؤمنين - عليه السلام -، وعظم شأنه، ممّا اتّفقت عليه كلمة الخاصّة والعامّة) .

يظهر من كلام السيّد الخوئيّ - فيما نقله عن المتقدّمين - أنّ مالك الأشتر تابعيّ وليس صحابيّاً، ولو كان صحابيّاً لعدّه مترجمو الصحابة من السنّة منهم، هذا مع حرصهم على تكثير عدد الصحابة قدر الإمكان.

ترجم له الجمهور، وهذه بعض كلماتهم:

فقال ابن سعد: (وكان الأشتر من أصحاب عليّ بن أبي طالب، وشهد معه الجمل وصفين ومشاهده كلّها، وولّاه عليّ - عليه السلام – مصر، فخرج إليها، فلمّا كان بالعريش شرب شربة عسل فمات) .

وقال الذهبيّ: (الأشتر النخعيّ: واسمه مالك بن الحارث، شريف، كبير القدر في النخع ... وكان ممّن ألّب على عثمان، وسار إليه وأبلى شرّاً. وكان خطيباً بليغاً فارساً. حضر صفين وبين يومئذٍ، وكاد أن يظهر على معاوية، فحلّ عليه أصحاب عليّ لمّا رأوا المصاحف على الأسنّة، فوبّخهم الأشتر، وما أمكنه مخالفة عليّ، وكفّ بقومه عن القتال) [تاريخ الإسلام ج3 ص593-594].

وقال ابن حجر: (مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن الحارث بن جذيمة بن مالك بن النخع النخعيّ، المعروف بالأشتر، له إدراك، قال: وكان رئيس قومه) [الإصابة ج6 ص212].

شهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) لمالك بالإيمان دون أن يلقاه، حيث نقل الهيثميّ: (عن إبراهيم - يعني ابن الأشتر -: أنّ أبا ذر حضره الموت وهو بالربذة، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: أبكي أنّه لا يدلى بنفسك، وليس عندي ثوب يسع لك كفناً، قال: لا تبكي، فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: « ليموتنّ رجل منكم بفلاةٍ من الأرض، تشهده عصابة من المؤمنين »، قال: فكلّ مَن كان منهم في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية لم يبقَ منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت، فراقبي الطريق، فإنّكِ سوف ترين ما أقول، فإنّي - والله - ما كَذَبْتُ ولا كُذّبْتُ، قالت: وأنّى ذلك وقد انقطع الحاجّ؟ قال: راقبي الطريق، قال: فبينا هي كذلك إذا هي بالقوم تخب بهم رواحلهم كأنهم الرخم، فأقبل القوم حتّى وقفوا عليها، فقالوا: ما لك؟ فقالت: امرؤ من المسلمين تكفّنوه وتؤجرون فيه، قالوا: ومَن هو؟ قالت: أبو ذر، ففدوه بآبائهم وأمّهاتهم، ووضعوا سياطهم في نحورها يبتدرونه، فقال: أبشروا، فأنتم النفر الذي قال رسول الله (ص) فيكم ما قال، ثمّ أصبحت اليوم حيث ترون، ولو أنّ ثوباً من أثوابي يسع لأكفن فيه، فأنشدكم بالله لا يكفّني رجل منكم كان عريفاً أو أميراً أو بريداً، فكلّ القوم قد نال من ذلك شيئاً إلّا فتى من الأنصار كان مع القوم، قال: أنا صاحبك، ثوبان في عيبتي من غزل أمّي، وأخذ ثوبي هذين الذين علي، قال: أنت صاحبي).

قال الهيثمي معقّباً: (رواه أحمد من طريقين، أحدهما: هذه، والأخرى: مختصرة عن إبراهيم بن الأشتر عن أمّ ذر، ورجال الطريق الأولى رجال الصحيح، ورواه البزار بنحوه باختصار) [مجمع الزوائد ج9 ص331–332]، وينظر: مسند أحمد ج5 ص155، وقال الأرناؤوط: (إسناده حسن).

قال ابن حبّان - وقد اشترط عدالة الرواة فيما يرويه في صحيحه -: (فكفّنه الأنصاريّ في النفر الذين شهدوه، منهم: حجر بن الأدبر، ومالك بن الأشتر) [صحيح ابن حبان ج15 ص59].

وقال ابن عبد البر - في ترجمة أبي ذر عليه الرضوان -: (وصلّى عليه عبد الله بن مسعود، صادفه وهو مقبل من الكوفة، مع نفر فضلاء من أصحابه، منهم: حجر بن الأدبر، ومالك بن الحارث الأشتر) [الاستيعاب ج1 ص252-253].

وقال ابن أبي الحديد: (وقد روى المحدّثون حديثاً يدلّ على فضيلة عظيمة للأشتر - رحمه الله -، وهي شهادة قاطعة من النبيّ - صلى الله عليه وآله - بأنّه مؤمن، روى هذا الحديث أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب) [شرح نهج البلاغة ج15 ص99].

كان لمالك دور مميّز في معركة اليرموك، ساهم بموقفه في هزيمة الروم.

قال ابن عساكر: (فلمّا انتهوا إلى تلك الجماعة من الروم، وأقبلوا يرمونهم بالحجارة من فوقهم، فتقدّم إليهم الأشتر وهو في رجال من المسلمين، فإذا أمامهم رجل من الروم، جسيم عظيم، فمضى إليه حتّى وثب عليه، فاستوى هو والروميّ على صخرة مستوية، فاضطربا بسيفيهما، فأطنّ الأشتر كفّ الروميّ، وضرب الروميّ الأشتر بسيفه فلم يضرّه، واعتنق كلّ واحد منهما صاحبه فوقعا على الصخرة، ثمّ انحدرا، وأخذ الأشتر يقول - وهو في ذلك ملازم العلج لا يتركه -: « قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين »، قال: فلم يزل يقل ذلك حتّى انتهوا إلى مستوى الجبل وقرار، فلمّا استقرّا وثب على الروميّ فقتله، وصاح في الناس: أن جوزوا، قال: فلمّا رأت الروم أنّ صاحبهم قد قتل خلوا الثنية وانهزموا، قال: وكان الأشتر ذا بلاء حسن في اليرموك، قالوا: لقد قتل ثلاثة عشر) [تاريخ دمشق ج2 ص158].

وقال بدر الدين العينيّ: (كان رئيس قومه، وله بلاء حسن في وقعة اليرموك، وذهبت عينه يومئذٍ، وكان ممّن سعى في الفتنة، وألّب على عثمان، وشهد حصره، وروي عن عائشة - رضي الله عنها -، دعت عليه في جماعة ممّن سعى في أمر عثمان...) [معاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار ج3 ص6].

شارك مالك في الثورة على الخليفة الثالث، ودعا لعزله، تذكر مصادرُ الجمهور: أنّه كان مؤيّداً لقتل الخليفة الثالث راضياً بموته.

روى ابن شبة بسند على شرط البخاريّ ومسلم: (عن إبراهيم بن محمّد بن المنتشر، عن أبيه، قال: أتى مسروقاً ناسٌ من أصحاب عليّ - رضي الله عنه -، فقالوا له قولاً غليظاً، وقالوا له: كأنّك غضبان على الله أن فعل وقتل عثمان، وقالوا: لولا أنّك قريب من البيت لضربنا عنقك. قال: قد قتلتم مَن هو أعظم منّي حرمة وحقّاً. قال: فخلف بأعقابهم الأشتر فقال: يا أبا عائشة، ما رأيت في الشرّ كشيء فعلناه أمس ولا يوم عجل بني إسرائيل) [تاريخ المدينة ج4 ص1235-1236].

قال الذهبيّ: (وكان ممّن ألّب على عثمان، وسار إليه وأبلى شرّاً) [تاريخ الإسلام ج3 ص594].

وقال ابن حجر: (كان ممّن يسعى في الفتنة، وألّب على عثمان، وشهد حصره) [تهذيب التهذيب ج10 ص11].

وقال الخطيب - في تعليقه على القواصم -: (ويد الأشتر لا تزال رطبة من دم إمامه الشهيد المبشّر بالجنّة) [العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي (ص) ج1 ص144].

وقد أشار ابن أبي الحديد إلى كلامٍ لشيخه الدبّاس، يبيّن عقيدة الأشتر بعثمان ومّن سبقه.

قال ابن أبي الحديد : (روى أبو عمر بن عبد البرّ قبل أن يروي هذا الحديث في أول باب جندب: كان النفر الذين حضروا موت أبي ذر بالربذة مصادفة جماعة، منهم حجر بن الأدبر ومالك بن الحارث الأشتر. قلت: حجر بن الأدبر هو حجر بن عدي الذي قتله معاوية، وهو من أعلام الشيعة وعظمائها. وأمّا الأشتر فهو أشهر في الشيعة من أبي الهذيل في المعتزلة. قرئ كتاب (الاستيعاب) على شيخنا عبد الوهاب بن سكنية المحدّث وأنا حاضر، فلمّا انتهى القارئ إلى هذا الخبر قال أستاذي عمر بن عبد الله الدباس - وكنت أحضر معه سماع الحديث -: لتقل الشيعة بعد هذا ما شاءت، فما قال المرتضى والمفيد إلّا بعض ما كان حجر والأشتر يعتقدانه في عثمان ومَن تقدّمه، فأشار الشيخ إليه بالسكوت، فسكت) [شرح نهج البلاغة ج15 ص100–101].

من عقائد مالك قوله: إنّ عليّاً (عليه السلام) وصيّ رسول الله، وإنّه وصيّ الأوصياء.

قال اليعقوبي [ت 284هـ]: (ثمّ قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيّها الناس، هذا وصيّ الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن الغناء، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان، ورسوله بجنّة الرضوان، مَن كملت فيه الفضائل، ولم يشكّ في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل) [تاريخ اليعقوبي ج2 ص179].

تأثّر الإمام عليّ (عليه السلام) كثيراً لشهادة مالك وحزن عليه.

قال الكشيّ: (ذكر أنّه لمّا نعي الأشتر مالك بن الحارث النخعي إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - تأوّه حزناً، وقال: « رحم الله مالكاً، وما مالك عزّ عليّ به هالكاً، لو كان صخراً لكان صلداً، ولو كان حبلاً لكان قيداً، وكأنّه قد منى قدا ») [اختيار معرفة الرجال ج1 ص283ـ284].

وقال الذهبيّ: (وقال عوانة بن الحكم وغيره: لمّا جاء نعي الأشتر إلى عليّ - رضي الله عنه - قال : « إنا لله، مالك، وما مالك، وكلّ هالك، وهل موجود مثل ذلك، لو كان من حديد لكان قيداً، أو كان من حجر لكان صلداً، على مثل مالك فلتبك البواكي») [تاريخ الإسلام ج3 ص593-594].

وقال ابن حجر : (وروي: أنّ عليّاً نعاه إلى قومه، وأثنى عليه ثناء حسناً) [تهذيب التهذيب ج10 ص10–11].

حين عيّن الإمام عليّ (عليه السلام) مالكاً والياً على مصر، كتب له عهداً مشهوراً رائعاً، يحوي طرائق السياسة الداخليّة، وكيفيّة الحكم والتعامل مع الرعيّة، لكن حال اغتيال معاوية ورجالاته له دون تولّيه حكم مصر وانتفاع الناس بعدله، حيث سمّوه أثناء الطريق، وضريحه معروف هناك يُزار، فرحمه الله ورفع درجته بموالاته أهل بيت النبوة ونصرته لهم.