هل أمر القرآن بإرهاب أهل الكتاب وتحقيرهم؟

السؤال: يلاحظ أن القرآن في حديثه عن أهل الكتاب يدعو إلى إرهابهم والتحقير من شأنهم.. وفي آيات اُخر يدعو المسلمين للحوار بالحكمة والموعظة الحسنة.. وهذا تناقض غريب

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

لا ندري ما الآية التي استند إليها في هذا الادعاء، إذِ القرآن عموماً يدعو إلى نظام اجتماعيّ يكون فيه الإنسان بما هو إنسان كائناً محترماً، فهو لا يدعو أتباعه إلى إرهاب غيرهم أو تحقيرهم وإنْ خالفوهم في العقيدة، فالأصل في القرآن هو احترام الجميع بما فيهم المخالف الذي لم يبادر بالاعتداء، قال تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، فالآية نصّ صريح في ضرورة التعامل مع المخالف غير المقاتل بالبرّ والقسط.

فالأساس في العلاقة بين الناس بحسب القرآن الكريم هو اعتراف بعضهم بالبعض الآخر قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فبمقتضى التدبّر في كلمة (لِتَعَارَفُوا) نكتشف أنّ المقصود ليس مجرد المعرفة النظريّة؛ كأنْ نعرف مثلاً أنّ هناك شعوباً عربيّة وآسيويّة وأوربيّة وغير ذلك، وإنّما المقصود المعرفة التي تقود للاعتراف بحق الآخر في الوجود وفي الحياة، والذي يؤكد هذا المعنى ما جاء في الحديث النبوي: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) فالمقصود من معرفة إمام الزمان هي المعرفة التي يترتب عليها الأثر وليس مجرد المعرفة الذهنية، فمن يعرفه ولا يرتّب أثراً على تلك المعرفة لا يختلف عمن لا يعرفه بالمرّة، وبذلك يكون منظور الحديث من مات ولم (يعترف) بإمام زمانه مات ميتة جاهلية، وهكذا الحال في هذه الآية، فالاعتراف بالتنوع في الواقع البشري هو الذي يرسم حدود العلاقة فيما بينهم، وما جاء في ذيل الآية (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، لا يعني مصادرة الحقوق الطبيعة لغير المتقي، فكلمة (عند الله) تكشف عن أمرين:

الأول: أنّ الله وحده هو العالم بالمتقي حقيقةً.

الثاني: أنّ ترتّب الأثر الفعلي للتقوى يكون عند الله يوم الحساب.

وعليه: فإنّ الحقوق الطبيعة التي تقوم عليها الحياة وتستقيم بها المجتمعات مثل العدل والانصاف وعدم التعدّي على الآخر هي حقوق مكفولة للإنسان بوصفه إنساناً لا بوصفه متقياً.

وقد حاول البعض الاستدلال بقوله تعالى: (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)، على أنّها دعوة لترهيب أهل الكتاب وتحقيرهم، والعجيب أنّ الذي يستدل بهذه الآية يغفل متعمداً بأنّ هذه الآية نازلة في حقّ المشركين الذين نقضوا العهد واعتدوا على المسلمين، ولا علاقة للآية بأهل الكتاب، والذي يُدلّل على ذلك الآية التي جاءت قبلها، يقول تعالى: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، فالحديث في هذه الآيات عن المشركين الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يوم الحديبية)، وبذلك يتضح أن المقصود ليس هم أهل الكتاب من النصارى واليهود، مما يبطل زعمهم الفاسد من أنّ الإسلام يدعو أتباعه إلى إرهاب أهل الكتاب وتحقيرهم.

واستدل آخرون بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فالآية نَهَتْ عن موالاة أهل الكتاب، وهذا في ظنّهم نحو من التحريض والاستحقار، وهذا تحامل على الآية وتحميلها ما لا تحتمل، فسماحة الإسلام مع أهل لكتاب شيء واتخاذهم أولياء شيئاً آخر، ولا علاقة بين الأمرين، فكون الإسلام ينهي عن موالاة أهل الكتاب، لا يعني أنّه يأمر بإرهابهم أو تحقيرهم، فمفهوم الموالاة يقوم على النصرة والمحبة، وهو أمر لا يستقيم مع وجود حرب وقتال وتنافر في المصالح والأهداف، ومن هنا نجد أنّ القرآن منع المؤمنين من ولاية الكافر الحربيّ، يقول تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، فالآية نصّ صريحٌ على حرمة موالاة الكافر المحارب الذي عمل على إخراج المؤمنين من ديارهم، وقد جاءت هذه الآية بعد الآية التي أشرنا لها سابقاً وهي قوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، ومن ذلك يتضح أنّ النهي عن الموالاة معلّق بأسباب خارجيّة وهي موقف الكفار من المسلمين فإن كانوا مقاتلين أو كانوا يعملون على خلاف مصالح المسلمين فلا يجوز موالاتهم، أما إنْ كانوا غير مقاتلين فإن الله لا ينهانا عن برّهم والإقساط إليهم.

والذي يؤكد أنّ الموالاة وعدمها معلّق بالظّرف الخارجيّ هو أنّ الله حرّم موالاة المؤمنين إنْ لم يحترموا مقتضيات الدّين، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، فمع أنّ الآية وصفتهم بالمؤمنين إلا أنّها نهت عن موالاتهم بسبب عدم هجرتهم، وهكذا الحال في عدم موالاة أهل الكتاب: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا)، وقد ميّزت آيات القرآن بين أصناف أهل الكتاب، يقول تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)، وتُحدّث عن قسم آخر يحمل عداوة للمسلمين، يقول تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ومن ذلك يتضح أنّ الأصل في معاملة أهل الكتاب وجميع المخالفين هي عدم الاعتداء عليهم بالفعل أو القول، ولا يجوز ذلك إلا في حالة الدفاع عن النفس، قال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، فالإسلام حرّم الظلم والتعدي أيّاً كان نوعه وعلى أيّ طرف كان، ودعاء المؤمنين بالدّخول في سلام دائم مع الآخرين، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِى ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۚ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، فالعنف والإرهاب والتعدي على الآخرين من عمل الشيطان بوصف هذه الآية؛ لأنّه يقع في قبال الدّخول في السّلم، وبذلك يمكننا أنْ نؤكّد بأنّ الأصل في الإسلام هو السّلام، والشّعار الذي أرساه بين الجميع هو السّلام، أمّا القتال فهو أمر عارض لا يلجأ إليه إلا في حالات خاصّة، وقد حدّد القرآن ضوابط دقيقة للحروب ولم يجعلها إلا ضمن شروط وقواعد واضحة، قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) وقد حرّمت الآية بشكل واضح وصريح الاعتداء في حين سمحت بحمل السيف في وجه الظالم والمعتدي، وقال تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) وتُبَيّنُ هذه الآية أنّ قتال المشركين ليس لأجل كونهم مشركين وإنّما لأنّهم مقاتلين.

وفي المحصّلة ليسَ هناك أيّ تناقض في آيات القرآن الكريم، فالأصل في الإسلام هو الدعوة للحق بالحِكمة والموعظة الحسنة، وقد أقام الإسلام جسور الحوار والتفاهم مع غير المسلمين من أهل الكتاب، يقول تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، بل أمرنا الله بالرفق مع أهل الكتاب عند دعوتهم للإسلام، يقول تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).