« لو عاش إبراهيم لكان نبيّاً »

السؤال: هل أنّ السبب في عدم وجود نبيّ بعد النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) هو عدم وجود وريث له بعد وفاة ابنه ابراهيم، حيث جاء في الحديث عن ابن عباس قوله: « لـمَّا ماتَ إبراهيمُ ابنُ رسولِ اللَّهِ (ص)، قالَ: إنَّ لَهُ مُرضعًا في الجنَّةِ ولو عاشَ لَكانَ صدِّيقًا نبيًّا »؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إنّ من جملة أصول الدين الإسلاميّ أنّ النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو آخر الرسل وخاتم الأنبياء، فختمت النبوّة به، وكانت شريعته باقية إلى يوم القيامة، على هذا اتّفق المسلمون، وقد نصّـت الآية القرآنيّة على ذلك: {وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة عند المسلمين، منها: حديث المنزلة المتواتر عند الفريقين: « يا عليّ، أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيَّ بعدي ».

ألا ترى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أثبت لأمير المؤمنين (عليه السلام) سائر منازل هارون من موسى من الوزارة وغيرها، ونفى عنه منزلة (النبوّة) بعبارة: « لا نبيَّ بعدي »، فاستعمل نفي الجنس « لا نبيَّ » الذي هو نصٌّ في الاستغراق والشمول، ومفهوم هذا الاستثناء أنّه كان الله تعالى قد قضى نبيّاً من بعدي لكنتَ أنت نبيّاً من بعدي.

فختمُ النبوّة بالخاتم (صلى الله عليه وآله) راجع للقضاء الإلهيّ، كما قضى أن يكون النبيّ الخاتم أعظمَ الأنبياء، بل أعظم الخلق طرّاً. وليس ختم النبوّة لعدم وجود شخص مؤهَّل لمنصب النبوّة، حتّى يكون الباب مفتوحاً على مصراعيه لكلّ مَن يرغب بادّعاء النبوّة والرسالة، بل الباب موصَد أمام كلّ الأدعياء، وهو أنّ الله تعالى لا يرسل نبيّاً ولا رسولاً بعد خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)؛ إذ لا شكّ عندنا أنّ الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) أفضل من الأنبياء والمرسلين عدا خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) – بدلالة الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة -، ولكن لا نقول بنبوّتهم ولا رسالتهم، بل هم أئمّة أوصياء لخاتم الأنبياء، وتبع لشريعته الغرّاء.

وأمّا الحديث الوارد في السؤال: « لو عاش إبراهيم لكان نبيّاً » فيقع الكلام حوله في أمرين:

الأمر الأوّل: مصدر الحديث عند الفريقين:

الأوّل: الحديث في مصادر الإماميّة:

لـم نعثر على هذا الحديث في مصادر الإماميّة، إلّا فيما نقله جملة من الأعلام من كتاب محمّد بن العبّاس البزّاز المعروف بابن الحجّام؛ إذ ورد فيه: عن أحمد بن محمّد الورّاق، عن أحمد بن إبراهيم، عن الحسن بن أبي عبد الله، عن مصعب بن سلام، عن أبي حمزة الثماليّ، عن أبي جعفر (عليه السلام)، عن جابر بن عبد الله (رض)، قال: « قال رسول الله (ص) في مرضه الذي قُبض فيه لفاطمة (ع)... قولي كما قال أبوكِ على إبراهيم: تدمع العين، وقد يوجع القلب، ولا نقول ما يُسخط الربّ، وإنّا بك – يا إبراهيم – لمحزونون، ولو عاش إبراهيم لكان نبيّاً » [تأويل الآيات ج2 ص875، حلية الأبرار ج2 ص409 وغيرها].

ونقل الحديث من طريق جابر: الحافظ ابن عساكر في [تاريخ دمشق ج3 ص138]، وفرات الكوفيّ في [تفسير فرات ص586].

أقول: وإسناد هذا الحديث غير معتبر. وقد ورد كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله): « تدمع العين.. » في أحاديث أخرى دون زيادة: « ولو عاش إبراهيم لكان نبيّاً ».

ثـمّ إنّ الشيخ الصدوق أخرج عن جميل بن درّاج أنّه سأل الإمام الصادق (عليه السلام): « عن إبراهيم ابن رسول الله (ص)، لو بقي كان صدّيقاً نبيّاً؟ قال: لو بقي كان على منهاج أبيه (ص) » [الفقيه ج3 ص490]. ونقل الرواية في كتاب [التوحيد ص395] دون كلمة « نبيّاً »، وإسناد الصدوق إلى جميل صحيح.

فلو تـمّت رواية الفقيه المتضمّنة كلمة « نبيّاً »، لأمكن القول: إنّ في ظاهر جواب الإمام (عليه السلام) نفياً للنبوّة المقدّرة لسيّدنا إبراهيم (عليه السلام)، ولذا قال العلّامة المجلسيّ – في بيانه للرواية -: (أي: كان مؤمناً موحّداً تابعاً لأبيه، لا نبيّاً) [بحار الأنوار ج5 ص294].

الثاني: الحديث في مصادر المخالفين:

ورد هذا الحديث في مصادر المخالفين من طرقٍ مرفوعة وموقوفة، وهي:

1ـ حديث عبد الله بن عبّاس:

روى غير واحدٍ عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: « لـمّا مات إبراهيم ابن رسول الله (ص) صلّى رسول الله (ص)، وقال: إنّ له مرضعاً في الجنة، ولو عاش لكان صدّيقاً نبيّاً.. » [سنن ابن ماجه ج1 ص484، السير والمغازي ص270، تاريخ دمشق ج3 ص144، دلائل النبوة ج7 ص289].

2ـ حديث جابر بن عبد الله الأنصاريّ:

روى ابن عساكر بالإسناد عن أبي حمزة الثماليّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (ص): « لو عاش إبراهيم لكان نبيّاً » [تاريخ دمشق ج3 ص139].

3ـ حديث عبد الله بن أبي أوفى:

روى البخاريّ وغيره عن إسماعيل بن أبي خالد، قلت لابن أبي أوفى: رأيت إبراهيم ابن النبيّ (ص)؟ قال: « مات صغيراً، ولو قضي أن يكون بعد محمّد (ص) نبيّ عاش ابنه، ولكن لا نبيَّ بعده » [صحيح البخاري ج7 ص118].

4ـ حديث أنس بن مالك:

روى أحمد بن حنبل عن سفيان، عن السدي، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: « لو عاش إبراهيم ابن النبيّ (ص) لكان صديقاً نبيّاً » [مسند أحمد ج3 ص133].

وروى ابن عساكر عن أسباط، عن السديّ، عن أنس: «.. ولو بقي لكان نبياً، ولكن لم يكن ليبقى، لأنّ نبيكم (ص) آخر الأنبياء » [تاريخ دمشق ج3 ص135].

أقول: الحديثان الأوّلان مرفوعان، والآخران موقوفان، وذكر المحدّث الألبانيّ: أنّ هذين الموقوفين لهما حكم الرفع؛ لأنّ المذكور من الأمور الغيبيّة التي لا مجال للرأي فيها. [السلسلة الضعيفة ج1 ص388].

الحاصل: الحديث غير ثابت عند الإماميّة، في حين أنّه ثابت عند المخالفين.

الأمر الثاني: دلالة الحديث:

لا يخفى أنّ الحديث: « لو عاش إبراهيم لكان نبيّاً » لا يدلّ على عدم ختم النبوّة؛ لأنّ الحديث – على فرض صحّته – مصدَّر بـ « لو »، وهو حرف امتناع لامتناع، فيدلّ على امتناع الجواب – وهو كونه نبيّاً - لامتناع الشرط – وهو أن يعيش إبراهيم -؛ إذ شاءت الإرادة الإلهيّة ألّا يعيش إبراهيم تحقيقاً للقضاء الإلهيّ وهو ختم النبوّة. قال العلّامة المجلسيّ – تعليقاً على الخبر -: (قوله (ع): « ولو عاش إبراهيم لكان نبيّاً »، ولذا لَـم يعش؛ لأنّه لا نبيَّ بعده) [بحار الأنوار ج65 ص54].

وجاء في أصحّ حديث في الباب عند المخالفين - وهو ما أخرجه البخاريّ - عن ابن أبي أوفى قال: « لو قضي أن يكون بعد محمّد (ص) نبيّ عاش ابنه، ولكن لا نبيَّ بعده »، وهو صريحٌ في أنّ وفاته صغيراً كان لأجل أنّه لا نبيَّ بعد الخاتم (صلى الله عليه وآله).

نعم، يدلّ الحديث على فضيلة عظيمة لسيّدنا إبراهيم (عليه السلام)، وهو أنّ فيه قابليّةً لأن يكون نبيّاً؛ إذ لـو لـم يكن قابلاً لها لكان الأولى نفي النبوّة عنه بعدم الاقتضاء لا لتحقّق المانع وهو الموت؛ لأنّ النفي بعدم الاقتضاء متقدّم على النفي بوجود المانع.

قال تقي الدين السبكيّ – في بيان حديث: « كنتُ نبيّاً وآدم بين الروح والجسد » -:

(قد جاء: « أنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد »، فقد تكون الإشارة بقوله: « كنتُ نبيّاً » إلى روحه الشريفة (ص)، وإلى حقيقته، والحقائق تقصر عقولُنا عن معرفتها، وإنّما يعلمُها خالقُها، ومَن أمدَّه بنورٍ إلهيّ. ثمّ إنّ تلك الحقائق يؤتي اللهُ كلَّ حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء، فحقيقة النبيّ (ص) قد تكون من قبل خلق آدم آتاها الله ذلك الوصف بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وأفاضه عليها من ذلك الوقت، فصار نبيّاً..) [الفتاوى ج1 ص39].

ونقله الصالحي الشاميّ، وعلّق عليه: (ومن هذا يُعرَف تحقيق نبوّة السيّد إبراهيم ابن سيّدنا رسول الله (ص) في حال صغره، وإنْ لـم يبلغ سنّ الوحي) [سبل الهدى والرشاد ج11 ص26].

وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض العلماء من المخالفين استنكر الحديث، وردّ عليهم الحافظ ابن حجر العسقلانيّ، قال ابن حجر – بعد ذكر ثلاثة أحاديث -:

(وقد استنكر ابن عبد البر حديثَ أنس فقال - بعد إيراده في التمهيد -: « لا أدري ما هذا؟! فقد ولد نوح (ع) غير نبيّ، ولو لـم يلد النبيّ إلّا نبيّاً لكان كلّ أحد نبيّاً؛ لأنّهم من ولد نوح »، ولا يلزم من الحديث المذكور ما ذكره لِـما لا يخفى.

وقال النووي - في ترجمة إبراهيم من تهذيبه -: « وأمّا ما رُوي عن بعض المتقدّمين: « لو عاش إبراهيم لكان نبيّاً » فباطل، وجسارة على الكلام على المغيّبات، ومجازفة وهجوم على عظيم »، انتهى.

وهو عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنّه لم يظهر له وجه تأويله، فبالغ في إنكاره. وجوابه: أنّ القضيّة الشرطيّة لا تستلزم الوقوع، ولا نظنّ بالصحابي أنّه يهجم على مثل هذا بظنّه، والله أعلم) [الإصابة ج1 ص321].

الحاصل:

1ـ حديث « لو عاش إبراهيم لكان نبيّاً » لا يصحّ إسناده عند الإماميّة.

2ـ الحديث يصحّ عند المخالفين. وقد ردّ ابن حجر على مَن استنكره.

3ـ الحديث يدلّ على مكانة سامية لسيّدنا إبراهيم (عليه السلام)، وهو أنّ فيه قابليةً لأن يكون نبيّاً. كما أنّه يدلّ على عدم نبوّته الفعليّة؛ لأنّ نبوّته مشروطة بأن يعيش، وهو لَـم يعش.

4ـ اقتضت المشيئة الإلهيّة أن تُختم النبوّة بالنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وهذا من جملة خصائصه التي قامت عليها الضرورة بين المسلمين.

5ـ لَـم تُختم النبوّة لعدم وجود وريث مؤهّل لهذا المقام – كما في السؤال -، بل لأنّ الله تعالى شاء أن تُختَم النبوّة بالنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فلا يأتي نبيٌّ بعده.

6ـ الحديث يدلّ – كما في بعض ألفاظه – على أنّ سيّدنا إبراهيم (عليه السلام) لَـم يعش لأنّ الله تعالى شاء أن تُختَم النبوّة بالنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله)، إذ ورد: « لو قضي أن يكون بعد محمّد (ص) نبيّ عاش ابنه، ولكن لا نبيَّ بعده »، وهذا ينفي كون علّة ختم النبوّة هو عدم وجود الوريث - كما في السؤال -، وعليه: لو لَـم تُختم النبوّة بنبيّنا (صلى الله عليه وآله) لكان إبراهيم نبيّاً.

والحمد لله ربّ العالمين