هل نجح معاوية وفشل الإمام علي (عليه السلام)؟

السؤال: أيّ تقييم ماديّ لعصر الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه سيكون في صفّ معاوية لا في صفّ عليٍّ، فعليّ لم يستطع إقرار الأمن طوال فترة خلافته التي استمرت لأربع سنوات، ولم يمثّل قيادة زعاميّة لأنصاره كتلك التي مثلها معاوية، ففي حين تكتل أهل الشام خلف معاوية تفرّق أهل الأمصار عن عليّ، ثم افترق معسكر أنصاره فخرج منه الشيعة والخوارج، ثم اغتيل على يد الخوارج. في المقابل: استمرّ معاوية زعيماً محبوباً على أهل الشام، ثم حكم بعد عليّ لمدّة عشرين سنة استطاع فيها توحيد الأمة وإعادة عصر السيادة واستئناف الفتوح الإسلامية وتوسع الدولة.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

هذه الكلام مأخوذ من مقال تمّ نشره على موقع الجزيرة نت بعنوان (بصمتنا الأخلاقية) للكاتب محمّد إلهامي، حيث ناقش الكاتب في هذا المقال الفرق بين الحضارة الإسلاميّة والحضارة الماديّة العلمانيّة، وانتصر في هذا المقال للحضارة الإسلاميّة بوصفها حضارة قيميّة وأخلاقيّة.

وقد ذكر هذه المقارنة التي أجراها بين الإمام عليّ (عليه السلام) وبين معاوية؛ ليبيّن الفرق بين معايير الإسلام الأخلاقيّة وبين معايير العلمانيّة الماديّة، ولذا نجده علّق بعد هذا الكلام مباشرة بقوله: (هذا الذي تسوق إليه القراءة الماديّة (العلمانيّة) لَـم يعتنقه أحدٌ في أجيال المسلمين، بل ظلّ عليّ - رضي الله عنه - أجلّ وأعلى عند المسلمين من معاوية، بل تُجمع الأمّة على أنّ معاوية وأنصاره هم الفئة الباغية بنصّ معصوم من السنّة كشف عن هذه الحقيقة: « ويح عمّار، تقتله الفئة الباغية »، وعليّ هو خليفة المسلمين الراشد، في حين أنّ معاوية هو أوّل ملوك الإسلام غير المحسوب على الفترة الراشدة، وهي الفترة التي بدأ فيها انحلال عرى الإسلام بعروة الحكم. وهكذا كان للنصّ المعصوم أثره الواضح في الانحياز الفكريّ والشعوريّ واختيار الموقف الأخلاقي للأمة كلّها).

ومن هنا، نحن لا نتعامل مع كاتب هذه العبارات على أنّه معادٍ للإمام عليّ، أو أنّه يسعى للانتقاص من قدره ومنزلته، ولذا سوف نكتفي بالإشارة إلى زاوية واحدة تكشف الفرق الشاسع بين عليّ (عليه السلام) وبين غيره من الخلفاء، إذ التفصيل في هذه المسألة يحتاج إلى موسوعات.

إنّ الدارس للتاريخ يعلم أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) لَـم يكن رجل سياسة بالمعنى المتعارف للسياسة، وإنَّما كان إمام حقّ يهدي الناس إلى سبل السلام، فلم يكن في قاموسه المداهنة على حساب الحقّ، أو المجاملة في الدين، ولَـم يكن في أدبيّاته السياسيّة تقديم المغريات لمن يشكّل خطراً على خلافته، ولذا كان يقول: « والله ما معاوية بأدهى مني، لكنّه يمكر ويغدر، ولولا مخافة الله لكنتُ أدهى العرب ».

وبالتالي جوهر المشكلة بين الإمام عليّ (عليه السلام) وبين مَنْ عاصرهم، هي ذاتها جوهر المشكلة بين الدنيا والآخرة، فقد كان الإمام عليّ (عليه السلام) يريد الدين، وكان القوم يريدون الدنيا، وما وقع بينهم من صراع لابدّ أنْ يُفهم بوصفه صراعاً بين الإسلام كما أراده الله تعالى، وبين الإسلام كما أرادوه أن يكون، فكان الإمام يسعى ليذوب هو ومَن معه في الإسلام، وكان الآخرون يريدون أن يذوب الإسلام فيهم، وما وقع في التاريخ من أحداث هو مجرّد انعكاس لهذه التوجهات.

وعندما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) موجوداً بين ظهرانيّ هذه الأمّة، كان من الصعب عليهم توظيف إيمانهم وإسلامهم لأجل ذواتهم، وبمجرّد انتقاله الى الرفيق الأعلى وقبل أن يُدفَن، تسارع القوم لتوظيف السابقة والهجرة وحتى القرشيّة من أجل الاختصام السياسيّ في السقيفة، فكانت هي بداية جعل الدين مطيّةً لمصالح سياسيّة، وإلّا مَنْ يستطيع الادّعاء بأنّ الإسلام أراد منهم السقيفة، أو أرادهم أن يقدّموا المهاجرين على الأنصار، أو قريش على بقيّة العرب؟

ففي حقيقة الأمر هم الذين أرادوا أن تكون لهجرتهم ثمنٌ، ولقرشيتهم مزيةٌ، ولسابقيّتهم منزلةٌ، وهكذا سُخِّرَ الإسلام من أجل توسعة النفوذ وبسط الهيمنة وامتلاك الأموال والجواري. وما فعله عثمان مع بني أميّة مثال واضح لتسخير عرش الخلافة من أجل جماعة كان كلّ هدفها تحقيق أطماعها، واستمرّ الأمر حتّى أصبح الإسلام مطيّة لبني أمية، ومن بعدهم لبني العباس وكلّ الأنظمة التي تحكم إلى يومنا هذا.

وقد وقف الإمام عليّ (عليه السلام) أمام كلّ هذه المحاولات التضليليّة حتّى يكون للإسلام وجود، فأرادوا أن يعيبوا عليه بأنّه لا خبرة له في السياسة، إلاّ إنَّه قد عاب عليهم بأنّهم لا خبرة لهم في الإسلام.

وعلى الرغم ممّا قام به الإمام عليّ (عليه السلام) من جهود جبّارة، إلّا أنّ مغريات الدنيا كانت أعظم، فتربّع معاوية على عرش الإسلام، وأصبح الدين في بلاط قصره يشرعن كلّ سياساته، وفي عام الجماعة سنة 41هـ، أعلن معاوية بشكل رسميّ هويّة الإسلام المعتمد، وأصبح الدين الذي يرتضيه السلطان هو الدين الرسميّ لجميع المسلمين، ومَنْ يعارضه يُقتَل حتّى إنْ كان ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعظم الناس إسلاماً وإيماناً.

فالدنيا هي التي قرّبت معاوية وأبعدت الإمام عليّ (عليه السلام)، أو كما قال بعضهم: (الصلاة خلف عليّ أتمّ والأكل مع معاوية أدسم)، فالقليل مَنْ كان مستعدّاً للتضحية بالدنيا من أجل الآخرة، إذ كيف يصبروا مع الإمام عليّ (عليه السلام) وهم يسمعونه يقول:

« أيّها الناس، إنَّما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعليّ ما عليكم... ألا إنّ كلّ قطيعة اقتطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردودٌ في بيت المال فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوّج به النساء وملك به الإماء وفرق في البلدان لرددتُه، فإنَّ في العدل سعة، ومَن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.

أيّها الناس، أَلَا يقولنّ رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فامتلكوا العقار، وفجّروا الأنهار وركبوا الخيل واتّخذوا الوصائف المرققة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا.

أَلَا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرى أنّ الفضل له على مَن سواه لصحبته، فإنّ له الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله.

وأيّما رجل استجاب لله وللرسول، فصدّق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده.

فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسّم بينكم بالسويّة، لا فضل فيه لأحد على أحدٍ، وللمتّقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب، لَـم يجعل الله الدنيا للمتّقين أجراً ولا ثواباً، وما عند الله خير للأبرار.

ثمّ قال: يا معشر المهاجرين والأنصار، أتمنّون على الله ورسوله بإسلامكم؟ بل الله يمنّ عليكم أنْ هداكم للإيمان إنْ كنتم صادقين.

ثمّ قال: أَلَا إنّ هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خُلِقتُم له، فلا تغرّنّكم فقد حُذِّرتموها، واستتمّوا نِعمَ الله عليكم بالصبر لأنفسكم على طاعة الله والذل لحكمه جل ثناؤه.

فأمّا هذا الفيء فليس لأحد على أحدٍ فيه أثرة، فقد فرغ الله من قِسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبيّنا بين أظهرنا، فمَن لَـم يرضَ به فليتولّ كيف شاء، فإنّ العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه ». [شرح نهج البلاغة ج1 ص230].

وعندما نهض الإمام عليّ (عليه السلام) بالحكم نكثت طائفة ومرقت أخرى، أو كما قال (سلام الله عليه): « فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أُخرى، وفسق آخرون، كأنّهم لَـم يسمعوا الله سبحانه إذ يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليَت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها ».

وعندما لَـم يجد القوم دنياهم عند عليّ (عليه السلام) تكالبوا عليه، وأفسدوا عليه أمره، ولَـم يفسحوا له المجال ليقيم حكم الله فيهم.

وإنْ كان هناك مَن يستحقّ الإدانة، فهي هذه الأمّة التي فضّلت دنياها على آخرتها، وباعت إسلامَها بدنيا بني أميّة، وإلّا كيف نفهم اجتماع هذه الأمّة على قتل الإمام الحسين (عليه السلام)؟ وكيف تخاذلت عن نصرة ابن بنت رسول الله وسيّد شباب أهل الجنة؟ أليس هذا دليلاً كافياً على انحراف الأمة عن دينها وإسلامها؟

فمَن فشل في اختبار الإسلام هم كلُّ مَنْ خالف أهل البيت (عليهم السلام)، والذي نجح هم أهل البيت (عليهم السالم) وشيعتهم المخلصون.